كان لافتاً أن يقرر الرئيس ُورُ بوش المشاركة بنفسه في تشييع جثمان البابا يوحنا بولس الثاني، وأن يشيد بالبابا الراحل قائلاً إنه"أثبت للناس أن رجلاً واحداً يمكن أن يغير حياتهم، كما أنه كان رجل سلام يمقُت الحرب". وفي المؤتمر الصحافي نفسه، سئل جورج بوش عن الوزن الذي يعطيه لمعارضة البابا لحرب العراق. فأجاب:"البابا كان مؤثراً. مفهوم. لكن هل كانت معارضته لحرب العراق مؤثرة؟ لا إجابة. دعونا نغير الموضوع". بالطبع، فإن"تغيير الموضوع"هو أسلوب ُورُ بوش وإدارته، كلما بدأ الحصار. الموضوع في العراق كان أسلحة دمار شامل. حينما تبين كذبها تغير الموضوع إلى علاقة صدام حسين بأسامة بن لادن والقاعدة. وحينما تأكد الكذب أيضا تغير الموضوع إلى نشر الديموقراطية. وعلى حد تعبير وزير خارجية فنزويلا، فإن الولايات المتحدة"نشرت من الدماء في الشرق الأوسط أكثر مما نشرت من ديموقراطية". بابا الفاتيكان كان من اللحظة الأولى ضد غزو العراق أميركياً. في الواقع أن الفاتيكان أعلن صراحة أن تلك الحرب غير مشروعة ولا عادلة. وزيادة في التأكيد أوفد البابا مبعوثاً خاصاً منه إلى جورج بوش عشية الحرب لإبلاغه بالموقف رسمياً. كان الزعيم السوفياتي الراحل ُوزيف ستالين يقلل من شأن بابا الفاتيكان بتساؤله الساخر: كم لدى البابا من دبابات؟ وُورُ بوش لم يسخر من البابا. لكن النتيجة واحدة. حرب العراق"غير المشروعة ولا العادلة"مضت في طريقها. وبعد 34 شهراً خرج تقرير رسمي أميركي ليعلن أنه لم تكن لدى العراق من الأساس أسلحة دمار شامل. كان هذا واحداً من أربعة تحقيقات كلف آخرها عشرة ملايين دولار واستغرق 14 شهراً، كي يقرر في النهاية أن كل المعلومات عن العراق كانت غير صحيحة. مع ذلك فالرئيس جورج بوش أصبح في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، معتبراً ذلك إقراراً من الشعب الأميركي بصحة سياساته. وشرعت إدارته الثانية في مكافأة دعاة الحرب ومهندسيها بمناصب رفيعة تبدأ من وزارة الخارجية إلى الأممالمتحدة إلى البنك الدولي. لم يكن تعيين بول وولفويتز على وجه الخصوص رئيسا للبنك الدولي مفاجئا تماما. قد لا يكون خبيرا اقتصاديا لكنه أبرز من روّجوا من البداية لفكرة أن غزو العراق سيغطى تكاليفه ويحقق أرباحه من عائدات بترول العراق. ربما لم يتحقق هذا بالكامل حتى الآن، لكن فكرة تحويل الحرب إلى مشروع استثماري تعتمد بطبيعتها على المدى الطويل. في الماضي كانت الشركات تسبق الإمبراطورية وفى أعقابها تذهب الجيوش لحمايتها. هذا ما فعلته بلجيكا في الكونغو، وهولندا في جزر الهندالشرقية، وبريطانيا في احتلال الهند، وبريطانيا مرة أخرى في احتلال مصر. في الحال الأخيرة جرى إغراق مصر بالديون أولاً، وتحت ضغطها اشترت بريطانيا حصة مصر في أسهم شركة قناة السويس وبعدها ذهبت جيوش الإمبراطورية إلى مصر بحجة حماية شركة قناة السويس، ما أدى إلى احتلال لمصر استمر 74 عاماً. في الحال الإمبراطورية الأميركية، نجد الوضع معكوساً، على الأقل في سنوات جورج بوش. الجيش الإمبراطوري يذهب أولاً وفي أعقابه المصالح الاقتصادية. في الواقع إننا لا يمكن أن نفهم