"هالو... مستر بريزيدانت... اسمي مايكل مور..." "آه... انت مايكل مور؟ لماذا لا تبحث لنفسك عن مهنة حقيقية". هاتان العبارتان تردان في احد اطرف مشاهد فيلم "فهرنهايت 11/9" الذي فاز بالسعفة الذهبية في الدورة الاخيرة لمهرجان "كان" السينمائي. وهما عبارتان متبادلتان، كما يمكننا ان نفهم منهما، بين الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، والسينمائي/ الكاتب مايكل مور صاحب الفيلم. وهما بدتا من القوة والصدق الى درجة ان في الوقت الذي كان متوقعاً فيه، منذ ايام ان يفوز "فهرنهايت 11/9" بالجائزة الاسمى في هذا المهرجان الفرنسي العريق والحافل بالبعد النجومي عادة، كان يتندر البعض بتوقع ان تعطى جائزة التمثيل الرجالي مناصفة، في المهرجان نفسه، بين بوش ومور. العدوان اللدودان. فالحقيقة ان على رغم وجود عشرات النجوم الكبار في "كان"، من تشارليز ثورون الى ايمانويل بيار، ومن براد بيت الى توم هانكس... سيطرت نجومية بوش/ مور، على المهرجان منذ ايامه الاولى. وهذا ما عزز القول إن دورة هذا العام من "كان" بدت الاكثر سياسية - بل حتى ايديولوجية - منذ اولى دورات هذا المهرجان الذي يقام مرة في كل عام منذ ستة عقود من السنين تقريباً. لجنة التحكيم، على لسان رئيسها المخرج كوينتن تارانتينو، قالت في مؤتمر صحافي عقد غداة اعلان النتائج، ان هذه لم تكن سياسية على الاطلاق. ولم يقتنع طبعاً بحججها احد. فأن يفضل "فهرنهايت 11/9" على افلام عالية الجودة الفنية، وحتى متميزة في مضامينها الانسانية او السياسية او الابداعية - الى اي نوع انتمت - مثل "الحياة معجزة" و"2046" و"يوميات سائق دراجة" بين اعمال اثارت اعجاب النقاد والجمهور على السواء، امر لا يمكنه ان يمر مرور الكرام. صحيح ان "فهرنهايت 11/9" عمل متميز فنياً، وصنع بذكاء شديد في توليف حفظ جيداً دروس ايزنشتاين. لكن هذا لا يصنع منه بالطبع تحفة فنية. وفي يقيننا ان لو كان اسم مخرجه اي اسم آخر غير مايكل مور، لما كان اهتم به احد مثل هذا الاهتمام. ولو كان الفيلم موجهاً، في معركته السياسية، ضد شخص آخر غير جورج بوش لكان مر مرور الكرام. لكن الفيلم أفاد من تعاطف مسبق مع مايكل مور، كما من حال اجماع عالمي ضد جورج بوش الابن، لكي يضرب ضربته. راحة لضميرهم ومايكل مور اعتاد دائماً ان "يضرب ضربته" في اللحظة المناسبة فهو، بوزنه الذي يزيد كثيراً على مئة وثلاثين كيلوغراماً، وسحنته القريبة من سحنة "بابا نويل" وبخفة حركته التي تتناقض تماماً مع وزنه، لا يكف، منذ نحو عشرين سنة عن المشاكسة، في الساحة السياسية الاميركية. وحتى إن كان كثر يرون انه، في نهاية الامر ليس اكثر من مهرج ذكي، ومناضل شعبوي، يعرف ماذا يرفض لكنه لا يعرف ابداً ماذا يريد، فإنه هو - بفضل هذه الشعبوية التي تضعه في مكان ما، ايديولوجياً، بين المهرج الفرنسي الراحل كولوش، وبين اليميني الفرنسي المتطرف جان - ماري لوبان - تمكن من ان يوجد لنفسه مكانة، غامضة بعض الشيء على اي حال، في الساحة السياسية الاميركية... ولكن ليس، في الساحة الفنية، حتى وان كان كثر من الفنانين الاميركيين يستظرفونه ويرون انه يعبر عنهم جميعاً. فهو، يقول "بصوت عال عادة ما لا يرغب كثر في قوله إلا بصوت منخفض". ومن هنا يأتي تأييد بعض النخب الاميركية له، كنوع من راحة ضمير لهذه النخب، خصوصاً انه