يبدو أن أميركا تفقد سيطرتها على الوضع في العراق. فالهجمات السريعة الخاطفة ضد قوات التحالف ازدادت وتحولت إلى انفجار تمردي مسلح. اذ انضمت ميليشيات مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الذي يتمتع بتأييد شعبي كبير، إلى رجال المقاومة السنة في سعيهم إلى طرد عنيف لأميركا وحلفائها من العراق. واندلع القتال في الحصون السنية في الفلوجة والرمادي وأيضاً في المدن الشيعية كالكوفة والنجف وكربلاء والعمارة والناصرية. وقد تصاعدت الخسائر الأميركية بالأرواح بشكل ملحوظ وارتفع معها عدد القتلى والجرحى في صفوف الأهالي، وكذلك نسبة الدمار الكبير. لم يعد هناك أي مكان آمن... فالحرب عمت البلاد من جديد. وربما قضت هذه التطورات المشؤومة نهائياً على طموح واشنطن بتحويل العراق إلى دولة تابعة لأميركا. وفي الوقت نفسه، تواجه أميركا تهديدات إرهابية على مستوى العالم كله من جانب الإسلاميين المتطرفين الذين تغذي الحرب في العراق وأفغانستان وكذلك انحياز أميركا الأعمى لإسرائيل، غضبهم وتعطشهم للانتقام وبخاصة بعد سياسات شارون التي بلغت ذروة الوحشية في الآونة الأخيرة. ترى هل تكون حرب العراقفيتنام جورج بوش كما يقول السيناتور ادوارد كيندي؟ وهل خسرت أميركا"الحرب على الإرهاب"نهائياً على رغم بلايين الدولارات التي أنفقت في سبيلها؟ وهل ارتكبت الولاياتالمتحدة ومعها بريطانيا، خطأ تاريخيا في السياسة الخارجية؟ البحث عن مخرج يسافر رئيس الحكومة البريطانية توني بلير إلى واشنطن الأسبوع المقبل ليعقد"مجلس حرب"مع الرئيس بوش. ولعل المأساة هي أن كلا الرجلين يفتقر بحكم مزاجه وسياسته إلى القدرة على إجراء تقدير جذري للموقف وتغيير سياستهما في الاتجاه الذي يقتضيه الوضع. من جهة اخرى ينتظر أن يصل شارون إلى واشنطن ليقابل الرئيس بوش يوم 14 الجاري. وسينشد المزيد من التأييد لسياسته التوسعية العدوانية التي أشعلت نار الكراهية نحو أميركا في العالمين العربي والإسلامي. فما هي والحال هذه الخيارات المتاحة لأميركا في العراق؟ كيف يمكنها أن تعالج التمرد؟ 1- الخيار الأول يقوم على تصعيد النزاع وتشديد عمليات القمع وتعبئة المزيد من القوات، وقتل أو توقيف الناشطين، والاعتماد على القوة والبطش أملا في سحق الانتفاضة. وهذا في الواقع هو ما يجري حالياً. وهذه هي سياسة الصقور في أميركا وفي وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي المدعومة من قبل زعماء اليمين المتطرف أو جماعات خلايا التحليل والتفكير الموالين لإسرائيل، أو مؤسسة"ناشونال انتربرايز"أو مؤسسة"هريتاج"أو"معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى". وليس بالمستغرب أن تتبنى أميركا في العراق التكتيك الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين كإرسال الدبابات إلى المدن الآهلة بالسكان، وإطلاق النار على المدنيين من المروحيات الحربية، وكسر الأبواب ونهب البيوت، وإرهاب السكان المحليين، وعمليات التفتيش العنيف من منزل إلى آخر، والاعتماد على المخبرين. يضاف إلى ذلك المنظر الكريه للمعتقلين الذين يقيدون ويقنعون ويساقون إلى التحقيق الصارم... وهنالك ما يزيد عن 10 آلاف عراقي محشورين في معسكرات الاعتقال الأميركية. ترى أهذا هو السبيل لكسب"معركة العقول والقلوب"التي لا بد من كسبها لئلا يفشل المشروع الأميركي في العراق نهائياً؟ 2- الخيار الثاني هو أن تعلن الولاياتالمتحدة بأنها ستسحب قواتها حين تسلم السيادة للعراقيين يوم 30 يونيو حزيران المقبل. لكن الأرجح أن ذلك لن يتم اللهم إلا إذا قتل مئات من الجنود الأميركيين في حادث أو معركة، أو قتل أعضاء مجلس الحكم المدعوم من أميركا... وليس هنالك في الولاياتالمتحدة من يؤيد مثل هذا"الانسحاب - الفرار"حتى بين معارضي الحرب. ذلك أن مثل هذا الانسحاب يعتبر لطمة قاسية للهيبة الأميركية وتراجعاً مخزياً لطموحات إدارة بوش الإمبراطورية، وتهديداً جدياً لفرص بوش في إعادة انتخابه. وقد صرح بوش هذا الأسبوع قائلاً:"تصميمنا حازم ولا يمكن أن يتزعزع وسوف ننتصر..."