صورة جنازة رفيق الحريري التي لم تتكرر إلا نادرا في شوارع العرب الحزينة، تقول بجلاء إن من قتله أراد قتل الوفاق الجماعي، والالتفاف الجماهيري الطوعي والطيع حول الرجل، الذي تطابقت في شأنه اللحظة التي كان فيها المصلون يقفون أمام جثمانه في مسجد الأمين مع قرع إجراس الكنائس نعيًا له، وكان المشيعون الذين احتشدت بهم شوارع العاصمة اللبنانية ينتمون إلى كل ألوان الطيف السياسي، والاجتماعي، اللبناني، في مشهد مهيب تسكنه العَبَرَات والعِبر. والجميع وبعفوية أو قصد، بتدبير أو من دون ترتيب، عبّروا بالكلام أو الدموع أو الحزن الدفين عن أن الراحل كان محل إجماع، لا تشوبه اختلافات هامشية وضيقة للبعض في وجهات النظر مع"أبو بهاء"، وأن التخلص منه، في تلك اللحظة الفارقة والعصيبة في تاريخ لبنان، سيفتح الباب على مصراعيه أمام إنهاء هذا الوفاق، الذي كان من المنتظر أن يستخدمه الحريري عند الضرورة، أو حين تصل الحلول السياسية حول المسألة اللبنانية - السورية إلى حافة الإفلاس، في سبيل الإبقاء على خيار"معاتبة"دمشق أو حضها سلميا، بالقول والفعل معاً، وعدم إهدار كرامتها حين تشرع في انسحاب، متوقع حدوثه، وواجب إتمامه مهما طال الزمن أو قصُر. هذا التصور تزكيه المعلومات التي بانت بعد ساعات من حادث اغتيال الحريري، والعهدة على رواتها، من أن الرجل كان يسعى إلى فض الاحتقان الذي تشهده الحياة السياسية اللبنانية في هذه الأيام، وتضييق الهوة مع دمشق، وفتح الطريق أمام حوار بينها وقوى المعارضة اللبنانية، بدلا من التصعيد الذي قد يؤدي إلى الانفجار، وبديلا للجوء إلى حلول خارجية للمسألة اللبنانية. وقراءة مسلك الحريري السياسي يرجح أن تكون هذه المعلومات صحيحة. فالرجل، في ذروة خلافه مع دمشق، لم يهدد السوريين بالاستقواء بالخارج، وكل ما يقال عن أنه وراء صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي يدعو إلى انسحاب القوات الأجنبية من لبنان، محض تكهنات لا دليل قاطعا عليها، فالحريري إن كان قد عارض التمديد للرئيس اميل لحود، مخالفا في البداية الإرادة السورية، فإن كتلته صوتت لمصلحة هذا التمديد استجابة لطلب دمشق. وهذا معناه أن علاقة الحريري بسورية"مرنة"وقابلة للتوظيف في الظاهر حينًا، وفي الباطن أحيانًا من أجل عدم سد الطريق أمام حل ثنائي مستقل بين سورية ولبنان لمشكلة وجود عسكر سورية على الأراضي اللبنانية، ودس أنف استخباراتها وقواها الأمنية في شؤون لبنان. كل ما في الأمر أن الحريري لم يقبل أن يكون مجرد دُمية في يد دمشق، كما قَبِلَ غيره من ساسة بلاده، لكن مصالحه السياسية والاقتصادية داخل لبنان كانت تغل يد الرجل في الذهاب بعيدا عن سورية، طيلة الوقت وفي جميع المواقف، خصوصًا أنه يعلم، عِلم اليقين، أن فتح الجبهة اللبنانية لسورية لا يقصد منها الانتصار لبيروت، فلو كان هذا صحيحا لما تأخر التآزر الدولي مع لبنان، الذي نشهده الآن، ولكن لا يعدو كونه مجرد ورقة ضغط إضافية على سورية لإجبارها على تقديم تنازلات في العراق، بوضع إمكاناتها السياسية والأمنية والعسكرية في خدمة الاحتلال الأميركي لأرض الرافدين. فمنذ المنشأ كان العراق هو البوابة التي أطلقت يد سورية في لبنان، حين قبل الرئيس حافظ الأسد المشاركة العسكرية في حرب الخليج الثانية، التي أخرجت العراق من الكويت، في مقابل سكوت تام عن دور سورية في لبنان، بل مباركته، باعتباره ضرورة سياسية وأمنية لمساعدة اللبنانيين على عبور فترة النقاهة من الحرب الأهلية بسلام. الحريري قتلته يد غادرة، تريد أن تغلق كل النوافد أمام سورية، وتضعها في خيار صعب، ربما لم تشهده في تاريخها المعاصر. والدليل على ذلك هو رد الفعل على اغتيال الحريري، في داخل لبنان وخارجه، فكله ينتهي إلى غير مصلحة دمشق، بدءا من صب اللعنة الشفهية عليها، ومطالبتها بالخروج فورا من لبنان، وانتهاء بإجراءات دولية كبيرة من قبيل استدعاء واشنطن سفيرها في دمشق، ومطالبة فرنسا بخروج سورية، وانعقاد مجلس الأمن لتدويل المسألة اللبنانية، قبل ساعات من مطالبة أحد أبرز المعارضين لدمشق في لبنان وهو وليد جنبلاط بحماية دولية، أو على أقل تقدير دخول قوات عربية لتحل محل السورية في لبنان. وبالطبع فإن السوريين، الذين يحفظون لبنان عن ظهر قلب، كانوا يقدرون كل هذه العواقب حال اغتيال الحريري، ومن ثم يصعب عليهم أن يندفعوا في طريق يزيد وضعهم حرجا ويخنقهم سياسياً وأمنياً، اللهم إلا إذا كان صانعو القرار في دمشق متهورين أو غافلين، وهما صفتان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، اجتماعهما في سياسة خارجية حذرة ومرنة، على رغم ظاهرها الجامد، مثل السياسة السورية. وعلى النقيض من سورية التي لا يفيدها اغتيال الحريري كثيرا، فإن إسرائيل هي الرابح الأكبر من غياب الرجل، في هذه الآونة وبتلك الطريقة، إذ إنها قطعت بقتله شوطا كبيرا في اتجاه خطتها الرامية إلى الإبقاء على لبنان ضعيفا من الناحية الاقتصادية بخسارته سياسيا بارعا، ورجل أعمال وطنيا وخيّرا، وله علاقات خارجية طيبة على أرفع مستوى مثل الحريري. وفي الوقت نفسه فتحت إسرائيل على سورية باب جهنم بقتل من يجمع اللبنانيون عليه، ويظن أغلبهم أن دمشق وراء اغتياله، ومن يحظى باحترام دولي، يجعل البشر في أقصى الأرض وأدناها مهتمين بعقاب من قتله، وراضين بهذا المسلك مهما بلغت قسوته. وهنا تكون تل أبيب قد وضعت دمشق في مأزق خطير، بعد أن رفضت الأولى مراراً في الآونة الأخيرة قبول العرض السوري باستئناف التفاوض من دون شرط، وهي الخطوة التي كانت تعوّل عليها دمشق في التخفيف من حدة الغضب الأميركي عليها، خصوصًا بعد أن اتجه السوريون إلى روسيا للحصول على سلاح متطور. * كاتب مصري.