يستحق الأردنيون التعاطف والمواساة من الأعماق، كما يستحقون الثناء والتهنئة الخالصة. أما التعاطف والمواساة، فللمأساة المريعة التي تعرضت لها بلادهم جراء العمل الإرهابي الشنيع المتمثل بتفجيرات ثلاثة خلفت وراءها قتلى وجرحى ودماراً، وأما التهنئة فموصولة للسرعة التي تم بها الكشف عن الأيدي الآثمة التي ارتكبت تلك الجريمة البشعة ومَنْ يقف وراءها من جماعات الشر المجردة من كل قيم اسلامية وعربية وانسانية. غير أن التفجيرات لم تكن"تسونامي"، أو وباء أنفلونزا الطيور، يمكن إلقاء اللوم فيهما على الطبيعة وكوارثها التي تضرب من دون استئذان أو سابق إنذار، بل هي بالتأكيد جريمة منظمة تم التخطيط والإعداد لها بكل خسّة مثلما جرى تنفيذها لأهداف لئيمة، ما يستدعي إلقاء النظر عليها أيضًا بعين بصيرة وبروح المسؤولية لكي يكون في استطاعتنا فهم كل دلالاتها، أولاُ، وضمان عدم تكرارها في المستقبل، ثانياً، وحصار القائمين بها والقضاء عليهم، ثالثاً. يتطلب ذلك الشروع في التحليل النقدي لكل جوانب الظاهرة الإرهابية التي نمت وترعرعت في العراق منذ الحرب الأميركية التي أسقطت نظام حسين، والتي كان للأردني أبو مصعب الزرقاوي سبق الريادة والقيادة فيها، فكان متوقعاً، عاجلاً أو آجلاً، أن يتحول العراق بؤرة الإرهاب الرئيسية، ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم كله. وسأبدأ أولاً بطرح السؤال: هل كان الأردنيون يتوقعون أن يضرب الزرقاوي في بلده الأم أم لا، وأي ترجيحات تحكمت بالقرار الرسمي الذي لا بد أنه يستند إلى تجربة اردنية طويلة في مكافحة الإرهاب مثلما يعتمد على حسابات المصالح البحتة المتعلقة بأمن المملكة واستقرارها وهيبة الحكم فيها، هذا طبعاً إضافة إلى استناده إلى المزاج الشعبي العام الذي كان حتى لحظة الجريمة لا يزال حبيس افتتانه بالمقاومة العراقية"البطلة"التي يشكل الزرقاوي وجماعته قاعدة ارتكازها الأساس. المسؤولون الأردنيون والمحللون"الرسميون"سارعوا الى القول ان الأمر برمته يتعلق باختيار أهداف سهلة، أي الفنادق، وأن أجهزة الأمن والمخابرات الأردنية تبقى الأقوى في المنطقة، والتي لديها الخبرة والإمكانية اللازمتين لمواجهة العمليات الإرهابية. الهدف من طرح هذه التبريرات، وهي ليست إلا كذلك، واضح: تأكيد أن عدم إحباط العمليات الثلاث لا يمثل فشلاً في العمل الأمني والاستخباراتي، وكذلك الحط من قدرة التنظيمات الإرهابية على الوصول إلى أهداف محمية جيداً. ويدل هذا الاستنتاج على كثير من الرضا عن النفس، بل الغرور، حين يأتي من مسؤولين، مثلما يدل على نفاق وجهل، حين يأتي من المحللين الاعتذاريين. والسبب أن عمليات التفجير الإرهابية هي الأكبر والأفظع في تاريخ المملكة، كما أن أهدافها هي الأكثر أهمية إلى الآن. إذ ليس مطلوباً أن يضرب الإرهابيون قصراً ملكياً أو مبنى المخابرات حتى يقال إنهم نجحوا في عملهم، كما أن النجاح في الكشف السريع عن مرتكبي الجريمة لا يضعف من حقيقة أن الزرقاوي تمكن أخيراً من تحقيق أهداف"استراتيجية"طالما سعى اليها منذ بدأ حربه على النظام الأردني قبل أكثر من ستة عشر عاماً. لقد كان في إمكان أي متابع جاد للإرهاب وتنظيماته وتياراته وتحركاته أن يصل إلى استنتاج صائب منذ زمن، مفاده أن قوى الإرهاب، خصوصاً مجموعة الزرقاوي، ستضرب في الأردن بعدما أنجزت مرحلة التمكين، في بناء قواعد بشرية ومادية متينة في الجوار العراقي، وبعدما أصبح واضحاً لكل ذي بصيرة أن مشروعها الممتد يتعدى العراق إلى بقية دول المنطقة، بل إلى رحاب أوروبا وربما أبعد من ذلك. هناك أسباب