يبدو أن مصير الفلسطينيين، وما إذا كانوا سيحصلون على دولتهم أم لا، سيتقرر في ضوء نتيجة معركة سياسية كبرى تدور خلال الشهور المقبلة. فهذه القضية ليست، ولم تكن يوماً، مجرد نزاع يخص الفلسطينيين والإسرائيليين وحدهم، بل هي معركة تسببت في تعكير العلاقات الدولية وتوترها طوال القرن الماضي، ولا يمكن أن تجد حلاً إلا باتفاق دولي. ذلك أن موضوع النزاع لم يعد مقتصراً على السلام في الشرق الأوسط فحسب بل على حركة النضال الإسلامي المنتشرة حول العالم وعلى علاقات أميركا المضطربة مع العالمين العربي والإسلامي. بعد مأزق استمر طوال أربع سنوات جاءت عملية تجديد ولاية الرئيس بوش التي رافقتها وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لتخلق فرصة لانطلاقة جديدة في العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية. وكرر بوش نفسه التزامه إقامة دولة فلسطينية ديموقراطية تعيش جنباً إلى جنب في سلام مع إسرائيل. وأشار الى أنه ينوي تخصيص بعض"رأسماله السياسي"لتحقيق ذلك. غير أن المدلول الحقيقي لهذه الكلمات لا يزال عملياً غامضاً جداً. لكن من هم الذين يعارضون هذا الموقف في المعركة المقبلة ؟ إنهم مجموعة القوى العديدة المناهضة لإقامة دولة فلسطينية. وهي تشمل رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون، وحزب ليكود وحلفاءه من الأحزاب الدينية، وحركة المستوطنين المسلحين التي كان شارون رائدها ومؤسسها. هذه القوى تتمتع بتأييد المحافظين الجدد في واشنطن الموالين لشارون والذين يشغلون العديد من المراكز الحساسة في الدولة، يضاف إليهم الإنجيليون المتعصبون من المسيحيين. لكن هذا الفريق، رغم نفوذه القوي، يواجه اليوم وضعاً حرجاً جداً. ذلك أن شارون لا يريد أي تفاوض مع الفلسطينيين وسيبذل ما في وسعه لتجنب ذلك، ولكنه سيجد صعوبة في تأجيل أو منع الانتخابات التي حدد موعدها يوم 9 كانون الثاني نوفمبر المقبل لاختيار رئيس فلسطيني جديد والتي يبدو أن بوش يباركها. لا شك أن شارون يعتمد على عملية إرهابية ما، أو على نزاع عنيف بين الفلسطينيين لينجو من هذا المأزق. أما في أميركا فإن المحافظين الجدد هم اليوم في موقف الدفاع لأنهم يعتبرون مسؤولين عن توريط أميركا في حرب العراق. وربما كان قادة المحافظين الجدد في الإدارة، من أمثال بول ولفوفيتز ودوغلاس فايث من البنتاغون وايليوت ابرامز من مجلس الأمن القومي في شك الآن من مستقبلهم السياسي، خصوصاً أن اختيار كوندوليزا رايس لوزارة الخارجية وستيفن هادلي لمجلس الأمن القومي قضى على آمال ولفوفيتز في الوصول إلى أحد هذين المنصبين. أما دوغلاس فايث فهو الآن موضع شك بأنه اختلق وروّج معلومات استخباراتية كاذبة للدفع باتجاه الحرب في العراق. وكذلك ابرامز هو شخصية خلافية جداً وملتزم موقف اليمين الإسرائيلي المتطرف. فإذا ما أرسل ليفاوض شارون بشأن فكأنما يُطلب من شارون أن يتفاوض مع نفسه. ولذلك فإن إبقاء أناس مثل هؤلاء في مناصبهم يعتبر مؤشراً الى أن بوش غير جاد فعلاً في تحقيق تقدم حقيقي بشأن الدولة الفلسطينية. موقف معارضي شارون هنالك ائتلاف دولي يقف في وجه تحالف شارون اليميني المتطرف، وهو يشمل اليسار الإسرائيلي الذي أصابه التمزق والضعف، وبعض"الحرس القديم"في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أمثال بريزنسكي وسكاوكروفت وجيمس بيكر وانطوني زيني وغيرهم كثيرين ممن تقلقهم سياسة بوش الخارجية. إضافة إلى هؤلاء هناك زعماء أوروبيون، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك. ولا شك أن العناية البالغة التي أحاط بها شيراك الزعيم الفلسطيني عرفات في فترة احتضاره وبعد وفاته والتي تتناقض مع الإهمال المعيب الذي أظهره بوش وشارون، كان القصد منها تأكيد إيمان فرنسا الراسخ بشرعية القضية الوطنية الفلسطينية. وحين ظهر بوش وتوني بلير في مؤتمرهما الصحافي يوم الجمعة الفائت وصرح بوش بأنه يأمل بظهور الدولة الفلسطينية خلال السنوات الأربعة القادمة، سارع ميشيل بارنييه وزير الخارجية الفرنسي إلى الإدلاء بتصريح الى صحيفة"الفيغارو"الفرنسية يوم الأربعاء الماضي قائلاً أن الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تنتظر حتى عام 2009. وأضاف أن أوروبا