أجل لقد تكلم الرئيس... ولكن هل ستتفق الآن أفعاله مع أقواله؟ هذا هو السؤال البسيط الذي يطرحه كل معني بشؤون الشرق الأوسط. ففي خطابه عن"حال الاتحاد"يوم 2 فبراير شباط الماضي صرح بوش بأن ما يهدف إليه هو"دولتان ديمقراطيتان، فلسطين وإسرائيل، تعيشان بسلام جنباً إلى جنب."وقد أضاف إلى ذلك في خطاب له في بروكسيل نبرة استعجال إذ قال"إن فرصتنا الكبرى وهدفنا الفوري هو السلام في الشرق الأوسط". ثم دعا إلى"فلسطين جديدة تكون فعلاً قابلة للحياة في أرض متصلة في الضفة الغربية"، ثم أضاف مثيراً استغراب أكثر المراقبين قائلاً:"أما دولة بأراض مشرذمة فلن تفي بالغرض"، ولا بد لإسرائيل أن تجمد أنشطتها الإستيطانية. لم يكن الرئيس بوش يوماً أكثر صراحة ووضوحاً، فما الذي ينوي فعله؟ هناك أربعة استنتاجات محتملة يمكن استخلاصها من ملاحظاته: الأول : يبدو الرئيس بوش وكأنه فهم أخيراً المشكلة الفلسطينية - الإسرائيلية، ما يعني أنه قد استوعب عناصر الموضوع جيداً. فمن ترى هو الذي تولى هذه المهمة، أهي كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية أم هو توني بلير رئيس الحكومة البريطانية؟ من المعلوم أن بلير ألح كثيراً لدى الرئيس بوش على هذا الموضوع، وهو بعدما دعم بوش في حرب العراق ينتظر مكافأة سياسية هو بأمس الحاجة إليها في مواجهته للانتخابات التشريعية المرجح اجراؤها يوم 5 مايو أيار المقبل. وفي مقابلة مع صحيفة"فاينانشال تايمز"اللندنية يوم 26 يناير كانون الثاني الماضي، توقع بلير"تطوراً"في السياسة الأمريكية إذ قال"سترون في الأسابيع القليلة المقبلة أن هنالك اتجاهاً واضحاً جداً تسلكه أميركا". فهل ترى نحن أمام هذا"التطور"الآن؟ الثاني : يبدو أن الرئيس بوش يدرك الآن بأنه لا بد من جهد حازم لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي، وأن هذا الجهد شرط أساسي لكسب"الحرب الشاملة على الإرهاب". وهذا بحد ذاته هو تغيير واضح للموقف الذي كانت عليه واشنطن ترفض أي ربط بين السياسات الأميركية في الشرق الأوسط والهجمات الإرهابية التي تعرضت لها أميركا. الثالث : ويمكن أن نستدل من خطاب بوش في بروكسيل أنه بدأ يتقبل فكرة أن تحسين العلاقات مع أوروبا - الذي يبدو أنه أمر يحبذه ويريده - يتوقف على التقدم في مسيرة السلام في الشرق الأوسط. ويشار في هذا الصدد إلى التصريح الذي سبق لوزير الخارجية الفرنسية ميشيل بارنييه أن أدلى به والذي قال فيه أن الاختبار الحقيقي لتحسن العلاقات بين ضفتي الأطلسي هو في التحرك نحو حل الفضية الفلسطينية - الإسرائيلية. الرابع : لا بد أن ملاحظات بوش تعتبر تحدياً لرئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون، إذ يجمع المراقبون على أن شارون استغفل بوش في ولايته الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر حين كسب أذنه حين ساوى بين المقاومة الفلسطينية والإرهاب الدولي، وحين مضى بعد ذلك في بناء المستوطنات غير عابئ بتحذيرات بوش. وربما كان الرئيس الأميركي يسعى الآن إلى تأكيد سلطته وتثبيتها إزاء حليف صغير ولكنه عنيد. فإذا ما صحت هذه الاستنتاجات، فمعنى ذلك أنها تشير إلى تغيير حقيقي في تفكير البيت الأبيض وتشير أيضا إلى هبوط نفوذ المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل - على الأقل بالنسبة لهذا الموضوع - الذين يحتلون مراكز رئيسية في البنتاغون وفي مكتب نائب الرئيس، هذا بالإضافة إلى خلايا التحليل والتفكير اليمينية في واشنطن. وكأن هنالك تبادلاً وتوازناً جديدان في المواقف، إذ نرى أميركا تمارس ضغطاً على سورية وإيران - الأمر الذي يرضي إسرائيل - ولكنها مقابل ذلك تطالب إسرائيل بتنازلات على صعيد الموضوع الفلسطيني. ثمن السلام يبدو أن ما يقوله بوش لشارون هو أن الانسحاب من غزة ومن أربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربية لن يكون كافياً. وقد يقاوم المستوطنون نقلهم بل وقد يلجأون إلى العنف، ولكن لا بد من هزيمتهم ولا بد من أن يتلو الانسحاب من غزة انسحاب آخر في وقت ما من الضفة الغربية. هذا ما سوف يعتبر اختباراً حقيقياً لل"تطور"في السياسة الأميركية الذي يتنبأ به بلير بكثير من التفاؤل. وهو أيضاً اختبار لإرادة بوش السياسية، فما لم يتم نقل جميع المستوطنات لن تكون هناك دولة فلسطينية على تراب وطني متصل في الضفة الغربية، وبالتالي لن يكون هناك سلام. يقول أوري أفنيري، الناشط المعروف من أجل السلام والمتابع بدقة تحركات وتصرفات شارون أنه لا يصدق بأن هذا الأخير قد تغير."