في افلامه الستة التي حققها حتى الان، كما في كتبه الكثيرة التي تلقى رواجاً كبيراً عادة، يطاول مسائل في عمق الايديولوجية الاميركية: حرية المؤسسات في صرف عمالها كما تشاء في فيلم "روجر وأنا" تجارة السلاح كسبب مباشر لانتشار الجريمة في الولاياتالمتحدة كما في "باولنغ من اجل كولومباين" والحرب على العراق في فيلمه الاخير. وازاء راحة الضمير هذه، التي تشعرهم بها افلام مور، يغفر كثر من اهل النخبة الاميركية لهذا المشاكس ان يوحي مثلاً، في فيلمه الاخير، بأن العراق، قبل ضربة بوش، كان جنة الله على ارضه: الشعب أنيق وسعيد، الاعراس والحدائق في كل مكان. والعدالة ترفرف... وهذه فكرة من الصعب ان نجد من يشاطرها مور، اذا استثنينا اليميني الفاشي الفرنسي جان ماري لوبان، وغلاة الصداميين العرب، من قوميين وناصريين واسلاميين. لكنها في "فهرنهايت 11/9" تمر هكذا وكأنها امر مسلم به. وكذلك الحال بالنسبة الى العنصرية الساذجة التي يتحدث بها الفيلم عن بعض الدول الثانوية التي تساند بوش في معركته العراقية هندوراس والمغرب... كل هذا يضع مايكل مور في خانة ديماغوجية واضحة، لكن اهل "كان" شاءوا غض النظر عنها اذ اعتبروا ان النضال ضد جورج بوش له الافضلية على مثل تلك التفاصيل الصغيرة. أسرار معروفة ويقينا ان هذا الامر كان في ذهن مايكل مور، حينما وقف، اثر العرض الجماهيري الاول ل"فهرنهايت 11/9" يتلقى بسرور بالغ تصفيق الحضور طوال ثلث ساعة وهو امر لم يحدث كثيراً في تاريخ مهرجان "كان"... إذ كان، كلما خف التصفيق يصرخ "بوش... خارجاً" مذكراً بما كان فعله قبل عام ونيف، حينما نال جائزة اوسكار افضل مخرج فوقف خطيباً وهو يصرخ "عار عليك يا سيد بوش". ان هذا كله كان واضحاً: مايكل مور يعتبر ان معركته ضد جورج بوش معركة شخصية. ويعرف يقيناً ان معركته ضد جورج بوش قادرة على ان تخلق من حوله مناصرين كثراً. وازاء هذا هل يهم حقاً، ان يكون كل ما في فيلمه الجديد قديماً معروفاً من قبل، وبخاصة حينما يتحدث باسهاب عما يسميه العلاقات المالية - وربما العائلية - التي تربط بين بوش الاب والابن، من ناحية، وأسرة محمد بن لادن والد أسامة بن لادن من ناحية ثانية؟ وأيضاً حين يقدم مرافعة سياسية - تستند حقاً الى سذاجة الرئيس الاميركي جورج بوش - تتعلق بخلفيات الحرب العراقية؟ او حينما يتحدث الى سيدة تبدي اول الامر حماسة كبيرة لحرب يشارك فيها ابنها، ثم حين يقتل هذا الابن في الحرب تنتفض ضد سياسة جورج دبليو؟ ان هذا كله معروف... بل ان مايكل مور نفسه سبق ان استخدمه، نصاً في كتابه الصادر قبل شهور عن الحرب العراقية وعن تدمير الارهابيين لبرجي مركز التجارة العالمي، وعنوانه "داد... أين هو بلدي؟" الذي ترجم الى الفرنسية تحت عنوان "الكل الى الملجأ"... ومع هذا، على رغم ان "فهرنهايت 11/9" لا يحمل اي جديد وأتى خالياً من اي مفاجأة... بل انه لم يلتزم ب"الوعود التي كانت مقطوعة" بقول أمور مذهلة حول عملية البرجين كما حول العراق وأسلحة الدمار الشامل وغيرها من المسائل المطروحة على الصعيد العالمي، منذ سنتين وأكثر، فإنه في نهاية الامر فيلم مشغول بذكاء... اذ انه يولف مشاهد صورها مور بنفسه، جنباً الى جنب مع صور نادرة للمعارك وضحاياها، ويستجوب العديد من الاشخاص المعنيين، ويستعين بلقطات رائعة للرئيس جورج بوش. ومنها ذلك