ربما كان واحداً من قلة من مخرجين في العالم لا تحتاج الى ان تصرخ في كل لحظة حين تصور مشاهد افلامها:"سكوت... اننا نصوّر"، ذلك ان مايكل مور لا يحب السكوت. يحب الضجيج، حين يصور وحين يعرض ما يصور، وحين ينال الجوائز. وبخاصة حين يتصدى له مناوئوه. وهؤلاء يقولون عادة، ان الصراخ جزء اساسي من فن مايكل مور. تصوروه مثلاً صامتاً بعد ان يعطى جائزة الاوسكار او السعفة الذهبية في"كان". لو صمت، من سينوب عنه في الكلام ضد بوش أو ضد شارلتون هستون، مثلاً؟ من سيصرخ:"عار عليك يا سيد بوش!". وبالتالي يقول مناوئوه، من سيضع ماء في طاحونة الرئيس الاميركي الحالي ويساهم في فوزه بولاية ثانية مواربة؟ على حد تعبير بعض اليسار الاميركي الذي لم يحب"فهرنهايت11/9"، وما فيه من مبالغات و"ضروب عنصرية"جعلت قطاعات عريضة من يمين اميركي شعبوي معين تقف مع بوش.. ودائماً بحسب اتهامات يوجهها ديموقراطيون يساريون اميركيون الى مايكل مور؟ "فهرنهايت 11/9"نال حظه من العرض والمديح والهجوم.. وتم التوافق في نهاية الامر على انه"منشور"سياسي اكثر منه عملاً فنياً. وقيل ان فعاليته كانت محدودة. ولكن في المقابل لم يتمكن كثر من قول الكلام نفسه على الفيلم السابق لمايكل مور... الفيلم الذي حقق له الاوسكار... فكان اول"اوسكار"كبير يناله نوع سينمائي ظل دائماً طي الاهمال: الفيلم الوثائقي. ولكن هل كان هذا الفيلم حقاً فيلماً سينمائياً؟ نتحدث هنا، بالطبع، عن"باولنغ من أجل كولومباين"الذي يعرض في الحادية عشرة مساء اليوم بتوقيت باريس على القناة الثانية الفرنسية الرسمية... ليشكل حدثاً تلفزيونياً. ولكن، في الوقت نفسه ليسجل عودة الفيلم الى مكان عرضه الطبيعي. فهو، في الحقيقة، شريط تلفزيوني، فيه اسلوب الريبورتاج التلفزيوني، وجماليات الصورة الاخبارية والحوارية التلفزيونية. ثم ان موضوعه - وهو بالنسبة الى الاميركيين اكثر خطورة بكثير من موضوع"فهرنهايت 11/9"تلفزيوني، لانه يدخل الى كل بيت. وكل بيت اميركي احس نفسه قبل سنوات معنياً بمسألة انتشار الاسلحة الفردية دون وازع في طول اميركا وعرضها، وبخاصة بين ايدي المراهقين. ونعرف ان هذا هو موضوع الفيلم، وان مايكل مور دنا منه لمناسبة مجزرة كلية كولومباين، حيث حدث في العام 1999، ان قتل مراهقان مدججان بالسلاح استاذاً في الكلية و13 مراهقاً تلميذاً بدم بارد. مور، الذي كان عرف بشرائطه الاحتجاجية وكتبه الصاخبة، انطلق من تلك الحادثة ليقدم اقصى ادانة ممكنة ضد الذهنيات الاميركية، عبر حكايات وحوارات ومرافعات اتهام منها واحدة ضد الممثل السابق شارلتون هستون، الزعيم الذي لا ينازع للوبي انتشار السلاح الناري في اميركا. وهذا كله نشاهده مساء اليوم في هذا الفيلم العنيف والحقيقي الذي كان هو، وليس أي عمل آخر لمايكل مور، من اطلق شهرة هذا الاخير في العالم اجمع، بل ربما يمكننا ان نقول ان هذا الفيلم سدد ضربة اذى الى اليمين الاميركي والى عهد جورج دبليو والى لوبي تجار الاسلحة، اكثر بكثير مما كان فعل فيلمه الاسبق عن البطالة والطبقة العاملة"روجر وأنا". او حتى فيلمه اللاحق عن حرب العراق"فهرنهايت 11/9". واذا كان مايكل مور قد صوّر في هذا الفيلم الاخير رئيس الولاياتالمتحدة وهو يقول له بعدما قدم نفسه، وكاميراه، اليه:"آه.. انت السيد مور؟ ترى لم لا تبحث لنفسك عن عمل نافع"، فان الغيظ البادي في كلام بوش، ناتج طبعاً عن الشعبية والفاعلية اللتين كانتا ل"باولنغ من اجل كولومباين". ومع هذا، قد لا يصح ان نختم هذا الكلام، الا بالعودة الى مسألة كونه عملاً تلفزيونياً، في الاصل، أو سينمائياً. وفي هذا المجال قد يكون السبيل الوحيد لاقناع قارئنا، هو مطالبة بأن يقارب بين"باولنغ من اجل كولومباين"الوثائقي، وفيلم آخر عن الموضوع نفسه، لكنه روائي وسينمائي حقاً في هذه المرة، حققه غاس فان سانت بعنوان"الفيل"... وكان سابقاً ل"فهرنهايت 11/9"بعام في الفوز بسعفة"كان"الذهبية.