مستعدة لمساعدة الفلسطينيين في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية يشارك فيها جميع الفلسطينيين بما فيهم سكان القدسالشرقية. وأكد بارنييه"أن الأوروبيين مجمعون على أن يقولوا لأميركا لقد حان الوقت الآن لكتابة صفحة جديدة". وفي اليوم ذاته شرح زبيغيو بريزنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر لصحيفة"لوموند"أفكاره بشأن اتفاق السلام الفلسطيني - الإسرائيلي. فهو يريد من أميركا وأوروبا أن ترسم شروط هذا السلام وتقوم بطرحه ودعمه من أجل التأثير في الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي. ويقوم مشروعه على ما يأني: ضم المستوطنات القائمة على حدود عام 1967 إلى إسرائيل والتي يقطنها ثلثا عدد المستوطنين، وذلك مقابل تعويض للفلسطينيين بأراض في مواقع أخرى، لا حق بالعودة للاجئين الفلسطينيين، القدس عاصمة يتقاسمها الطرفان، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح. بوش وبلير والديمقراطية ما هو موقف بوش وبلير من هذه القضايا؟ يبدو أنهما يقفان في موقع وسط بين الطرفين. ففي مؤتمرهما الصحافي تحدث كلاهما بإسهاب وتأكيد عن ضرورة تبني الفلسطينيين للديموقراطية ولكن من دون أي إشارة منهما الى العقبات الكأداء التي تضعها إسرائيل في طريقهم كاغتيال المناضلين، والعقوبات الجماعية، ومنع حرية الحركة، والمشقة والإذلال اللذين يسببهما وجود نحو 700 حاجز تفتيش، والتوسع المطّرد للمستوطنات فضلاً عن الجدار الأمني. والفلسطينيون شأن إخوانهم العراقيين أقل اهتماماً الآن بالديموقراطية من اهتمامهم بتقرير مصيرهم الوطني. فهم يريدون إدارة شؤونهم بأنفسهم والتحرر من الهيمنة الإسرائيلية والاحتلال. ولعل النقاش اليوم بين الفلسطينيين يدور حول السبيل لتحرير أنفسهم من نير إسرائيل الثقيل. فالبعض يقول إن الكفاح المسلح وحده هو الوسيلة والبعض الآخر يؤثر المفاوضات رغم علمهم بأن مثل هذه المفاوضات لم تؤدِ إلى أي نتيجة في الماضي وأن شارون سيبذل ما في وسعه لتجنبها. ولقد قررت حماس والجهاد الإسلامي مقاطعة انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية - هذه السلطة التي يعتبرانها نتاج اتفاقات أوسلو الإجهاضية - لكنهما تطالبان بإجراء انتخابات تشريعية وبلدية كي تبرهنا على ما تتمتعان به من تأييد شعبي، وتكسبا موقعاً في القيادة الموحدة. وهما لن يتخليا عن الكفاح المسلح ما لم يتلقيا ضمانات بشأن الدولة الفلسطينية في نهاية المطاف. إنهما بحاجة إلى رؤية"أفق سياسي"يصمم شارون على حرمان الفلسطينيين منه. ولعل السؤال الرئيسي الذي يطرح في هذا الصدد هو الآتي: هل يحاول بوش وبلير حين يلقيان مسؤولية تبني الديموقراطية على الفلسطينيين أن يفرضا عليهم مهمة يستحيل عليهم تحقيقها، وبذلك يطلقان يد شارون في تحقيق مطامحه ب"إسرائيل الكبرى"؟ فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نتوقع مزيداً من إراقة الدماء. أم أن بوش وبلير ينصبان فخاً لشارون واليمين الإسرائيلي المتطرف لحملهم على السماح بإجراء الانتخابات الفلسطينية على افتراض أن هذه الانتخابات ستسفر عن ظهور زعامة فلسطينية شرعية قادرة على طلب المفاوضات مع إسرائيل والدخول فيها للوصول إلى إقامة الدولة؟ ولكن على رغم حماستهما العقائدية المفرطة فإن بوش وبلير هما من السياسيين الحذرين. فهما يعلمان بأن السبيل الوحيد للسلام في الشرق الأوسط ولتهدئة المقاومة الإسلامية، للخروج من العراق مع الحفاظ على"الشرف"هو في السير نحو حل النزاع العربي - الإسرائيلي. غير أن ذلك يتطلب"تغليفاً"حذرا بحيث لا يثير موجة عارمة من اعتراضات أنصار شارون الشرسين في أميركا. وفي تجاوبه مع بوش تحدث بلير عن ضرورة"إلحاق الهزيمة بالإرهاب عن طريق نشر الديموقراطية"فهل ترى هذا مجرد ترديد لكلام المحافظين الجدد كي يحظى بلير بود جورج بوش أم أنه إشارة إلى ضرورة التقدم نحو حل مشكلة الشرق الأوسط؟ يقول بوش أنه يريد أن يستميل أوروبا التي ينوي زيارتها في العام الجديد. فهل ان كوندوليزا رايس من المحافظين الجدد أم أنها فعلاً"معتدلة"متنكرة ستنفذ ما كان كولن باول يبشر به؟ المستقبل وحده كفيل بالجواب. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.