الأبعاد الكاملة لعقيدة الحروب الاستباقية والوقائية التي طرحتها إدارة جورج بوش إلا بالمزج بين الجغرافية السياسية والجغرافية الاقتصادية. وحتى قبل أن يصبح ُورُ بوش رئيساً، هناك مجلس الأمن القومي الأميركي وهو تحت الأضواء منذ أوائل السبعينات على الأقل. وفيه تجرى صناعة الإستراتيُية السياسية والعسكرية الحقيقية للولايات المتحدة. لكن هناك أيضا المجلس الاقتصادي القومي، البعيد عن الأضواء، وفيه تتقرر المصالح الاقتصادية الأميركية الحقيقية حول العالم. ومنذ تسعينات القرن الماضي، عرفنا أن هذا المجلس لديه غرفة عمليات حقيقية تتضمن خرائط وبيانات عن الأسواق المطلوب فتحها طوعاً أو قسراً أمام المصالح الأميركية. بما في ذلك الأسواق الناشئة أو تلك التي تتجه أهميتها إلى التزايد مستقبلاً. الفارق بين الإمبراطورية الأميركية وما سبقها من إمبراطوريات، هو توفر أدوات إضافية للسيطرة لم تكن موجودة سابقاً. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية قامت أميركا المنتصرة بهندسة النظام الاقتصادي العالمي الجديد وأدواته هي صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، واتفاق "الجات" الذي تحول حالياً إلى منظمة التجارة العالمية. حينها، رفض الاتحاد السوفياتي الدخول بقدميه إلى تلك الشبكة من الهيمنة الأميركية فعجّل هذا بالمواجهة التي عرفت لاحقا باسم الحرب الباردة. في الحرب الباردة، كان هناك جانب ظاهر للعيان هو الوجه الإستراتيجي/ السياسي/ العسكري للمواجهة. لكن كان هناك أيضا، بل وجوهريا، الجانب الاقتصادي. فالرأسمالية الأميركية تريد من الإمبراطورية أن تشق لها الطريق وتفتح لها الأسواق وتضاعف الطلب على منتجاتها. لكن استعصاء الحسم السريع والصراع المكتوم على أوروبا والهزيمة الأميركية في فيتنام أرغمت أميركا على حماية رأسماليتها من نفسها. في أوروبا لم تطرح أميركا نموذجها الرأسمالي بديلا عن الاقتصاد الشيوعي. طرحت ودعمت النموذجين الألماني والفرنسي كبديلين أكثر إغراء، تقوم فيهما الدولة بدور فعال، بل وقائد، في التنمية الاقتصادية مع مسؤوليات اجتماعية كانت الرأسمالية الأميركية تتأفف منها في بلدها. وفي آسيا، طرحت أميركا النموذج الياباني من الرأسمالية وبعده نموذج دول"النمور الآسيوية"الذي بدأ بدول قليلة السكان يمكن من خلالها تقديم نموذج أكثر إغراء من النموذج الصيني في التنمية. وفي كل الحالات، لم يكن هناك حديث بالمطلق عن تجارة حرة أو أسواق مفتوحة. على العكس، سواء بدأنا بألمانيا وفرنسا أو من اليابان، فإن القيود الصارمة على الاستهلاك والاستيراد وتحويل العملة استمرت قائمة لأكثر من ثلاثين عاماً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن التحول الكبير بدأ بسقوط حائط برلين وانسحاب الاتحاد السوفياتي من أوروبا الشرقية ثم تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه إلى شظايا. من هنا عاد النموذج الأميركي من الرأسمالية إلى ساحة المواجهة. عادت الرأسمالية المتوحشة. إنها لا تريد التخفف من مسؤولياتها الاجتماعية داخل بلدها فقط، ولكنها تلح بنموذجها على الآخرين. وحينما