المشهد الذي لا ينسى للرئيس الاميركي وهو يقنع طلاباً صغاراً بفائدة القراءة، حينما يأتيه نبأ تدمير البرجين فيصمت طوال دقائق ويبدو على وجهه بله استثنائي، قبل ان يستأنف حديثه عن القراءة. كل هذا عرف الفيلم كيف يولفه بشكل جيد، ليصل في مشهد نهائي "يمثل" فيه مايكل مور بنفسه، الى الدوران من حول مجلس النواب الاميركي سائلاً هؤلاء عما اذا كانوا يرغبون في ارسال اولادهم ليحاربوا في العراق، قائلاً لهم إن معلوماته تشير الى ان سيناتوراً واحداً من بين المئات ارسل ابنه ليشارك في الحرب هناك. لحساب من يعمل؟ أمام فيلم من هذا النوع، وفيه توليف جيد - حتى وان لم يكن جديداً - لما يتناقله العالم كله طوال الشهور الاخيرة من حول ما يحدث في هذا العالم، هل كان في الامكان البحث عن فيلم اكثر شعبوية من "فهرنهايت 11/9" لمنحه سعفة كان الذهبية؟ "في اللحظات الحرجة والمصيرية ليس ثمة وقت للجماليات". قالها مرة احد الحزبيين الكبار. ومايكل مور يبدو دائماً راغباً في اتباع هذا القول، مثل كل المناضلين الذين يعيشون ويبدعون وسط الازمات وبفضلها. ومن حظ مايكل مور ان العالم لم يكف عن عيش ازمات العنف والارهاب والعولمة والبطالة، منذ تفتح وعيه الخاص على هذا العالم. ومن هنا لا يعود غريباً لشاب اميركي ولد العام 1954، وعاش اولى لحظات وعيه خلال سنوات السبعين. وكان منذ صباه مشاكساً معادياً لأي سلطة، قادراً وبسرعة عجيبة على شخصنة كل صراع يخوضه "أما أنا... او هم" يقولها دائماً وهو في اوج صراعه مع سلطة معينة، لا يعود غريباً عليه ان يبدأ "نضاله" بفيلم رائع عن جنرال موتورز وطردها للعمال تعسفياً روجر وأنا" - 1989... وهي المعركة نفسها التي يتابعها في "الواحد الكبير" 1998... وبين الفيلمين كان حقق في العام 1995 فيلمه الروائي الطويل الوحيد "بيكون كندي" يتخيل فيه ان مؤشرات شعبية رئيس اميركي قد هبطت فوجد لزاماً عليه ان يفتعل حرباً تؤلب الامة من حوله وترفع شعبيته، فيعلن حرباً ضد... كندا. ومور كان، في الوقت نفسه الذي يحقق فيه هذه الافلام التي حققت في حينه نجاحات متفاوتة انما لم توصل سمعته الى العالم، يصدر كتباً تلقى رواجاً كبيراً، لعل اشهرها "رجال بيض حمقى"، الذي باع ملايين النسخ وأوصل صوته وسمعته الى العالم اجمع. اما كسينمائي فلقد كان عليه ان ينتظر العام 2002 وعرض فيلم "باولنغ من اجمل كولومباين" وجائزة كبرى نالها في دورة ذلك العام لمهرجان "كان" ثم فوزه بالأوسكار، حتى يصبح اسمه على كل لسان، بخاصة انه ثنى على ذلك بصراخه ضد جورج دبليو وجملته الشهيرة حول "عار" هذا الاخير. اليوم يبدو مايكل مور، خارج الولاياتالمتحدة على الاقل، قيمة ثابتة ومتعاظمة. شعبوية ونضالية ولكن تجارية ايضاً... ومن المؤكد ان هذه السمعة الخارجية ستنعكس على وضعه في داخل الولاياتالمتحدة، بخاصة ان فيلمه ""فهرنهايت 11/9" سيعرض خلال اسابيع، بعد شائعات عدة رافقت امكان هذا العرض ويبدو انها مرتبة تماماً ضمن اطار حملة الدعاية المنظمة للفيلم. ومنذ الآن يقول كثر ان الفيلم سيستخدم جيداً في المعركة الانتخابية ضد جورج بوش الابن. فهل معنى هذا انه سيعود بالفائدة على مرشح الحزب الديمقراطي؟ من الناحية المبدئية نعم... وهذا ما يجعل كثراً يرون ان مايكل مور، الذي يبدو ظاهرياً، زئبقي التوجه، انما يعمل في الحقيقة لحساب الديموقراطيين. ومع هذا فإن هؤلاء لا يكفون عن ابداء الحذر تجاهه... وهو الحذر نفسه الذي تبديه ازاء مايكل مور وكتبه وأفلامه، نخبة المفكرين الليبراليين واليساريين الاميركيين، من الذين يرون ان شعبويته قد تضر بهم وبمعاركهم العقلانية، بمقدار ما تضر بجورج بوش على المدى القصير. ترى أليس موقفاً من هذا النوع كان ذاك الذي عبر عنه مفكرون فرنسيون قبل عقود، وابان الظهور الشعبوي الكبير لجان - ماري لوبان واكتساحه عقل الناخبين الفرنسيين، تجاه لوبان؟ سؤال طرح بقوة وصار محل سجال منذ سنتين. ولكن من الواضح ان مايكل مور ليس من النوع الذي قد يبالي بمثل هذا النوع من الاسئلة. من التناقض الى الطائرات الخاصة ليست العلاقة مع كبار رأسماليي هوليوود هي "التناقض" الوحيد الذي يعيشه مايكل مور، داخل عمله وبالنسبة الى طروحاته الفكرية... بل ثمة العديد من التناقضات. ولعل لومه لجورج بوش على هربه من الخدمة العسكرية في فيتنام مقابل ثنائه على الجنرال وسلي كلارك لأنه كان واحداً من ابطال تلك الحرب... وهو موقف يتناقض تماماً مع مناهضة صاحب "فهرنهايت 11/9" للحرب في العراق ولارسال الجنود الأميركيين اليها، تكشف ذروة هذا التناقض. ومهما يكن من الامر فإن حياة مور كلها صنعت من مثل هذه المواقف المتناقضة، سواء حينما كان طالباً ومسؤولاً عن صحيفة الطلبة، ذات النزعة التقدمية في بلدته فلينت في ميشيغان، أم حينما صار صحافياً بعد ذلك، ثم حينما صار كاتباً وسينمائياً مرموقاً. ومايكل مور الذي يفخر بكونه مواطناً أميركياً، ولد في 23 نيسان ابريل 1954 في بلدة فلينت التي كانت من أهم مراكز صناعة السيارات... وفيها صور فيلمه الاول "روجر وأنا"... كما انه أظهرها في أحد أجمل مشاهد فيلمه الاخير "فهرنهايت 11/9". وهو عاش في صباه ذلك التمرد الطالبي الذي كان سمة بارزة من سمات المجتمع الاميركي في ذلك الحين... غير انه سرعان ما توجه في تمرده ضمن اطر فردية، مناوئاً كل سلطة وجماعة، بما في ذلك عميد الكلية الجامعية التي تلقى فيها دروسه العليا، وكان قد أقسم على ان يكشف من الفضائح ما ينسف سمعة العميد، وحقق ذلك. ويبدو ان هواية اسقاط الزعماء صارت احدى سمات شخصيته منذ ذلك الحين. حقق مايكل مور حتى الآن ستة افلام طويلة اهمها "روجر وأنا" 1989، "بيكون كندي" 1995، "الواحد الكبير" 1998، "بولنغ من اجل كولومباين" 2002 واخيراً "فهرنهايت 11/9" 2004. وهو اعتاد الا يعلن عن مشاريعه قبل الانخراط في انجازها، وان كان قد عرف عنه دائماً انه يمهد لتلك المشاريع السينمائية، يجعلها موضوعاً لكتب يصدرها وتلقى رواجاً كبيراً... بل ان بعضها احتل قائمة المبيعات خلال السنوات الاخيرة لشهور طويلة، ومنها "روجر وأنا" و"رجال بيض حمق" و"داد.. اين بلدي". واذا كانت كتب مور هذه، والعابقة بمعارك يخوضها ضد العديد من سمات السلطة والعنف والعولمة وهيمنة الرأسمالية اكثر واكثر على الولاياتالمتحدة الاميركية، كما هيمنة اليمين المحافظ، قد حققت له ارباحاً مالية يجعله اليوم في عداد البليونيريين الحقيقيين 3 طائرات خاصة وفيلات في أرقى الاماكن، وحراس شخصيون، فإن افلامه عادت اليه بالعديد من ارفع الجوائز، قبل "السعفة الذهبية" الاخيرة التي نالها في "كان" ومن أهم هذه الجوائز اوسكار احسن فيلم وثائقي 2003 والجائزة الخاصة بالدورة الخامسة والخمسين