يبدو للمراقبين ان الساحة اللبنانيّة تحوّلت اخيراً إلى مركز الثقل الاساسي للتحرّك الدولي. وقد يخال لبعضهم ان لبنان تحوّل دولة محوريّة اساسيّة في الاستراتيجيّة الاميركية في المنطقة. وهذا إنطباع خاطئ بالطبع. فلبنان ليس مصر أو إسرائيل، وهو حتما ليس بأهميّة المملكة العربية السعوديّة. ولكن لماذا هذا الاهتمام؟ اذ لم تحظ القضية اللبنانية بهذا الاهتمام والاجماع الدوليين: الولاياتالمتحدة، واوروبا مجتمعة, وروسيا والدول العربيّة، كلّها حاليّا تركّز على لبنان. ولكي يكون هذا الاهتمام شرعيّا، كانت الاممالمتحدة والقرار 1559 السند القانوني الدولي الاهم. يمكن القول ان لبنان هو الدولة-المدخل Gateway للاستراتيجيّة الاميركيّة في المنطقة. فإذا ما قلنا لبنان، فإننا نقول في الوقت نفسه أنه البلد الاكثر معطوبيّة في المنطقة. فهو يتضمن كل عناصر الصراع في المنطقة, ويضم كل العناصر التي تستهدفها كل من إسرائيل واميركا. ففيه اللاجئون، وفيه"حزب الله"المتهم بالارهاب، وفيه المنظمات الاصوليّة الاسلاميّة, واخيرا وليس آخرا، فيه سورية في إنتظار ان تخرج بالكامل. والمقصود بالدولة - المدخل، إختيار لبنان محطّة وقاعدة إنطلاق لاستكمال بناء النظام الامني الاقليمي. ولكي يكتمل, وبنجاح, هذا النظام، من الضروري ان يجري العمل بسرعة لتفكيك المحور الممتد من لبنان الى سورية فإيران مرورا بالعراق خصوصاً بعدما أصبحت اميركا فعليّا فيه. لذلك يجري وجرى العمل على تحويل لبنان من دولة عازلة بين سورية وإسرائيل، إلى دولة محايدة، خصوصاً بعد إعتبار المجتمع الدولي ان القرار 425 نفّذ بالكامل. لذلك كان لا بد من إنسحاب سوري, فكان القرار 1559. وكان لا بد من سحب ورقة"حزب الله"من اليد الايرانيّة فكان ايضا القرار 1559. أما في ما خصّ الفلسطينيّين، فهم لديهم حكومتهم الشرعيّة، التي اكدت انها لن تكون حجر عثرة امام السلطة اللبنانيّة، كما انها لن تكون ورقة تستعمل بيد احد. اما في العراق، فيبدو ان الولاياتالمتحدة تسعى جاهدة إلى إدخال السنّة في العمليّة السياسيّة الداخليّة، بهدف تحقيق توازن داخلي كي لا يتفرّد احد بالقرار. وإذا ما دخل السنّة بكل ثقلهم، سيبقى العراق بعيدا عن التحالف العميق مع إيران، الامر الذي يجعله دولة توازن اساسيّة في المنطقة بين كل من تركيا - التي تسعى إلى الاتحاد الاوروبي- وإيران. وفي هذه الحال، ومع الوجود الاميركي المباشر، سيكون العراق دولة عازلة مهمّة على المحور الايراني ? السوري, هذا إذا لم تحدث تطوّرات دراماتيكيّة تغيّر او تضرب هذا المحور. أين يدخل الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله في هذه الصورة الكبرى؟ تقدّم السيّد لاخذ زمام المبادرة بصدره الواسع لقيادة قسم الموالاة على الساحة اللبنانيّة. ويعتبر هذا الامر نادرا، لان مسيرة"حزب الله"التحريريّة كانت بعيدة تماماً عن الامور الداخليّة, ولانه من النادر ان يتقدّم السيّد شخصيا لقيادة تظاهرة ليست في بُعدها دينيّة. فكيف بدا السيّد؟ وما هو الجديد في خطابه؟ لعل الجديد اعلانه ان نزع سلاح المقاومة لم يعد مرتبطاً بتحرير مزارع شبعا. فالسيّد ذكر امكان الخروج الاسرائيلي منها, لكنه ذهب في دفع الصراع إلى ابعد من شبعا. كما حدّد الاستراتيجيّة الكبرى حول مسالة الصراع خصوصاً البعد العسكري وكيفيّة إستعمال القوّة وشدّد على الازدواجيّة العسكريّة, أي مقاومة مستقلّة لتشكيل الردع، وجيش في الخلفيّة يحميها. وقد يعيد هذا الوضع ذكرى اتفاق القاهرة 1969، عندما كانت منظّمة التحرير في جنوبلبنان إلى جانب الجيش تقود العمليات العسكريّة ضد إسرائيل. وهذا, بحسب القانون الدولي, ليس أمراً شرعيّاً, ولذلك عندما كانت إسرائيل تردّ عسكريّا، كان هذا الردّ يعتبر دفاعاً عن النفس, على رغم الاختلاف بين وضعيتي المنظمة والحزب, كون الأخير حزباً لبنانياً التفّ حوله اللبنانيون. إذا لا نزع للسلاح، ولا لإرسال الجيش إلى الجنوب، والصراع مفتوح مع إسرائيل حتى السلام العادل, وهو ما يشكّل تجسيدا لخطاب الرئيس بشار الأسد. إن رسالة السيّد حول مستقبل"حزب الله"لها وجهتان: واحدة داخليّة وأخرى خارجيّة. في البعد الخارجي، هو حزب مستهدف لذا من الطبيعي توجيه هذه الرسالة. اما في البُعد الداخلي، وإذا ما اراد السيّد تغيير الاستراتيجيّة العسكريّة الكبرى للبنان -في حال وجدت لان الدولة كانت ولا تزال في غيبوبة عميقة -لمواجهة إسرائيل, فمن الضروري ان يكون هذا القرار من ضمن توافق داخلي، خصوصاً ان السيّد شدد على ان الحوار اساسي وأنه لا يمكن لاحد ان يتخطّى او يلغي احداً. هذا فيما يدعو السيّد إلى الحوار وإلى الحفاظ على المؤسسات ومشروع الدولة. فيما يدعم موقفه بتنظيم مسلّح حتى اخمص القدم، وكأنه يستعمل مقولة الرئيس الاميركي تيودور روزفلت:" تكلّم بلطف، لكن احمل عصا غليظة". ولان قيادة"حزب الله"عُرفت بالعقلانيّة المتميّزة, وفي ظلّ ما يدور حولنا وعندنا, يبدو ان الحماية الفضلى للمقاومة ولانجازاتها هي من الداخل اللبناني، والذي لا يريد بالطبع ان تكون هذه المقاومة ثمنا في لعبة الامم، الكبيرة منها والصغيرة، البعيدة كما الشقيقة. * استاذ محاضر في جامعة سيّدة اللويزة-عميد ركن متقاعد