شهد هذا العام إشارات مشجّعة لإنهاء الصراع بين اسرائيل وجيرانها الفلسطينيين بما في ذلك انتخاب رئيس جديد للسلطة الفلسطينيّة والتغيّرات الجذريّة في المشهد السياسي الاسرائيلي. لكنّ المسألة الأهمّ تمثّلت في انسحاب اسرائيل من قطاع غزّة. وتنذر هذه التغيّرات بخطوة كبيرة في اتجاه سلام طويل الأمد في المنطقة. في بداية كانون الثاني يناير الماضي، عدتُ مرّة أخرى إلى المنطقة للقاء قادة اسرائيليين وفلسطينيين ولترؤس فريق من مركز"كارتر"في مراقبة انتخاب خلف للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي توفي في فرنسا قبل شهر من ذلك. وبعد أن هبطت الطائرة التي أقلتني في تل أبيب، كانت محطتي الأولى في مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون الذي عرفته منذ أكثر من ربع قرن، كرفيق في الزراعة وضابط سابق وعضو فاعل في مجلس الوزراء ساعد عام 1979 في إقناع رئيس الوزراء الممانع آنذاك مناحيم بيغن بقبول اقتراحاتي النهائيّة في شأن معاهدة سلام بين اسرائيل ومصر. وخلال زيارتي في كانون الثاني، بدأنا الحديث بمناقشة الأهميّة المشتركة للمعاهدة الاسرائيليّة - المصريّة بالنسبة إلى كِلا الجانبين، والواقع اللافت عدم انتهاك أيّ بندٍ منها. ولم نتناول في حديثنا القرار الذي اتخذه شارون عندما كان وزيراً للدفاع باجتياح لبنان عام 1982، وهو عمل افتقر إلى التفكير وتمثّلت نتائجه في مذبحة ذهب ضحيّتها 1100 شخص من الأبرياء والضعفاء في مخيّمين للاجئين. فأدّى التحقيق الذي تلى المجزرة إلى استقالته من منصبه بالإضافة إلى حظر توليّه وزارة الدفاع بعد ذلك. ولكن لم يتوقّع أحد في تلك الفترة أن يصبح رئيساً للوزراء يوماً ما. هذان الوجهان من ماضي شارون السياسي، أي الالتزام بالسلام والجرأة وفي ابتكار طريقة للعمل، ساعداني في فهم قراره سحب القوّات الاسرائيليّة والمستوطنين من غزّة مع الاستمرار ببسط سيطرته المحكمة على حياة جميع الفلسطينيين ورفض نقل المستوطنين الاسرائيليين من الضفّة الغربية. سألت شارون بضعة أسئلة حول كيف سيتمكّن الفلسطينيّون"المحرّرون"في غزّة من السفر إلى مصر، وكيف سيعبرون الأراضي الاسرائيليّة إلى الضفّة وكيف سيتمكّنون من السفر من دون إعاقة إلى الخارج، عبر البحر المتوسط المجاور أو عبر الجوّ. فكان جوابه الوحيد والواضح أنّ اسرائيل ستجهّز خطّاً حديديّاً بين غزّة والضفّة الغربيّة وسيُسمَح للفلسطينيين بالحصول على قطار وتشغيله. وبما أنني ساعدت في مراقبة انتخاب عرفات والمجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996، طرحت على شارون أيضاً إن كان بإمكان الناخبين الفلسطينيين المسجّلين أن يوزّعوا صناديق الاقتراع في القدس الشرقيّة، وهل سيُفتَح نظام نقاط التفتيش الاسرائيليّة للسماح لهم بالانتقال من مكان إلى آخر عبر الأراضي المحتلّة. أجاب شارون بأنّ القدس الشرقيّة أرض اسرائيليّة، وأنّ بإمكان الفلسطينيين القلائل الذين يعيشون هناك والذين تجرّأوا على تسجيل أسمائهم كمنتخبين، أن يدلوا بأصواتهم عبر إرسالها بالبريد الالكتروني إلى الضفّة الغربيّة لتُحتسب. أمّا نقاط التفتيش فسيُسهل المرور عبرها وفقاً لما تسمح به الحال الأمنيّة. بعد ذلك بوقت قصير، كانت محطّتي الثانية في رام الله حيث تشاورت مع القادة الفلسطينيين في مكتب يطلّ على الفناء الذي لا تزال أرضه مكسوّة بالحجارة والحصى، وهو المكان الذي دُفن فيه الرئيس الراحل ياسر عرفات. وكان الناطق الأساس باسم القادة هو محمود عبّاس الذي انتُخب بعد أيام خلفاً لعرفات. وسألني الفلسطينيّون عن تصديقي أنّ شارون