في عام 1990 غزت جيوش صدام حسين الكويت في عمل عسكري عدواني غير مسبوق، وتداعى العرب من اجل النظر في ذلك الحدث الجلل. بقية القصة معروفة. انقسم العرب لأنهم لم يكونوا قد قرروا أجندة واضحة لما يريدونه أو لا يريدونه، حتى انتهى الحال بتخريج مفهوم مضحك في أضابير اجتماعات الجامعة العربية سمي بالحالة الكويتية - العراقية! وقبل أعوام من ذلك الحدث قرر العرب أن يساعدوا اللبنانيين على حل جزء من مشكلاتهم، فأوفدوا في البداية بعض القوات العسكرية، ثم تخلوا عن المهمة لصالح الجارة سورية، فهي تعرف لبنان أكثر من غيرها. ما يجمع الصورتين هو أن هناك بلداً احتل بالقوة، فكان لا بد من إن يخرج المحتل بقوى عربية ودولية، وفي الحالة الثانية بلد مستقل وقع في خلاف دموي داخلي، فجاءت الجارة للمساعدة، ولكنها حتى بعد الاستقرار بسنوات لم تخرج. الاختلاف في التفاصيل كثيرة، أما النتيجة النهائية فهي واحدة. واليوم حدث عمل جلل، هو اغتيال الرئيس المرحوم رفيق الحريري الذي اهتز لمقتله معظم العرب، وكل اللبنانيين، وأطراف دولية فاعلة في عالمنا المعاصر. فقيل أين العرب؟ حتى الآن وبعد خمسة عشر سنة على الأقل من الحدث الجلل الأول، لم يستطع العرب إن يحددوا أجندتهم، كلٌ متقوقع مشدوه، لا يريد أن يتذكر أن عملية بحجم اغتيال رئيس وزراء مسالم قد حدثت وبشكل مروع هددت السلم الأهلي. لا احد، لديه بقية عقل، يريد أن يسارع باتهام طرف أو تبرئة أطراف، إلا إن التداعيات مثيرة للحيرة. فعمرو موسى بصفته الأمين العام للجامعة العربية، قد خفّ إلى دمشق، وصرح بما صرح به بعدما التقى المسؤولين هناك، وقبل أن يصل إلى مقر عمله عائداً سمع العالم تصريحاً مضاداً من السيد وزير الإعلام السوري، فحواه أن الأمين العام قد فهم الكلام خطأ! فإذا كان الأمين العام للجامعة العربية، بعد كل هذه الخبرة الطويلة، يفهم ما يقال له خطأ، فمن بقي ليفهم الصحيح! زاد من ذلك أن السيدة الكريمة، وهي سيدة ذكية ومتحدثة بليغة، وزيرة المغتربين في سورية، نشرت مقالاً لوحت فيه بأن من قام بقتل رئيس الوزراء اللبناني هي إسرائيل، لأنها، وهذا هو المهم، دخلت مع القوات الأميركية إلى العراق، وسرقت نوعاً محدداً من المتفجرات استعملته في قتل الرئيس الحريري في عين المريسة في بيروت! والسؤال هل هذه معلومات أكيدة تأتي من سيدة لها مقعد في مجلس الوزراء؟ أم ان ذلك تقديراً وقراءة شخصية، وكيف يستقيم ذلك التقدير، في الوقت الذي يطالب فيه الجميع بأن ننتظر حتى نعرف على وجه اليقين من قام بذلك الفعل الشنيع ولأية أهداف؟ فإذا كان الفعلة معروفون بهذه السرعة وعلى وجه الدقة ، فلماذا الاستعانة بلجان دولية؟ لم يكن هذا الإرباك مقصوراً على التصريحات القادمة من دمشق، بل طال الإرباك بعض رجال الحكومة اللبنانية، وظل الإرباك حتى يومنا هذا عربياً أيضاً، واختلط فيه السياسي بالموضوعي بالشخصي. توقع موقف عربي هو كالاتفاق على وصف العنقاء، عملية شبه مستحيلة، فقد انقسم العرب في حالة الكويت إلى عرب ال"مع"وعرب ال"ضد"وتغير عرب الضد بعد التحرير إلى عرب"معضد". لقد وقفت سورية والمملكة العربية السعودية ومصر و المغرب ودول الخليج مع تحرير الكويت، ولم يكن موقفها ذاك من دون ثمن، فقد دفعت ثمناً كبيراً بسبب أن التثقيف السياسي العربي الشعبي كان مناهضاً لأي استعانة بالخارج، إلا أن قيادة تلك الدول قررت يوم ذاك أن تقود. وأذكر أن صديقاً لبنانياً من طائفة"المفكرين"قال لي في الكويت بعد حين، لقد كنا يقصد بعض طائفة المفكرين العروبيين في لبنان، قال كنا ضد التدخل الأجنبي، حتى لو بقيت الكويت محتلة، ولولا الوجود السوري في لبنان لكنا قد عبرنا عن ذلك علناً، وقتها احترمت الرجل لأنه كان صريحاً وتحدث بواقعية كما يشعر لكنه لم يلحظ المفارقة في حديثه. نبهني الحديث إلى وقوع الكثير من المثقفين اسرى لمواقف ثقافية وتفسيرات سياسية لا تزال طافية على عقول وقلوب بعض أهل الرأي العرب تؤمن بها من دون أن تتبين التناقض. عرب ال"مع"كان موقفهم منسجم مع ما تم بعد ذلك،أما عرب ال"ضد"فعادوا من جديد الى فلسفة ذلك الموقف وتبريره، ثم السير بالإدانة لنظام صدام حسين، بل والحمل عليه. الموقف العربي الشامل باتجاه ما حدث في بيروت مشلول اليوم، وكأنه شبيه بالبارحة في العام 1990، لأن الكثيرين يتلفتون حولهم وينتظرون مسار الريح، إلى أي اتجاه هي ذاهبة، أو بعضهم يتشبث بالخطأ ويدافع عنه. الصورة واضحة لمن مرّ بالتجربة، هناك مسؤولية سياسية عن قتل سياسي مهم ورجل دولة في منزلة رفيق الحريري، وقد ذهبت محاولة قتل مروان حمادة قبل أشهر من دون أن يعرف أحد من فعلها ولماذا؟ ويجب ألا يذهب اغتيال الحريري في نفس المسار. في تشييع جنازة الحريري ظهرت للقاصي والداني الأهمية التي يعلقها اللبنانيون والعرب والعالم على كشف الحدث، للمرة الاولى يحضر رئيس دولة في ثقل فرنسا لتقديم التعزية، كما تقاطر على الجنازة الشعبية رجال خُلّص من المملكة العربية السعودية ودول الخليج وسفراء دول كبرى، بل وحتى المسؤولين أللبنانين الكبار، كل ذلك له معنى ورمز، عدا أن المطالبة بتحقيق سريع وفاعل لكشف الجناة، جاء من أعلى سلطة دولية هي مجلس الأمن. حقن الضغينة ومن دون اللجوء إلى التفسيرات، والدخول في مناقشة القضايا الفرعية، هل من قتل رفيق الحريري هي الموساد كما قال البعض، أم هي أجهزة منفلتة كما قال البعض الآخر، إلا إن الحقائق على الأرض تقول لنا التالي: - أولاً: إن لبنان في السنوات الأخيرة وصل إلى الاعتماد على النفس كدولة واقتصاد وسياسة، وكان التمديد للهراوي شبة ضرورة نسبية في وقتها، وأما التمديد للحود فكان ضرراً أكيداً في وقته، وقد تم التمديد بالاعتماد على الأجهزة والتهديد لا بالقناعة والتراضي. فات البعض أن يرى التغييرات الحاصلة في العالم، والحاثّة أبداً على الدمقرطة والتبادل