جرت الأزمة الاقتصادية الكبرى في دول جنوب شرق آسيا في العام 1997، اكتشف العالم فجأة أن ما كان يسمى "النمور الآسيوية" تبخر في طرفة عين. والسبب هو أن تلك الدول كانت التزمت أخيراً بوصايا صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ورفعت القيود التي أصبحت نمورا اقتصادية بفضلها. في حينها، لم ينج من ذلك الزلزال الآسيوي سوى ماليزيا لأن رئيس وزرائها، آنذاك، مهاتير محمد لم يجد غضاضة في إعادة القيود السابقة على خروج ودخول رؤوس الأموال. غير مكترث بلعنات صندوق النقد الدولي وجورج سوروس وأمثاله. من هنا فقط، كانت ماليزيا هي الدولة الأولى التي تسترد عافيتها في وقت قياسي. أما بقية"النمور الآسيوية"، فاضطرت إلى بيع استثماراتها الكبرى"برخص التراب". ولم يكن المشترى سوى الشركات الأميركية عابرة القارات. بأحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، رأى دعاة المشروع الإمبراطوري الأميركي الفرصة ذهبية لفرض نظامهم العالمي الجديد بأضلاعه الثلاثة: الإستراتيجي/ العسكري/ الاقتصادي. وتحت عنوان الحرب على الإرهاب ثم الحرب من أجل نشر الديموقراطية، جرى غزو أفغانستان، واحتلال العراق، وإحاطة الصين بثلاثة عشر قاعدة عسكرية جديدة، وإحاطة روسيا بنظم انضمت أو ستنضم إلى منظمة حلف شمال الأطلسي. وتحت شعار اقتصاد السوق وحرية التجارة زادت من ضغوطها في أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط من أجل"خصخصة"المشروعات الاقتصادية الكبرى وضمان حرية خروج رؤوس الأموال ودخولها. في الحال اللاتينية رأت الدول المعنية أمام عينيها ما أدى إليه اقتصاد السوق والخصخصة بالمفهوم الأميركي من"خراب مستعجل"للأرجنتين لحساب الشركات الأميركية. من هنا رفضت دول أميركا اللاتينية الدخول في منطقة تجارة حرة مع أميركا إلا بشروط ترفضها تلك الأخيرة. وفي الحال الآسيوية، تحركت الصين لقيادة مجموعة من الدول في تجمع اقتصادي أكثر ترابطا من"منتدى التعاون الاقتصادي"الذي يضم أميركا. ففي التجمع الجديد لا توجد أميركا، ومن هنا فهي تعترض عليه من باب:"فيها... أو أخفيها". السطوة الأميركية في أميركا اللاتينية لم تحقق أي نجاح حتى الآن، بدليل نجاح البرازيل في قيادة دول عدة للدفاع عن مصالحها في مواجهة الرأسمالية الأميركية المتوحشة. في الحال الآسيوية لا تستطيع أميركا تصعيد المواجهة لأنها في أمس الحاجة إلى تدفق 600 مليار دولار إليها من الخارج سنويا كاستثمارات. معظمها يأتي من دول آسيوية، في مقدمها الصين. فقط في الشرق الأوسط، تشق الهيمنة الأميركية طريقها بنجاح لافت. حتى الآن، الشعار هو الديموقراطية، وهي بحد ذاتها شيء جيد ومطلوب. لكن أميركا الراهنة تستخدم عصا حرب العراق لسوق دول المنطقة إلى الجنة الموعودة. سابقًا قال ريتشارد بيرل أحد منظري الحروب الاستباقية الأميركية:"إننا بعد غزو أفغانستان وحرب العراق لم نعد في حاجة في مواجهة الدول العربية إلى أكثر من سياسة تقوم على جملة واحدة، افعلوا كذا وكذا. وإلا فالدور عليكم". أحد أتباع بيرل قال أخيراً في برنامج تليفزيوني موجه إلى المشاهدين العرب:"إنني فخور بترويجي