لمهرجان "كان"... وهي جائزة خلقت خصيصاً لمايكل مور في العام 2002. هكذا تكلم مايكل: الرأسمالية حينما تربح أموالاً بفضل أفلامي في العادة يحب مايكل مور ان يصرخ بالكلمات الكبيرة والشعارات الرنانة، من تلك التي يمكن لنا ان نسميها "صحيحة وصائبة سياسياً" من وجهة نظر متمردة، و"ساذجة وديماغوجية" من وجهة نظر السلطات التي يهاجمها. وفي الحقيقة ان هذا النوع من العبارات يقوله مايكل مور غالباً للاستهلاك الشعبي. اما حينما يكون مندمجاً في حديث صحافي او في تصريحات لهيئات يرى انها اكثر ذكاء من الجمهور العادي، فإنه يبدي قدرة فائقة على شحذ كلامه، وإضفاء طابع عقلاني وواعي على العبارات نفسها. ولكن اذ تقال في شكل أقل ديماغوجية وأكثر تعقيداً... وهنا بعض عباراته. طالما ان الرأسماليين قادرون على جني أرباح مالية بفضلي، فإن الرسالة التي أضعها في أفلامي لا تشغل بالهم على الاطلاق. وهذا عيب الرأسمالية في اعتقادي. منذ حققت فيلمي "روجر وأنا" في العام 1989، التقي غالباً، في الطريق أشخاصاً يريدون ان يدعوني الى قدح بيرة او الى سندويتش هامبرغر، مستفيدين من المناسبة لكي يرووا لي حكاية انهيار حلمهم الأميركي .... والحقيقة ان كل الحكايات، هنا، تتشابه مع بعض التنويعات التي تتعلق مثلاً بأخ دفعه طرده من العمل الى الانتحار، او بأم فقدت كل مدخراتها بسبب افلاس صندوق المعونات. لقد سمعت من هذه الحكايات، تكراراً، مما يجعلني قادراً حتى على اكمال الجمل التي تقال امامي. وأنا، اذا كنت اصغي الى الحكايات التي يرويها لي كل هؤلاء الناس، فذلك لكي أتفادى الوقوع في يأس اشد مرارة. ان عدداً كبيراً من الشخصيات التي كانت ملتزمة سياسياً في سنوات الستين، صارت جزءاً من عالم الأعمال في أيامنا هذه... وحتى هارفي فنشتاين من شركة "ميراماكس" منتجو وموزعو فيلمه الجديد هو شخص تقدمي... وهو صاحب أفكار سياسية معلنة ويبدي رغبة كبيرة في حدوث تغيير في هذا البلد. لقد بدأنا العمل على فيلم "فهرنهايت 11/9" قبل اندلاع الحرب في العراق... وحينما اندلعت هذه الحرب اتخذ الفيلم ابعاداً جديدة له... ومن هنا فإن الفيلم هو مزيج من الحديث عن العلاقات بين آل بن لادن وجورج بوش، والطريقة التي أثرت بها تلك العلاقة في الحرب على الارهاب من ناحية والحرب على العراق من ناحية ثانية. ان فكرة هذا الفيلم تطورت لديّ كما تتطور عادة كل افكار افلامي السابقة: فالفيلم يبدأ لدي بفكرة ما أو بإرهاص معين... ومنذ ذلك اعطي الفكرة متسعاً من الافكار الثانوية والابعاد، لكي أقرر في اي اتجاه عليّ أن أسير. وفي حال "فهرنهايت 11/9" بدأت بالتساؤل مستغرباً حول واقع نعرفه جميعاً: إبان تدمير البرجين كانت أسرة بن لادن موجودة في الولاياتالمتحدة، وعلى الفور قدم البيت الأبيض لمسؤولي الأسر كل عون لكي يتم تجميع افرادها وتسفيرهم الى خارج البلاد. ان فيلمي يمضي جل وقته وهو يطرح اسئلة أكثر مما يحاول العثور على اجوبة بالضرورة، لكنه - أي الفيلم - سرعان ما يطلب من المتفرجين ان ينضموا اليه فكرياً ويحاولوا تصور ما يمكن ان تكون عليه الاجوبة. ونحن حينما جربنا عرض الفيلم أمام جمهور محدود في ميدويست، لاحظنا كيف ان الناس تحركوا في شكل عميق جداً، تاركين الصالة وهم يفكرون في مسؤوليتهم الشخصية، وضرورة ان يتحركوا ويتصرفوا كمواطنين متحدين في أمة ديموقراطية.