إذا جرى ضم كل المستوطنات التي أنشئت لإسرائيل، فمعنى ذلك أن الأراضي الفلسطينية سوف يتم تقسيمها إلى قطع صغيرة أشبه بالكانتونات، وربما كان عددها أربعة أو ستة. وأما قطاع غزة المعزول أصلا وكأنه"غيتو"فسيكون هو الكانتون الإضافي. وكل من هذه الكانتونات محاط بالمستوطنات والمنشآت العسكرية وجميعها معزول عن العالم الخارجي". ليس هذا بالطبع مضمون رؤية الرئيس بوش، فإذا كان جادا فعليه التحرك بسرعة. فشارون يستعجل استكمال بناء الجدار العازل الذي سيمتص ما يعادل 7 أو 8 في المئة من الضفة الغربية. أما المؤتمر الدولي الذي دعا إليه توني بلير في لندن والذي استمر يوما واحدا بتاريخ أول مارس آذار الجاري، فلن يوقف استيلاء إسرائيل على الأراضي ولكنه سوف يذكر شارون بأن أمريكا، شأنها شأن معظم دول العالم، ملتزمة بحل النزاع على أساس قيام دولتين، ولذا فإن كل استيطان يهودي يعيق مثل هذا الحل محكوم عليه بالزوال يوماً ما. ولا شك أن حضور وزيرة الخارجية كونوليزا رايس وكوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة والمسؤول عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، سيوجه رسالة واضحة لإسرائيل بأن وقت اتخاذ"القرارات الصعبة"قد اقترب. ويصمم محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية الذي ذهب أيضاً إلى لندن على أن يبرهن للعالم بأن الفلسطينيين، رغم العملية الانتحارية التي وقعت في تل أبيب يوم الجمعة الفائت، سيصلحون مؤسساتهم وسيكونون شركاء مسؤولين في السلام. فخلاصة رسالته إذن هي أن السلام فرصة متوفرة شريطة أن تدفع إسرائيل الثمن بإنهاء الاحتلال. سوريا وعملية السلام ربما كان الرئيس بوش قد الم بالعناصر الأساسية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنه لا يزال بعيدا عن الإدراك بأنه لا بد ايضاً من ضم سورية إلى عملية السلام، فبدونها لن يكون هنالك سلام حقيقي في المنطقة. إن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت سورية تتمسك بلبنان طوال هذه السنين، بل أن السبب الأهم للأزمة الحالية في العلاقات بين البلدين هو اعتقاد سورية بأن عليها الحؤول بأي ثمن دون عقد لبنان صلحاً منفرداً مع إسرائيل. فمثل هذا الصلح المنفرد يؤدي إلى تهميش موضوع الجولان وإلى فتح الباب أمام النفوذ الإسرائيلي في بيروت، الأمر الذي من شأنه أن يعرض سورية لخطر حقيقي. فلا تزال المحاولة الأميركية - الإسرائيلية التي أعقبت احتلال لبنان عام 1982 لدفع لبنان في الفلك الإسرائيلي، لا تزال في أذهان السوريين. فقد استطاعت سورية وحلفاؤها في لبنان إجهاض اتفاق 17 مايو أيار 1983 وانتزعت لبنان من البراثن الإسرائيلية. ولسوف تجد كل هذه المشاكل حلا إذا ما أدركت واشنطن بأن العمل على تحقيق السلام في الشرق الأوسط يجب أن يكون شاملاً وليس مجزءاً. أجل لا بد أن يشمل جميع اللاعبين وأن يتطرق إلى ويحل جميع المطالب. ولعل العيب الفاضح في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط هو اتهام سوريا وإيران بأنهما من الشياطين. فهاتان الدولتان لا يمكن أن يخضعا لما تفرضه أميركا أو إسرائيل، إذ أن لهما مصالح لا بد من أخذها في الاعتبار. فإذا ما أرادت أميركا أن تجد مخرجاً مشرفاً من الفوضى الدموية في العراق وأن تسعى بإخلاص إلى حل النزاع العربي - الإسرائيلي فعليها الدخول في حوار مع كل من طهران ودمشق لا أن تخضعهما بالتهديد والوعيد. كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.