لحرب العراق من البداية"، فإضافة إلى الحرب بحد ذاتها نجح جورج بوش في فرض مناخ من الخوف على النظم العربية القائمة بما يدفعها إلى التغيير. وإلا سيتم تغييرها. الرئيس جورج بوش لم يكن أقل وضوحاً فأعلن أخيراً أنه من الآن فصاعداً"ليست هناك حصانة للدول العربية، بما فيها الحليفة للولايات المتحدة، ضد التغيير". والتغيير المطروح أميركياً ينتحل غطاء نشر الديموقراطية لزوم الكاميرات والاستهلاك الدعائي. لكن هذا يعيدنا إلى الحرب كمشروع استثماري. على مستوى العراق، جرى وضع اليد من البداية على البترول ولم تعد أية سلطة عراقية تعرف بالمرة كم يتم استخراجه من بترول ولا إلى أين تذهب عوائده. بول بريمر الحاكم المدني السابق للعراق الذي كرمه بوش بأعلى وسام أميركي له تصريحات معلنة بأنه في نهاية المطاف يجب خصخصة كل الاقتصاد العراقي وفي المقدمة قطاع البترول. هذا القطاع تحديدا تضغط أميركا لخصخصته في كل دول الخليج، بما يعنى عملياً عودة السيطرة الأميركية المباشرة وفرض اقتصاد السوق بمفهوم الرأسمالية المتوحشة. هو مفهوم لم يعد يعنى فقط بيع المشروعات الكبرى برخص التراب. في الحال المصرية مثلاً، يعني أيضا بيع بنوك القطاع العام برخص التراب وهي أساسا مستودع لمدخرات المصريين. وفى الشهور الستة الأخيرة، أصبح يعني كذلك تحولات جذرية كان أحد تجلياتها اتفاقية"الكويز"التي جعلت إسرائيل لأول مرة جزءاً عضويا من الاقتصاد المصري واختزلت مصر إلى مستوى الدخول إلى السوق الأميركية من باطن إسرائيل، بالضبط كما الأردن وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني تحت الاحتلال. وفي الشهور الستة الأخيرة فقط، عجلت الحكومة المصرية فجأة بسرعة بيع الشركات العامة، خصوصا الناجح والرابح منها، بأقل من قيمتها. بحجة تشجيع الاستثمار الأجنبي. نفس لغة الشفرة التي تعني عمليا: استرضاء أميركا. بالحجة نفسها أيضاً تعاقدت الحكومة مع ثلاث شركات أجنبية لجمع القمامة من القاهرة والإسكندرية ومدن أخرى مقابل رسوم تفرضها الحكومة على المواطنين ضمن فواتير الكهرباء، لحساب الشركات الأجنبية. حينما اشتكى المواطنون قانونياً من هذا القهر وقررت المحكمة العلياً عدم دستورية هذا الأجراء الشاذ لم تعد الحكومة إلى الحق. عادت إلى البرلمان الذي تسيطر عليه بغالبية كاسحة واستصدرت منه قانوناً بفرض تلك الرسوم إجبارياً على المواطنين كإتاوات تعسفية تقوم الحكومة نفسها بتوريد حصيلتها إلى الشركات الأجنبية. كان هذا بحد ذاته تطوراً يتنافى مع المنطق الرأسمالي ذاته، فالحكومة هنا لم تعد حكماً بين المواطن وشركات قطاع خاص. وإنما تتصرف كسلطة قمع وجباية تفرض ضرائب لحساب شركات قطاع خاص... أجنبية. امتياز غير مسبوق لم يحصل عليه سابقا القطاع الخاص المصري، ولا في أيام سطوة بريطانيا العظمى. هذا حدث في جمع القمامة، التي هي ليست قناة سويس أممتها مصر سابقاً وأدارتها بكفاءة شهد بها العالم، كما أنها ليست السد العالي في أسوان الذي أقامته مصر، وبفضله احتمى المواطن المصري من مجاعة لسبع سنوات سابقة شملت الدول التي تمر بها مياه نهر النيل في أفريقيا. كاتب مصري.