تعج الكتابات الأدبية في زماننا، وربما في كل زمان، بما هو متطفل على الأدب، أي بما لا يملك الحد الأدنى من المقومات الأدبية. فلو تتبعنا اليوم ما يصدر عندنا من مؤلفات في الأدب على أنواعه، وقد بات اصدار الكتب من الأمور اليسيرة جداً، لوجدنا ان الغالبية العظمى من الاصدارات تتوسل الأدب ولا تحققه، أو انها ترمي اليه وتتوهم تحقيقه أو تدّعيه. فالكثيرون من الكتاب والمؤلفين يحسبون ان الأدب يتأتى لهم لمجرد أنهم يمتلكون افكاراً، أو يصدرون عن عواطف أو مواقف معينة. إن الافكار والعواطف والمواقف ضرورية لتشكيل الرؤى التي يمكن للأدب ان يقوم عليها او ينطلق منها، الا انها لا تكفي لانشاء اعمال أدبية، اذا لم تتهيأ لها طرق خاصة ومتميزة في التعبير. فالبوح بما يخطر في الذهن، أو يعتمل في الصدر، لا يأخذ دائماً سبيله الى الأدب، وانما قد يتم التعبير عنه بأساليب غير أدبية، أو بوسائل تبتعد قليلاً أو كثيراً عن طبيعة الأدب وتقنياته ومناخاته. لنتكلم مثلاً على ما يصدر اليوم عندنا من روايات. ولنلاحظ اولاً ان الكتابة الروائية العربية تشهد في أيامنا هذه توسعاً أفقياً كبيراً، بعدما أصابها الكثير من الاستسهال. ان معظم الكتّاب الروائيين عندنا يحسبون ان الفن الروائي يتأتى لهم بمجرد ان تكون لديهم حكايات يرغبون في الادلاء بها. وغالباً ما يجد الواحد من هؤلاء الكتّاب في سيرته الذاتية ما يكفي لتأليف العديد من الروايات، فيدأب على الاحتفاء بنفسه متذكراً، أو شاهداً على حوادث معينة, أو آخذاً بطرف من تجربة سياسية او حزبية خاض غمارها أو عايش ظروفها. ان هذا كله ليس سلبياً من حيث المبدأ, اذا ما اقترن بامكانات فنية لدى الكاتب، تسمح له بخلق عالم روائي يستند الى تجارب فردية او جماعية. اما اذا كانت الامكانات الفنية ضئيلة أو شبه معدومة، فإن الكتابة السردية تغدو تطاولاً على الفن الروائي، ولا تعدو كونها شبيهة بالتوثيق او التحقيق الصحافي في أحسن الاحوال. يقودنا الكلام ? في ما سبق ? الى التوقف عند اثر سلبي للسياسة على الأدب. فكثيرون هم الاشخاص الذين لجأوا الى الأدب، وخصوصاً السردي منه، قصة كان أو رواية، لكي يعبّروا عن مواقف سياسية تبنوها، أو عن افكار اعتنقوها. وذلك ظناً منهم ان هذه المواقف أو الافكار لها من الأهمية ما يجعلها جديرة بأن يكون الأدب في خدمتها. وكأن الادب ليست له قضية في ذاته، بل قضيته ان يروّج لمواقف من هنا او الأفكار من هناك. هذه النظرة تدل على قصور فاضح في فهم الأدب وقضاياه، وهي التي جعلت ساحته مستباحة للمتطفلين، الذين يفتقرون الى الحد الأدنى من مقومات الكتابة الأدبية. ان الكتابة الروائية تحتاج الى معارف عميقة ومتنوعة لدى الكاتب، كما تحتاج الى براعة لديه في انشاء الحبكة او الحيلة الفنية التي هي مدعاة الجاذبية والمتعة بالنسبة الى القارئ. وتحتاج ايضاً الى رهافة ونفاذ في الرؤيا وفي اختيار الموضوع. وهذا كله نجده في الروايات الناجحة التي تحتضن تجارب حية للأفراد والجماعات، فتزخر بالمواقف والأفكار والعواطف على نحو تلقائي، دون توسل أو افتعال او ابتذال. تكلمنا على الكتابة الروائية، ويمكننا ان نتكلم في الاتجاه نفسه على الكتابة الشعرية، وغيرها من فنون الكتابة المعاصرة. فالتوسع الأفقي في الرواية يماثله توسع أفقي في الشعر، ناتج هو الآخر عن اعتقاد الكثيرين من الكتّاب بأن التجارب العاطفية لديهم تكفي لانشاء القصائد. وليس الأمر هنا مقتصراً على تجارب الحب، وإن كان هذا الأخير هو الدافع الاساس الى كتابة الشعر لدى المتطفلين، أو المبتدئين الذين يفتقرون الى أبسط المقومات التي تحتاجها كتابة الشعر. ان التجارب الحقيقية، أو الحية، مفيدة بل ضرورية لكل كتابة أدبية، وبالأخص للكتابة الشعرية، الا انها ليست كافية في ذاتها لكي تجعل من اصحابها شعراء بالمعنى الفني، أي أصحاب صنعة أو طريقة في التعبير الشعري. الأدب فن أولاً وأخيراً. والبلاغيون العرب القدامى كانوا يعدونه صنعة أو صناعة، بل هم جعلوا الأدب في صناعتين: صناعة الشعر وصناعة النثر. وليس أدلّ على ذلك من"كتاب الصناعتين"لأبي هلال العسكري. وصاحب الصنعة عليه ان يتحلى بالموهبة والاتقان والتمرس، لكي يتمكن من التعبير جيداً عن الافكار والمواقف والعواطف والتصورات... وغيرها. اما هذه الأخيرة، فلا تستطيع وحدها، من دون المقومات التي أتينا على ذكرها، ان تصنع أدباً. الناس جميعاً يمتلكون الأفكار والمواقف والعواطف وما شابه، الا انهم لا يستطيعون ان يكونوا جميعاً أدباء او شعراء أو روائيين... الخ. الاحساس شيء، والتعبير عنه شيء آخر. الأول عام، لا يفتقر اليه أحد من الناس. اما الثاني فخاص، ولكي يكون أديباً على صاحبه ان يحسن امتلاك وسائله، وان يتقن استخدام هذه الوسائل. لا يستطيع الأدب ان يخلو من الافكار والعواطف. ولكن الافكار والعواطف لا تجد سبيلها الى الأدب، الا اذا تهيأ لها الأدباء المتمكنون من أدواتهم التعبيرية. اما الكتّاب الذين لا يملكون سوى الرغبة في البوح عن تجاربهم الفكرية او العاطفية، فإنهم ? وإن كانوا من المؤلفين أو مصدري الكتب - لا يعبرون الا عن أوهام في الأدب، أو بالأحرى حيال الأدب.