السلمي للسلطة، كشرط مسبق وأساسي للتحديث. كما أن الحديث عن عدم التدخل في الشؤون الداخلية يكذبه التهديد والوعيد للسياسيين اللبنانيين. - ثانياً: لم يعد الوجود العسكري والمخابراتي السوري ضرورة لبنانية أو حتى عربياً، فإسرائيل تتوصل مع الفلسطينيين السلطة المنتخبة بشكل حر وشفاف إلى شيء من الوفاق، كما أن الحرب معها لم تعد خياراً عربياً. فالمعلن هو طريق السلام، وعودة السفراء، واتفاقات اقتصادية طويلة المدى ثلاثية بين بعض العرب وأميركا وإسرائيل. بل أصبح بعض الأبواب الخلفية في عواصم عربية يرحب بالمسؤولين الإسرائيليين، والحديث عن البقاء في لبنان لتحقيق انسحاب من الجولان يذكّر بشيء من الغصة بحديث صدام حسين الانسحاب من الكويت عندما تنسحب إسرائيل من الضفة والقطاع. هو شرط بادي الرداءة، وغير واقعي وتعجيزي، عدا انه يعاقب البريء بذنب المذنب، كما انه استراتيجياً ساقط. - ثالثاً: اتفاق الطائف ليس بجديد وهو قرار عربي في بعض منه، وتنفيذ بنوده كان مطلباً دائماً لبعض اللبنانيين، تحول بعد الاغتيال ليصبح مطلباً لمعظم اللبنانيين والقوى الدولية. والموقف العربي في حيرة، كالعادة، من القرارات الدولية خصوصاً قرار 1559، وهو قرار دولي لم يصدر من الجامعة ولم يبحث في أروقتها لذا فهي غير قادرة وكالعادة أيضا غير راغبة أن تحدد موقفاً ايجابياً غير الكلام الديبلوماسي العام. - رابعاً: الافتراض العقلاني حتى تظهر الحقائق بأن دمشق ليس لها يد في ما حدث في الرابع عشر من شهر فبراير الفائت، إلا إن هناك مسؤولية سياسية ورمزية لا يختلف عليها كثيرون، وفي حالة العجز عن الحماية المفترضة ترفع اليد ويقبل الجميع بالمسؤولية. ولعل الحديث الذي سمع من البعض اعتذاراً عن أن مثل هذه الأحداث"الإرهابية"تحصل في أي بلد، كما حدث في عام 2001 في نيويورك وواشنطن، فيه بعض الاستخفاف بالعقول، حيث أصبح معروفاً أن هناك لجان في الولاياتالمتحدة وعلى ارفع مستوى، درست الحدث وعرفت على وجه اليقين من فعل ما فعل،وكم هم عدد الضحايا بالضبط، والأسباب التي كانت وراء الفعلة، وما هذا الذي نشهده من فتح باب جهنم في العراق وأفغانستان وبلاد أخرى إلا نتيجة التقصي والمعرفة، لا التجاهل والتبرير. موقف العرب في هذا الموضوع يحتاج إلى وضوح من دون مجاملة، فهو لن يضر سورية بل سينفعها في المدى المتوسط والطويل، أسوأ ما يمكن أن يحدث لسورية اليوم هو ضياع الفرصة، والنظر إلى متغيرات الحاضر بمنظار الماضي، لأن هناك استحقاقات في الداخل السوري آن لها أن تُنظر، وتساير متطلبات العصر، والانسحاب من لبنان لن يقلل من مقاومة سورية للضغوط الإسرائيلية أن أرادت، فقد كانت تقاوم قبل أن تدخل لبنان، وبمقدورها أن تفعل ذلك بعده، بل سيكون لديها جبهة واحدة تفرغ فيها طاقتها السياسية، كما أن الانفراج ألداخلي والإصلاح المرتقب ،سيزيد من قدرتها على المناورة والمقاومة. * كاتب كويتي.