يرى المتبع لسلوك أبو مازن وأفعاله أن القضية الفلسطينية كانت ولا زالت البؤرة المركزية لفكره. أقول هذا وقد شدني كتابه الذي يحمل عنوان"استثمار الفوز واستغلال المكاسب"حيث يبدو أن الرجل استعار المصطلح من القاموس العسكري. فكل نصر جزئي لا يُتبع بنصر جزئي آخر هو مضيعة للوقت، فما لم يُدعم ذلك النصر الجزئي ويُثبت من أجل الانطلاق إلى نصر آخر يتسبب، في النتيجة، بالمزيد من الضياع. ويلحظ المتابع لنشاط أبي مازن الفكري، وبكل بساطة، بصماته الواضحة في الفكر السياسي الفلسطيني. فهو صاحب نظرية"الهجرة المعاكسة"، وهو القائل بأن"الجمود الثوري في بعض الأحايين حركة"، وهو الذي قال"بسقوط نظرية الحرب الخاطفة التي كانت تعتمدها إسرائيل كاستراتيجية". وكان أول من دعا لوقف العمليات الخارجية حتى لو كانت تستهدف صهاينة أو منشآت صهيونية، لأنها أصبحت ضارة وعبئاً وضد المصالح الوطنية الفلسطينية. وفوق هذا وذاك فكل سيرته النضالية تنبىء بنظافة يده، فما عرف عنه فساد، ولا سجلت له نزوة، ولا عاش مترفاً ثرياً. وكانت للرجل خلافاته مع الرئيس الراحل في بعض الأحيان، تصل الى حد القطيعة لأشهر عديدة، ومع ذلك كان الاتفاق بين الرجلين هو الواقع على الأعم الأغلب. فأبو مازن هو من وقع العديد من الاتفاقيات في البيت الأبيض وشرم الشيخ وغيرها وغيرها. وهو من أهم صناع أوسلو وتحمل الكثير من النقد والنيل. وهو يرى أن كل هذه الاتفاقيات والتفاهمات إنما هي مراحل من سياسة استثمار الفوز واستغلال المكاسب . وقد مضى عهد الرئيس عرفات بكل ما له وما عليه، لكن مرحلة عرفات أرست قواعد أساسية وأورثت لخلفه ثوابت وطنية لا يمكن تجاوزها أو المساومة عليها، وهي العناوين الرئيسة التي تمسك بتلابيب الرجل، وما عداها فوسائل أو معوقات أو هنات على الطريق. وعنده ان السلاح الفلسطيني محرم على الفلسطينيين استعماله ضد بعضهم البعض". أما التهدئة ووقف إطلاق النار بشكل تعاقدي بمعنى أن يلتزم به أيضاً الطرف الإسرائيلي وبضمانات مؤكدة وثابتة، فكل هذا" قابل للنقاش والتفاهم وقادرون على إنجازه". يدرك أبو مازن بأن ميزان القوى لصالح إسرائيل. صحيح أن العمليات الاستشهادية تضج خاصرة الإسرائيليين وتلحق بهم خسائر اقتصادية وديموغرافية فادحة وتفقدهم الأمن والاستقرار وتصل في بعض الأحيان إلى توازن الرعب. لكنها وحدها غير كافية لتحرير فلسطين، وقد تجبر الإسرائيليين وبعد سنوات طوال، وتقديم الآلاف المؤلفة من القتلى والضحايا، على الانسحاب من الضفة، وهي مسألة ليست في المنظور القريب على الأقل. لكن أبا مازن، ببراغماتيته المعروفة، يرى بأن من الحكمة أن يستند على"العدالة والشرعية الدولية". فالرجل يدرك بأن الحل العادل للقضية الفلسطينية والذي ترضى به الأمة ويحقق الطموحات هو وحده الذي يدوم، وإلا فإنها هدنة مؤقتة أو طويلة. وعلاوة على ذلك فإن ممارساته ونشاطاته وأقواله محسوبه بكل دقة، لا يستدر العواطف ولا يجري وراء شعارات الشعبية. سمعته يقول:"إن أي حل نهائي يتم التوصل إليه مع الطرف الآخر، لا بد أن يطرح على استفتاء شعبي عام، ليقول الشعب كلمته فيه". وقد أعجبني من أبي مازن اصطحابه لذوي الاختصاص والكفاءة ليشاركوه الرأي والفعل والخبرة والمشورة في مؤتمر لندن الأخير. فالرجل لا يعتمد الأحادية ليكون هو وحده المحاور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتنموي. وما سبق قوله ضرورة لأطرح تساؤلين: الأول: هل القيادة الإسرائيلية وشارون بالذات وحزبه ليكود جادون في الاقتراب والتفاهم مع محمود عباس؟! والثاني: أين تقف الأنظمة العربية والشعوب العربية من قيادة أبي مازن؟! وزير الثقافة الأردني السابق، رئيس جامعة البترا