مساء الاربعاء الماضي ودع جمهور من رجال الفكر والأدب والترببة والصحافة مكتبة رأس بيروت في ما يشبه مأتما ثقافيا محزنا وهي معلم قد يكون الاخير من المعالم الثقافية في رأس بيروت وبخاصة تلك التي كانت تقع في شارع بلس او "شارع الثقافة" الممتد بموازاة "امه ومرضعته" اي الجامعة الامريكية في بيروت. فلم يكن مطعم "فيصل" الشهير في منطقة رأس بيروت ملتقى متذوقي الطعام الشهي فقط كما لم تكن مقاهي باريس الشهيرة في التاريخ الفكري والفني والسياسي او مقهى الفيشاوي في القاهرة مثلا امكنة لارتشاف فنجان من القهوة او ما يرافقه على تميزها في ذلك لقد كانت فعلا مراكز وملتقيات ثقافية مميزة. وبعد حفل الوداع يوم الاربعاء ستكون هذه المكتبة التي دخلت في ذاكرة وانشطة عشرات من الادباء شعراء وروائيين ورجال فكر واكاديميين وطلابا جامعيين وصحافيين ومحبين للشؤون الفكرية كافة قد اغلقت ابوابها دون ان تفتحهما في اليوم الذي يليه وليشعر هؤلاء الناس بانهم غدوا مرة اخرى شبه "مهجّرين" وفق احد اشد مصطلحات الحرب اللبنانية ايلاما ووحشية. المبنى سيهدم كما قيل ليقوم محله مبنى ضخم حديث. شارع بلسّ الذي اعطي اسم احد مؤسسي الجامعة الامريكية اخذ يفقد بعض قسماته وملامحه الثقافية منذ بضع سنوات ليتحول الى مكان يشبه الاماكن الاخرى في العاصمة اللبنانية اي الى مبان شاهقة ومكاتب تجارية ومالية ومتاجر ومطاعم. فبعد ان اغلق مطعم فيصل الشهير ابوابه عام 1985 وتحول الى مطعم للوجبات السريعة لا بد كما قال أحد خريجي الجامعة من ان تكون الجامعة "نفسها" لا طلابها واساتذتها وادارييها فحسب قد شعرت بفجيعة لخسارة ما صار في زمن غابر يشبه "أخا" للجامعة او ملحقا لها ومنتدى فكريا ومعقلا للانشطة الوطنية. واكتسب المطعم شهرة الى درجة يروى فيها ان والد احد الطلبة العرب كتب الى ابنه رسالة صارت شهيرة عنونها على الشكل التالي بعد كتابة اسم الابن "الجامعة الامريكية في بيروت - مقابل مطعم فيصل." واذا كان فنجان القهوة العربية التي يطلق عليها ظلما اسم القهوة التركية قد اكتسب سمعة هي انه من ضروريات اي لقاء "ثقافي" او عادي بين اصدقاء فقد اصبح الان على اولئك الناس "الدينوصورات" الذين لا يزالون يتمسكون بهذا الرمز اي فنجان القهوة العربية الا يتجهوا الى شارع بلس لانه خلا منها او كاد وتحولت القهوة وفقا لقوانين "الازياء" الغربية الى "اسبرسو" او امريكية او غيرها. واذا اتجهنا صعدا الى شارع الحمراء الشهير المجاور فلن نجد معظم المقاهي "القديمة" العريقة في مكانها ومقاهي الحمراء الحالية يصعب ان نعثر فيها على فنجان من القهوة العربية. موضوع اقفال مكتبة راس بيروت ابوابها تناوله عدد من الصحف اللبنانية في جو من الحزن نفسه الذي شعر به من تجمعوا في احتفال وداعي دعت اليه فادية جحا مديرة المكتبة التي يشعر مئات من الناس بانهمم " شركاء" لها فيها. أسس المكتبة عام 1949 الراحل الدكتور انطوان غطّاس كرم استاذ الادب العربي في الجامعة الامريكية والباحث البارز والاديب صاحب كتاب (عبدالله) وكتب اخرى منها (الرمزية في الادب العربي) وغيرها. وبعد وفاته ادار المكتبة كشريك فيها عبد الاحد بركات ثم تحولت الملكية بالشراكة الى بركات والاستاذ في الجامعة الامريكية في بيروت المؤرخ شفيق جحا وهو صاحب كتب عديدة منها ما وضعه مع زميل اخر وشكل اول سلسلة كتب للتربية الوطنية في لبنان. وقد شاركه في المكتبة عبد الاحد بركات الذي عاد فانسحب من الشراكة في بداية الحرب اللبنانية وتسلمت فادية جحا كريمة شفيق جحا ادارة المكتبة. وقد أصدر مكتب الاعلام في الجامعة الامريكية في بيروت بيانا يشبه " نعيا" فكريا عبر فيه عن شعور اجيال عديدة من خريجي الجامعة واساتذتها. وحمل البيان عنوانا هو "مكتبة راس بيروت - الى اللقاء." وفي مكان آخر قال البيان "بعض من ألق الجامعة الامريكية في بيروت ينطفىء اليوم مع سقوط "مكتبتها" مكتبة راس بيروت." فهذه المكتبة كانت رفيقة درب الجامعة وامتدادا طبيعيا لها على الرصيف المقابل... كما انها رفيقة درب بيروت في رحلة البحث عن الذات الثقافية ومرآة لجهود النشر والترجمة والتأليف في لبنان والعالم العربي. ويا ليت الحرم الجامعي الجميل امتد قليلا ليشمل مكتبة رأس بيروت في حمايته. وشهدت المكتبة انطلاقة مجلة "شعر" على يدي الشاعرين ادونيس ويوسف الخال ومجلة "مواقف" التي اطلقها ادونيس. وكانت المكتبة في ايام غابرة "محطة فكرية" لاسماء عديدة منها فضلا عن ادونيس والخال خليل حاوي ومحمد الماغوط وانسي الحاج وحليم بركات ونذير العظمة وفؤاد رفقة وشوقي ابي شقرا ورياض نجيب الريس واميلي نصر الله وعصام محفوظ وميشيل طراد وقسطنطين زريق ونقولا زيادة واحسان عباس وتوفيق صايغ يوسف سلامة واسماء عديدة اخرى فضلا عن معظم الروائيين والروائيات والشعراء اللبنانيين رجالا واناثا في هذه الايام.