عدة كانت تغري الزرقاوي لضرب الأردن، لعل في الإمكان إجمال البعض منها بتصفية حسابات قديمة مع الأجهزة الأمنية الأردنية وتأكيد قدرته على تحديها، وجود تأييد وتعاطف كاسح لدى قطاعات واسعة من الشارع الأردني لما يقوم به في العراق تمجيدا للمقاومة وتحت ذريعة محاربة الأميركيين، تأسيس خلايا جديدة غير مرصودة من المخابرات الأردنية من جيل جديد من المتشددين والإرهابيين الذين تدربوا في العراق، تجنيد خلايا من العراقيين المرتبطين به وإرسالهم للعمل في الأردن. ما يمكن أن يضاف إلى أسباب الزرقاوي لضرب الأردن هو طبيعة العلاقات الأردنية الأميركية الوثيقة والتعاون الذي تبديه عمان مع الحكومة العراقية بهدف إنجاح العملية السياسية، ومنها تدريبات الشرطة والأجهزة العراقية الأمنية التي يسعى الزرقاوي إلى إبادتها، وكذلك الدور المحوري للأردن في قضية الصراع العربي الإسرائيلي. وليس سراً أن الأجهزة الأردنية كانت تتابع تحركات الزرقاوي الخارجية عن كثب منذ مغادرته بلده عام 1999 إلى أفغانستان، ولديها كنز ثمين من المعلومات عن تلك التحركات أثناء كل المحطات المهمة التي مرّ بها، سواء داخل أفغانستان ومن ثم في إيران وفي العراق قبل سقوط نظام صدام حسين وفي سورية، وأيضاً منذ بدأ نشاطه الإرهابي في العراق بعد الحرب عام 2003. ما هو واضح الآن أن الزرقاوي استطاع تضليل المخابرات الأردنية ودفعها إلى رصد ومراقبة الأهداف الخطأ سواء تلك التي اخترقت بها مجموعته أو العناصر المتعاطفة معه داخل الأردن، بينما ارتكز هو إلى وسائل مبتكرة من خلال تعاونه الوثيق مع بقايا أجهزة مخابرات صدام الذين تحالفوا معه والذين يمتلكون قدرات وموارد بشرية ومادية هائلة في الأردن. الكشف عن الشخص الرابع الذي لم يتمكن من تنفيذ الهجوم الانتحاري، وهي ساجدة عتروس، أخت ثامر عتروس ضابط المخابرات العراقية في النظام السابق، وزوجة أحد المنفذين الثلاثة، لم يكن بسبب رغبتها في الثأر لثامر الذي قتله الأميركيون في الفلوجة في تشرين الثاني نوفمبر العام الماضي، وأيضاً لأخوين آخرين هما عمار، وياسر، قُتلا في مواجهات أخرى، كما روّج البعض، إذ أن قتل مدنيين أردنيين وعرب يحضرون حفل عرس لا يمكن أن يكون انتقاماً من الأميركيين، بل هدفاً بحد ذاته. فلو كان الأمر كذلك فعلينا أن نتوقع إذن أن تقوم عائلات مئة ألف عراقي بالانتقام لأولادها من قتلتهم والمحرضين أو المبررين لقتلهم؟! إن الدلالة الأهم لهذه العملية هي حجم التعاون القائم الآن بين ضباط مخابرات صدام الذين يشكلون، على حد إطلاع خبراء مهمين"هيئة أركان"قيادة الزرقاوي ومستشاريه في التخطيط وفي إدارة العمليات، بينما تكمن الدلالة الأخرى في تجنيد العراقيين للقيام بتنفيذها، مستغلين عوامل مساعدة كثيرة. كيف عجزت المخابرات الأردنية وهي ذات الباع الطويل والخبرة الممتازة في جهاز مخابرات صدام، عن رصد وتحليل هذه المعلومات والتحركات، وبالتالي إحباط الهجمات الإرهابية. ويبقى هذا متروكاً للمعنيين بذلك للإجابة عليه؟ هناك على المستوى السياسي معضلة أخرى تواجه الأردن، كما تواجه دول غيره في المنطقة، وبخاصة المجاورة للعراق، في مواجهة موجات الإرهاب الزرقاوي المتنامية. وهي كيف يمكن الموازنة بين مصالح سياسية واقتصادية خارجية تمس بنية الحكم وكيانه، متناقضة مع مزاج شعبي غير موات ومنحاز بشكل عام ضد الولاياتالمتحدة الأميركية وضد المشروع السياسي في العراق؟ الحكومات العربية ومنها الحكومة الأردنية تريد أن تحمل اكثر من رمانة في يد واحدة، فمن جهة، هي ليست راغبة طبعًا هي ليست قادرة في تحدي واشنطن، ومن جهة ثانية هي لا تحمل كثيرًا من الود للمشروع العراقي ولنتائجه المتوقعة، كما أنها من جهة ثالثة، غير وارد إغلاق حدودها مع العراق بسبب التبعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السلبية لذلك، في الوقت الذي هي عاجزة، رابعاً، عن التأثير على المزاج الشعبي العام الذي هو بدوره نتاج سياسات رسمية وثقافية مشوشة ومرتبكة ومتقلبة، مثلما هو إفراز لخيبات الأمل الوطنية والقومية الناتجة من الأداء الحكومي السيئ. وبطبيعية الحال، فإن أزمة الهوية الأردنية لا بد من أن تطل برأسها في قضية مصيرية كقضية تحديد إستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب نظراً إلى الانعكاسات والإفرازات الممكنة على التكوينات العشائرية والإسلامية والفلسطينية لهذه الهوية وطبيعة علاقاتها بنظام الحكم، من جهة، وبجهود ودعوات التحديث والمعاصرة، من جهة ثانية. تبقى هناك القضية الأكثر أهمية في هذا النقاش المتعلق بكيفية وصول الأردن إلى هذه المرحلة الخطيرة في الصراع مع الإرهاب، وهي قضية الشارع الأردني والمتحدثين باسمه الذين ضلوا كل هذه السنوات يوفرون الدعم الشعبي للإرهاب تحت ذرائع ومسميات شتى، ما أوجد حاضنة شديدة الدفء والحنان لتفريخ المزيد من الإرهابيين الذين لا يميزون حين يتمكنون بين محمد باقر الحكيم، وبين مصطفى العقاد، وبين تجمع للعمال الشيعة في منطقة"الشعلة"في بغداد، وبين عرس أردني - فلسطيني في فندق"راديسون- ساس"في عمان. لا تحتاج هذه الحقيقة إلى نتائج استتطلاعات بينت أن حوالي 60 في المئة من الأردنيين كانوا يمنحون تأييدهم للإرهاب في العراق قبل التفجيرات الثلاثة، فكل من تجول في شوارع عمان والسلط والرزقاء وغيرها من المدن الأردنية كان يرى ويسمع المؤيدين لهم جهرًا وعلانية، فيما توارى الإدراك السليم للمصالح الوطنية والقومية الحقيقية وللمبادئ الإسلامية والعربية والأخلاقية السامية. في بعض التظاهرات الاحتجاجية التي انطلقت في اليوم التالي للانفجارات، كان المحتجون يرفعون لافتات كتبوا عليها شعارات بالإنكليزية WHY، بينما سطرت على بعضها الآخر عبارات مثل"الإرهاب الصهيوني في فلسطين والإرهاب الأميركي في العراق = الإرهاب في الأردن"، وهي شعارات لا يمكن بطبيعة الحال أن يكون حاملوها أدركوا منبع الإرهاب الحقيقي الذي فتك بأبنائهم ولا قبضوا بأيديهم ووعيهم على حقيقة ما حدث، مثلما لم يعوا بعد ضرورة إصلاح العطب الذي سببه الإرهاب في وجدانهم وعقولهم قبل أن يسببه لحياتهم. هذه الشعارات لا تندد بالإرهاب بمقدار ما هي منحازة إليه وتتجاوب مع أهدافه وأساليبه كما أنها تبرره وتسعى الى منحه الشرعية، عوضاً عن انتزاعها منه. طبعاً هناك فهم واضح لإستراتيجيات الجماعات الأردنية التي لا تزال تؤيد الإرهاب أو تلك التي تجد صعوبة في النأي بنفسها عنه. لكن حقيقة الأمر تبقى أن حرمان الإرهابيين من أي تعاطف أو فهم يبقى العنصر الحاسم في حرمانهم من أي تأييد وتهميشهم وعزلهم، وبالتالي الانتصار في المعركة الدائرة عليهم. ما جرى في عمان ليلة التاسع من تشرين الثاني نوفمبر الحالي ينبغي أن يكون نقطة تحول كبرى عملت على صنعها الجريمة ذاتها، والتحول التدريجي في الأفكار والاتجاهات والمواقف عند الغالبية من الأردنيين، إضافة إلى الدعم والتضامن الدوليين الكبيرين، والتي ينبغي أن تهيأ الفرصة مجتمعة لتحقيق نتائج طيبة في الكفاح ضد الإرهاب الذي أثبت مرة أخرى أنه أعمى وحاقد ومشبوه. الأردن الآن أمام اختبار حقيقي، فإما أن تدفن على حدوده هذه الظاهرة المستشرسة أو أن يكتب لها ميلاد جديد. كاتب عراقي.