وردد بلير كالببغاء الرسالة نفسها. ولو كان بوش رئيساً أقوى وأكثر ذكاء لعزل مهندسي الحرب الفاشلين كوزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومساعديه بول ولفوفيتز ودوغلاس فيث واستبدلهم بفريق آخر وأفكار جديدة. فلا بد من حل الأزمة سياسيا قبل أن يزداد الوضع سوءا، غير أن إدارة بوش نسيت معنى كلمة"ديبلوماسية". 3- ويمكن أن يتم اللجوء إلى خيار ثالث يتلخص بأن يطلب إلى الأممالمتحدة تنظيم مؤتمر كبير للمصالحة السياسية يحضره ممثلون عن جميع القوى والجماعات العراقية، وكذلك الدول المجاورة - إيران، وسورية، وتركيا - وكذلك السعودية والكويت والأردن ومصر. فجميع هذه الدول تهتم جداً بما ستؤول إليه المشكلة العراقية وتود أن يؤخذ رأيها في مستقبل العراق. ولا بد من الإصغاء إلى رأيها هذا لأن من شأنه أن يساعد على استقرار الوضع. غير أن الشرط المسبق لنجاح مثل هذا المؤتمر هو أن تلتزم أميركا بسحب قوات الاحتلال وتكف عن تأييد رجال يفتقرون إلى الشرعية كأحمد الجلبي صاحب السيرة الملوثة الذي غذى إدارة بوش بالمعلومات الكاذبة قبل الحرب. لكن أميركا ليست مستعدة لقبول مثل هذا الحل الذي يحتاج إلى رجل دولة. فهي تميل إلى وجهة النظر الاستعمارية بأن لها"الحق"في فرض النظام الذي تختاره على الشعب العراقي. وهي بدلاً من أن تنشد مساعدة إيران وسورية، أخذت تشوه موقفهما وتسعى إلى عزلهما. والحاصل أنه قد يكون على العالم أن ينتظر نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل أملاً في أن تكون لدى الشعب الأميركي الحكمة والحس السليم كي يتخلص من هذه الإدارة المفلسة والشرسة. الأزمة في الغرب من أسوأ عواقب الحرب في العراق والنزاع العربي - الإسرائيلي الذي لم يجد حلاً بعد، هو أن هنالك جو أزمة أخلاقية وسياسية بين أوروبا وأميركا بالنسبة الى لشرق الأوسط. ومع استمرار تدهور الموقف وتصدير العنف إلى أوروبا - كما هو الأمر بالنسبة الى التفجيرات الأخيرة في مدريد- فإن الفجوة تزداد اتساعا بين ضفتي الأطلسي ويزداد جسرها صعوبة. على رغم طموح توني بلير في أن يكون له موطئ قدم في الجانبين فإن الأكثرية الساحقة للرأي العام الأوروبي تعارض الحرب في العراق كما تستنكر بقوة محاولات شارون سحق الفلسطينيين وتدمير آمالهم في قيام دولتهم نهائياً. وتشير استطلاعات الرأي والمسيرات والمظاهرات وغير ذلك من الدلائل إلى أن معظم الأوروبيين يعتقدون أن أميركا وإسرائيل اختارتا منحى خاطئاً يهددهما بالمخاطر كما يهدد السلام والأمن في أوروبا. فما عسى أوروبا أن تفعل إذا ما ازداد الوضع سوءاً؟ هل يمكنها أن تقبل بانفجار العنف في الشرق الأوسط ؟ تلك هي الأسئلة التي بدأت تقلق الزعماء والمسؤولين الأوروبيين سواء في الدول الأعضاء أو في مؤسسات الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. هنالك أوروبيون غير معنيين وغير مستائين من الحرج الذي تواجهه أميركا. فبالنسبة الى العراق يتلخص موقفهم بالقول"ان أميركا هي التي خلقت المشكلة وعليها الآن أن تجد الحل". غير أن النظرة المسؤولة تدفع الأوروبيين إلى القول ان عليهم أن يبذلوا كل الجهد لمساعدة أميركا على الخلاص من الفخ العراقي، وأن ينضموا في الوقت نفسه إليها لمحاولة حل النزاع العربي - الإسرائيلي حتى لو احتاجوا إلى فرض هذا الحل على طرفي النزاع. وهنالك شبه إجماع بأن ذلك هو السبيل الوحيد لنزع فتيل المشاعر الخطيرة المعادية لأميركا والتي تهدد بانتشار الفوضى في أنحاء العالم. ولعل العقبة الرئيسية هي رفض أميركا الاعتراف بالأغراض الحقيقية لحربها ومغامرتها العراقية. فمن الواضح أن ادعاءها بالرغبة في إدخال الديموقراطية هو ادعاء كاذب ومزيف... شأنه شأن ادعائها بالتهديد الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل العراقية. فأهداف الحرب الحقيقية هي توطيد الهيمنة الشاملة سياسياً وعسكرياً على الموارد النفطية في منطقة الخليج. ويتفرع عن هذا الهدف ما يقلق بعض كبار المسؤولين الأميركيين - ضمان الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين وعلى الدول العربية المجاورة القريبة منها والبعيدة - لكن مثل هذه الأهداف يصعب جداً أن تحظى بأي تأييد أوروبي أو عربي. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.