خرجنا من الجامعة لنتعرف الى الأشياء أو الى الأماكن التي كان لها تاريخ أو شبه تاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين. أولاً في الجهة الشرقية من الشارع كانت هناك صيدلية لشخص لطيف جداً اسمه حسن. انتقل في ما بعد الى صيدلية أكبر في شارع عبدالعزيز المتعامد مع شارع بلس. ثم كان هناك بول خياط صاحب مكتبة ودار نشر. بول خياط كان شاباً طموحاً، لكنه لم يكن في ما عرفته بعد مُدبراً ادارياً ولذلك كان يخلط الأمور. قد ينشر كتاباً لا قيمة له. اهتم بنشر الكتب باللغة الانكليزية. لم ينشر الكثير منها، لكنه كان هو في الأصل يبيع هذه الكتب ويطلبها. ولأنه قريب من الجامعة الأميركية كان له ثمة مجال كبير، لكن تبدى لي، وهو صديق عزيز عليّ أنه لم يكن يحسن ترتيب الأمور. على سبيل المثال كتب الدكتور حسن ابراهيم حسن كتاباً باللغة الانكليزية اسمه"اسلام". هذا الكتاب كانت فيه فصول مختلفة حجماً ونوعاً. عرضه على شركة لونغمان للنشر، واذ كنت أنا يومها على علاقة طيبة جداً مع لونغمان ومكتبة فلسطين العلمية، بعثت لونغمان اليّ بالكتاب لأبدي رأيي فيه. كانت لي عليه الملاحظات الآتية: انه غير منتظم في تقسيم الفصول، فبينما هناك فصل في نحو ستين صفحة ثمة فصل في نحو خمس صفحات. وثانياً: الترابط في المواضيع قليل. ثالثاً: اللغة. هذا الكتاب يجب أن يُعطى أولاً الى من يُكسبه ثوباً انكليزياً لأنه مكتوب باللغة الانكليزية على طريقة التفكير بالعربية. اعتذرت لونغمان للدكتور حسن ابراهيم حسن، طبعاً من دون أن يعرف هو من هو صاحب التقرير. ولكن ثمة من أشار على الدكتور حسن ابراهيم حسن أن يعرض الكتاب على بول خياط. بول خياط أخذ الكتاب وحسن ابراهيم حسن كان له اسم طيب كبير جداً، باعتباره أحد أعمدة التاريخ الاسلامي في ذلك الوقت. لم يعرض بول خياط الكتاب على أحد، نشره. ولكن لما رأيته قلت له يا بول هل قرأت الكتاب أو هل طلبت من أحد ان يقرأه؟ قال لا، يكفي أن يكون مؤلفه الدكتور حسن ابراهيم حسن. كانت النتيجة اظن ان بول لم يبع أكثر من عشر نسخ من الكتاب ولكنه أهدى نحو خمسين الى بعض الأصدقاء ولم ينلني أنا من الهدية. أمر آخر، أعلن بول خياط في يوم من الأيام أنه سينشر ستة كتب تتعلق بتاريخ الشرق الأدنى القديم والحفريات الأثرية فيه والنتائج التي ترتبت عليها لزميل لنا في الجامعة مقدسي الأصل اسمه ديمتري برامكي. سألت المؤلف ما اذا كانت الكتب جاهزة. قال لي جاهزة وغير جاهزة هي ملخصات ورؤوس أقلام وفهارس وترتيبات. سألت بول خياط اذا كان عرف من المؤلف ان هذه الكتب جاهزة، قال انه فهم أن واحداً أو اثنين جهزا للطبع ولكن لم يُنشر أي من هذه الكتب. هاجر ديمتري برامكي الى الولاياتالمتحدة قبل أن يُنشر له كتاب منها أو حتى جزء من كتاب. هذه التصرفات عند بول خياط أدت الى أنه شعر بأنه سيفلس. ولذلك ترك العمل وهاجر الى أميركا. مثل صغير جداً يدل على أن بول خياط لم يكن يعرف حتى الموجود عنده في المكتبة. ذات صيف وكان ابني باسم عمره نحو عشر سنوات اشتغل عند بول خياط وكانت الاتفاقية بينهما أنه يأخذ نصف ليرة عن نصف اليوم الذي يشتغل فيه سواء كان قبل الظهر أو بعد الظهر واذا اشتغل يوماً كاملاً حصل على ليرة. ما الذي كان يُنتظر من باسم زيادة في سن العاشرة أن ينفع بول خياط؟ نفعه أولاً في أنه رتب الكتب بعض الترتيب لأنه رآني كيف ارتب أنا كتبي في مكتبتي، فجعل الأحجام أو الموضوعات بقدر ما استطاع ان يفهم الموضوع. في يوم من الأيام دخلت سيدة عند بول خياط وسألته اذا كانت لديه كتب للصغار باللغة الانكليزية. قال لها لا. كان باسم هناك، التفت اليه وقال له مستر خياط موجودة الكتب. وأخذ هذه السيدة وجلس على الأرض وجلست هي على كرسي وعرض عليها رفين طويلين عريضين للكتب المتعلقة بالصغار. واشترت عدداً كبيراً من الكتب وحملتها وبول نفسه كان مستغرباً أنه لا يعرف أنه حتى عنده كتب للصغار. في الجهة الثانية الى الغرب من هذا توجد مكتبة اسمها مكتبة رأس بيروت. أسسها شفيق جحا 1953 الذي كان يُدرّس التاريخ في المدرسة الاستعدادية. وكانت المكتبة تقوم تقريباً مقابل مدخل المدرسة، لكن هو لم يكن يشرف عليها. كان يجلس هناك أحياناً. استخدم شاباً يعرف عن الكتب شيئاً لكنه كما تقول العامة"قليل مروّة، قليل خواص"لا يطالع الصحف يُسأل عن الكتب ثم يعرض أسماء هذه الكتب على شفيق جحا ويسأله اذا كانت تباع في المكتبة أم لا! لكن بنت شفيق جحا فادية كانت تساعد هذا الشاب. وهي فتاة ذكية شاطرة متنبهة. بعد بعض الوقت ذهب هذا الشاب الى الخليج ليعمل هناك وتسلمت فادية وهي بعد في مطلع الشباب الصغير أمر المكتبة. وبدأت المكتبة تتحسن ومع الوقت أصبحت مكتبة رأس بيروت مكاناً جيداً للحصول على الكتب العربية خصوصاً ما يُنشر منها في لبنان. من الخارج كانت تأتي بالكتب من طريق الوكلاء، لكن أنا وقد تعاملت مع هذه المكتبة ما لا يقل عن أربعين سنة وآخر كتابين حصلت عليهما بواسطتها هما كتاب لريشارد بوليت المنشور هنا عن علاقة الحضارة الاسلامية بالحضارة المسيحية وكتاب يهوذا الاسخريوطي الذي وضعه ملحم الرياشي بالعربية وترجمته أنا الى الانكليزية ونشرته دار النهار. وكان هذا في شهر أيلول سبتمبر 2005. فادية مجتهدة، نشيطة، يقظة، متنبهة للعمل ولذلك نجحت المكتبة. لم تغير المحل والمحل صغير لكن فيما كانت هناك سعة كبيرة أولاً أصبحت المكتبة تكتظ بالكتب وعندما تريد أن تراها يجب أن تدور حول هذا الرف وهذا المجمع وهذه الطاولة وهذا المكان. وفادية دائماً جاهزة للمساعدة. فضلاً عن الكتب فهي تستورد عدداً كبيراً من المجلات الشهرية أو الأسبوعية في العالم العربي، وتستوردها بأسماء الأشخاص الذين يطلبونها. هذه المكتبة لم تنشر سوى أربعة كتب وضعها الأستاذ شفيق جحا وهي: 1 -"داروين وأزمة 1881"يروي هذا الكتاب قصة أستاذ كان في الكلية السورية الانجيلية ? الجامعة الأميركية اليوم - وقد ألقى محاضرة عن مذهب داروين، فقامت عليه قيامة عمدة الكلية وعزل من عمله، وأدى ذلك الى اضراب ومناوشات بين الطلاب والعمدة الكتاب منشور سنة 1991. 2 - الدستور اللبناني 1996. 3 - معركة مصير لبنان جزءين سنة 1995. 4 - الحركة العربية السرية في الجامعة الأميركية 2004. وكانت ثمة محاولة قام بها الاخوان الزعني، اذ افتتحوا مقهى لكنه كان الى النادي الأدبي أقرب. اذ ان جدرانه كانت تزينها لوحات زيتية لكبار الفنانين من لبنان وسواه. وكان القصد منه أن يكون مقراً لأهل الفكر. المحاولة، من حيث أصلها فشلت. شارع بلس لم يكن يجذب رواداً من أهل الفكر من خارج نطاق الجامعة الأميركية، وهؤلاء كانوا اعتادوا على مطعم فيصل للمآكل وعلى انكل سام لأحاديث سياسية مع قهوة أو كأس بيرة أو مآكل محدودة بالنسبة الى مطعم فيصل. عدد كبير من الأدباء الشباب كانوا اعتادوا مقاهي الروشة. وفي ما بعد فتح مقهى دي باري في الحمرا الذي كان يروده بعض أهل الفكر أولاً، ثم أصبح أحد مقاهي الصحافيين. وكان هناك مقهى الهورس شو. هنا كان الأدب والصحافة يصرخان فيما يتناول أهلهما فنجان قهوة أو مأكلة بسيطة أو...