من المؤكد ان مهرجان "كان" لم يشهد، منذ ربع قرن على الأقل، تصفيقاً لأحد أفلامه، استمر ما يقرب من عشرين دقيقة شاركت فيه الصالة كلها، فيما أهل الفيلم غارقون في دموعهم، والرجل المقصود بالتصفيق يحاول ان يتمالك نفسه حاملاً وزنه الثقيل ناظراً الى الحضور بامتنان. هذا التصفيق، أكثر من الفيلم الذي استحقه، كان هو الحدث يوم الاثنين في المهرجان السينمائي الفرنسي. الفيلم اسمه "فهرنهايت 11/9". والمخرج اسمه مايكل مور. الرجل نفسه الذي نال الأوسكار في العام الماضي عن فيلمه "بولنغ من أجل كولومباين"، وقف على المنصة صارخاً: "عار عليك يا سيد بوش". في الحقيقة ان "فهرنهايت 11/9" كان الفيلم المنتظر أكثر من غيره، أولاً لمكانة مايكل مور التجديدية في هذا النوع من السينما. وثانياً بسبب موضوع الفيلم نفسه، أو غرضه: "كشف الستار عما حدث وعما تلا تدمير برجي مركز التجارة العالمي". وثالثاً بسبب الضجة التي صاحبته: سيعرض، سيؤجل عرضه، والت ديزني لا تريده، لم يُختر موزع له... كل هذا صاحب الحديث عن "فهرنهايت 11/9" وشكل له، على أي حال، دعاية جيدة. ومع هذا لا بد من القول ان الفيلم أتى مخيباً للآمال بعض الشيء، خصوصاً لأنه لم يأتِ بأي جديد... كل ما في الفيلم معروف... أما المجهول الذي يمكن لمايكل مور أن يقول انه اكتشفه، كان هو نفسه نشره في كتابه "الكل الى الملجأ" الذي صدر قبل شهور وحظي برواج واسع. ومع هذا يبقى من الفيلم كونه، وعلى عكس ما كان متوقعاً منه، يسجل مرافعة حادة وموثقة وساخرة ضد أربع سنوات من حكم جورج بوش الابن. وفي هذا الاطار يبدو "فهرنهايت" فيلماً موجهاً الى أميركا... وربما أيضاً الى الناخبين في المعركة الرئاسية الأميركية المقبلة... ولكن حتى هنا ربما تكون فاعليته محدودة... ذلك ان الفيلم براديكاليته، يخاطب غالباً من هم، سلفاً، ضد بوش، وقد يكون من الصعب عليه اقناع الآخرين. أما من الناحية الفنية، فإننا هنا، مرة أخرى، أمام اسلوب مايكل مور المعهود: التوثيق والتوليف الذكي البارع، والسخرية السوداء، والالتفاف على خطاب الآخر بوش لتحويله سلاحاً ضده. صحيح ان ثمة في "فهرنهايت 11/9" بعض لحظات تبدو خارج السياق مثل تلك المشاهد التي يسخر فيها مور من الدول الصغيرة المشاركة في التحالف. ولكن في المقابل ثمة لحظات غاية في القوة، ومنها مثلاً، تلك التي يقف فيها مايكل مور نفسه قرب الكونغرس ليسأل نوابه لماذا لا يرسلون ابناءهم الى العراق ليشاركوا في حرب لم يجند فيها سوى ابن سيناتور واحد. في كل الاحوال قدم مايكل مور في "فهرنهايت 11/9" عملاً ضخماً ولاذعاً يناسب مواقف جميع الذين يناهضون الحرب... وبينهم، بالطبع، المخرج كوينتن تارانتينو، رئيس لجنة التحكيم في المهرجان حيث فيلم مور يشارك في المسابقة، والذي، في سابقة مدهشة، وقف بعد عرض الفيلم يصفق بدوره طوال ثلث ساعة ويهتف لزميله المشاكس، خصوصاً حينما صرخ الأخير "بوش... خارجا". فهل تعني وقفة تارانتينو، مثلاً، أن فيلم مور يمكن أن يفوز بجائزة كبرى، أو ب"أم الجوائز" السبت المقبل، ما سيشكل بدوره ظاهرة استثنائية، استثنائية مايكل مور نفسه؟