كان مصمّماً أو حتى قادراً على سحب المستوطنين الاسرائيليّين من غزّة، وقلّلوا من أهميّة تسليم القطاع ولو حصل. وإضافة إلى مسألة الانتخابات الرئاسيّة وانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني اللتين كان مزمعاً إجراؤهما حينذاك في شهر تموز يوليو، أبدى القادة الفلسطينيّون قلقهم المتزايد من الاحتلال الاسرائيلي للقدس الشرقيّة والضفّة الغربيّة. وأظهر الفلسطينيّون معرفتهم التامّة بشروط"خريطة الطريق"وهي خطّة شاملة للسلام نشرتها مجموعة رباعيّة دوليّة تضمّ الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدةوالولاياتالمتحدة. وأعلن عبّاس والمجتمعون الآخرون التزامهم الكامل بالخطّة كما حال ثلاثة أعضاء من المجموعة، أشاروا إلى معارضة شارون العلنيّة لتطبيق عشرات النقاط الأساسيّة من الخريطة بما فيها انسحاب اسرائيل من الضفّة الغربيّة المحتلّة. وأضافوا أن لا إشارات تدلّ على أنّ إدارة بوش ستظهر مراعاتها ومساندتها الكاملتين لقرار حكومة شارون. وبعد انتخاب عبّاس رئيساً في 9 كانون الثاني الماضي، زرت المكتب البيضاويّ في البيت الأبيض لرفع تقرير إلى الرئيس بوش حول محادثاتي وحول الانتخابات الفلسطينيّة، فناقش بوش تخمين القادة الفلسطينيين حول مساندته لإسرائيل وأعرب عن التزامه بتطبيق كل بنود"خريطة الطريق". بعد ذلك، أرجئت الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة إلى كانون الثاني المقبل وقد استكمل 8000 مستوطن انسحابهم من غزّة بنجاح. لكن درجة الحريّة التي ينعم بها فلسطينيّو غزّة لا تزال محدودة، خصوصاً في مسألة دخولهم فترات طويلة إلى مصر وسفرهم إلى بلدان أخرى جواً أو بحراً، وانتقالهم لرؤية الفلسطينيين الآخرين في الضفّة الغربيّة. في غضون ذلك، توسّعت المستوطنات الاسرائيليّة في الضفّة المحتلّة، واستمرّ بناء الجدار الفاصل على الأراضي الفلسطينيّة. كما يبني الاسرائيليّون شبكة طرق تصل بين المستوطنات وبينها وبين اسرائيل، مع الإشارة إلى أنّ معظم هذه الطرق مخصّص لمرور الآليّات الاسرائيليّة فقط. من جهة أخرى، استمرّت أعمال العنف الفلسطينيّة على رغم تراجع وتيرتها في شكل ملحوظ منذ انتخاب عبّاس. لكن بعض قادة"حماس"وپ"الجهاد الاسلامي"أعلن جهاراً تصميمه على مواصلة الهجمات على الأهداف الاسرائيليّة العسكريّة والمدنيّة، في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة واسرائيل. وبرز تطوّر مثير للنزاع ومشجّع في آن، تمثّل في ترشّح أعضاء من حماس للانتخابات المحليّة في غزة والضفّة وما حملوه معهم من خطط لحملة انتخابيّة تهدف إلى حصد مقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني. وأيقظ نجاحهم المفاجىء في تحدّي حركة"فتح"بقيادة عرفات ثمّ عبّاس، الأمل بأنّ"حماس"ستتخلّى عن العنف أقلّه في الأيام المقبلة. ولكنّ هذا الترشّح أثار أيضاً القلق من أن تؤدّي عضويّتهم إلى تطرّف المجلس التشريعي. ويُطرح سؤال أساس عما إذا كان الانسحاب الاسرائيلي من غزّة يشكّل نقطة تحوّل حقيقيّة أو أنّه خطوة أخرى متعثّرة على طريق السلام المستحيل. ويتوقّف الجواب على سياسات الولاياتالمتحدة وعلى المسألة الأساس المتمثّلة في سحب المستوطنات الاسرائيليّة من مساحة كافية من الضفّة الغربيّة، ما يفسح في المجال أمام إنشاء دولة فلسطينيّة ثابتة اقتصاديّاً وسياسيّاً، إضافة إلى مسائل أخرى يجب حلّها منها وضع القدس الشرقيّة وعدد اللاجئين الفلسطينيين الذين سيُسمح لهم بالعودة إلى الدولة الفلسطينيّة الجديدة أو إلى الأملاك التي خسروها وعائلاتهم عام 1948. أمّا الأهداف الجوهريّة التي عبّرت عنها"خريطة الطريق"واقتراحات السلام الشامل التي كانت محور تفاوض، بما في ذلك اتفاقيّة جنيف فهي تشكّل مسودّة ملائمة للبدء بمفاوضات ناجحة. وفي رأيي، ستلاقي هذه المقدّمات الأساس الدعم من الأسرة الدوليّة ومن جميع قادة العرب تقريباً، وغالبيّة ساحقة من المواطنين الاسرائيليين والفلسطينيين. فما الذي يعوق مزيداً من التقدّم؟ تتمثّل العوائق الواضحة في استمرار التهديدات بالعنف التي يطلقها الفلسطينيّون المتطرّفون، وفي تصميم بعض المستوطنين على مواصلة احتلالهم الأراضي الفلسطينيّة بالإضافة إلى تسليم الدول الأخرى بتقدّم الولاياتالمتحدة عليها في عمليّة السلام، وامتناع القادة السياسيين الأميركيين عن مواجهة القوى النافذة والمؤيّدة لاسرائيل والمنتشرة في واشنطن وسواها من المناطق. ولا يشكّل العامل الأخير قلقاً كما يبدو، لأنني اكتشفت منذ ربع قرن أنّ معظم القادة اليهود في الولاياتالمتحدة سيدعمون تقديم اسرائيل تنازلات في مقابل إحراز تقدّم ملموس نحو السلام. ومن المحتمل أن يرفض البعض أيّ تنازلات فعليّاً إلا أنّهم يشكّلون أقليّة. ولا يزال استعداد اسرائيل لبناء أسس متينة على المكاسب التي أنتجها الانسحاب من غزّة لتحقيق سلام عادل وشامل، أمراً غير أكيد. كما أظهر هذا الانسحاب نقطة سلبيّة واضحة، تمثّلت في رغبة القادة الاسرائيليين في اتخاذ قرارات أحاديّة من دون إشراك الأطراف الأخرى، الولاياتالمتحدة أو الفلسطينيين في المسائل المتعلّقة بعمليّة السلام. وبعد اكمال الانسحاب من غزّة، من الممكن أن تؤدّي الفوائد العابرة لكِلا الجانبين إلى إفساد أيّ جهود إسرائيليّة حقيقيّة على طريق السلام الشامل والدائم. فمع ازدياد السيطرة على القدس الشرقيّة وتحسين الأمن خلف الجدار المعتدي الذي بُني في الضفّة الغربيّة، ومع عشرات الآلاف من المستوطنين الاسرائيليين في الضفّة الغربيّة الذين تحميهم قوّات الاحتلال، يواجه عدد كبير من الاسرائيليين رغبة قويّة في الانسحاب بكلّ بساطة من أي جهود إضافيّة للسعي إلى اتفاق سلام مبنيّ على"خريطة الطريق"برعاية المجموعة الرباعيّة، أو على أي عرض مشابه. ومن شأن الانسحاب الاسرائيلي من عمليّة السلام أن يترك الفلسطينيين يتخبّطون في مستقبل يستحيل عليهم أو على أيّ قسم من الأسرة الدوليّة القبول به. وكما هو محدّد حاليّاً، تشكّل غزّة منطقة غير قابلة للحياة اقتصاديّاً وسياسيّاً، وسط انعدام إمكان قيام دولة فلسطينيّة ذات سيادة تتألّف من القسم المتبقّي من أراضي الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة. وستزداد الجهود الاسرائيليّة لتكريس استمرار هذا الوضع صعوبة مع ازدياد عدد الفلسطينيين في شكل لافت، في اسرائيل والأراضي المحتلّة. وتكمن الإجابة العقلانيّة الوحيدة عن هذه التحديّات في إحياء عمليّة السلام، وسط تأثير قويّ يجب أن تبذله الولاياتالمتحدة. ولا يمكن تجاهل الوعود التي يحملها عام 2006 مع حدوث تطوّرات جذريّة وواعدة تمثّلت في الانتخاب المفاجئ لعمير بيريتس على رأس حزب العمل وانسحاب شارون من حزب ليكود وتشكيله حزب"كاديما"الهادف إلى إرساء السلام. وبواسطة هذا الحافز، يجب أن يكون الانسحاب من غزّة نقطة تحوّل في سبيل إرساء سلام دائم للإسرائيليين، وبسط الحريّة والعدل للشعب الفلسطيني. جيمي كارتر الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة، وهو مؤسس"مركز كارتر"في مدينة أتلانتا الذي يهدف إلى تحسين حقوق الانسان وتخفيف معاناة البشر. ونال كارتر عام 2002 جائزة نوبل للسلام. خدمة "نيويورك تايمز" ، خاص بپ"الحياة"