في قريتي، حكى لنا المُسنّون مرات عدة عن البحر، وبألف طريقة مختلفة. البعض منهم قارنه برحابة السماء: سماءٌ من الماء مُزْبد فوق غابات لا نهائية، لا تُختَرَق ومأهولة بأشباح وبوحوش ضارية. البعض الآخر أكد أنها أكثر سعة وامتداداً من الأنهار ومن البحيرات ومن المستنقعات ومن كل جداول الأرض مجتمعة. أما في ما يتعلق بعلماء"الساحة الكبيرة"فقد أجمعوا حول هذه المسألة... انسدل الليل. ليلة مدلهمة، وضبابية من غير وُضوح. كنا مختفين خلف صخرة ونسمع صوت الأمواج والريح. قال مراد ان البحر هادئ هذه الأوقات. صدقناه. كُنّا مستعدّين لتصديق أيّ شيءٍ كانَ شريطةَ أن يُتاح لنا الرحيلُ. انتصب ظلٌّ أسود أمام المركب. كان الأمر يتعلق بالعبار، ولم نكن نعرف اسمه، فكنا نكتفي بأن ندعوه"باطرون". بِمُراعاة تنِمُّ عن خوف، كما لو تعلَّق الأمر بِمُدَرِّس يُشهر عصاه أو بدركيّ مُريب ذي نظرة قاسية، أو بساحر يستجلب الأذى بالسِّحْر، أو بكل إنسان يمسك بمستقبلك بين يديه. تسريحة شعره النسائية المنحرفة تنتج، أحياناً، همهمات غريبة. كنتُ أجهل هل هو الخوف أم البرد من كان وراء ارتجاف رضا ابن عمي. الاثنان، ربما. كُنّا نشعُرُ جميعاً بالخوف وبالبرد، ولكن رضا كان يبدو وكأنه أصيب أكثر. الوجه شاحبٌ وقسمات وجهه متوترة، كان يضم إليه حقيبته من نوع أديداس ويطقطق أسنانه، من دون توقف. ما إن أشعل سيجارة حتى قفز عليه الشبحُ واختطفها منه وخدَشَهُ في شفتيه. لم يتذمر رضا. تَوَاصَل ارتجافه وطقطقة أسنانه... بالقرب مني كانت"نوارة"ترضع وليدها. من المستحيل تحديد عمر لوجهها الدائري، المتورِّم قليلاً، المُتوَّج بظفائر مجدولة بصلابة، ورأسها المتمايلة على إيقاع هزّازة صامتة. من صُدْرَتِها كان يتدلى ثديٌ مترهّلٌ. كنت أحدق فيه باهتمام، ومن دون أن تغادر عيناي الطرف الداخل في الفم الصغير. الصبي الذي كنا نخشى صرخاته يعصره بِيَدَيِه. العبار كان حاسماً:"يكفي صوتٌ، أو زلّة وينتهي بنا الأمر إلى الهاوية". ولكن عن أي هاوية، أي جُحْر، بحق السماء، يتعلق الأمر؟ هل هو أكثر عمقاً وأكثر ظلاماً من الحالة التي دفعتنا إليها الفاقةُ؟ كان قاسم الجودي موجوداً بيننا، وهو جزائري من"لبليدة"كان مُدرِّساً حين كان السلم يخيم على بلده، بافادنام ويانسي، وهما ماليان لا نرى منهما سوى بياض عينيهما، ويوسف، وهو يدّعي أنه مراكشيّ تشير رنة لهجته إلى أصوله البربرية، من الأطلس المتوسط، من دون شك. كانت المجموعة الصغيرة تبدو ساكنة."بافاندام"العملاق كان في محاولته الثالثة للعبور. ما كان عليه أن يتحدث لنا عن هذا. البارحة في المقهى، أكد لنا مراد، وهو شريك للعبار، أن عبور مضيق جبل طارق ليس سوى مسألة بضع ساعات. وأضاف مازحاً:"في الحقيقة، لن تضطروا لشرب البحر!". ضحكتُ. ولكن رضا الذي كان يتألم ويتعذب من آلام البطن، كان يغادرنا كل ربع ساعة ثم يعودُ ممتقعاً كما غادر. أمّا مراد، الذي كانت قامته القصيرة متعجرفة وهيأته مُعْتنى بها ومزاجه المرعب يذكرنا بإيبيريي طنجة، فقد حذرنا بالقول:"إذا تَوَاصَلَ إسهالُ هذا الأبله، فسوف نتخلى عنه". لدى هذه الكلمات أوشك قريبي أن يُغْشى عليه، والأمور ازدادتْ تفاقُماً. تسرّبتْ رائحةٌ نتنة، فجأة، من جسده، مما دفعت الحضور إلى الانسحاب. انسحب كل الحضور باستثنائي، بطبيعة الحال. الجو كان خانقاً. الأوركسترا الوطنية كانت تقدم في الراديو نشيداً وطنياً. رائحة الكِّيف، وهي تتعانق مع رائحة الدخان، تغطي السقف الأزرق. لم يكن رضا يستطيع التحرك. ظلَّ واقفاً على ردفيه، ويداهُ متمسكتان بِمَرَافق الكرسي البلاستيكي. أحس، في البداية، بالخجل، إذ ان تذمر جيراننا ازداد حدة مع ازدياد الرائحة الكريهة وانتشارها، ثم انتهى الأمر بأن تسربت الرائحة إلى أنف نادل المقهى الذي أتى مسرعاً وهو يستعد للعض مثل حيوان لوَّثْنا مملكته. ما إن استشعر بالحالة للمرة الأولى حتى طفق يصرخ بأعلى صوته. نهضتُ، وجذعي منتفخ، مستعداً لوضع حدّ لشتائمه. حين اكتشفت أنني لا أصل إلا إلى كتفيه، هدأتُ من احتجاجاتي."هذا الشاب مريضٌ، يا سيدي. ? أنا لستُ أُمّاً له، هذا الوسخ". كان يشتم وهو يمسك بياقة قميصه. حين حاولت التدخل جاءتني ضربة في ذقني دوختني لبعض لحظات. فاكتفيت بتتبعه. تَساقَطَ صمتٌ مفاجئٌ على رصيف المقهى حيث كانت كل الأنظار تتسلط علينا. قام نادل المقهى الذي كان صوته الحاد يتناقض، في شكل مضحك، مع عَرْض كتِفَيْه الضخم، بدفع رضا إلى الخارج وهو يزعق ويصيح. خيط من البول تبعهما. أحد الحضور بدأ يضحك. ثم ثان. وبعدها اندلع سيل من القهقهة. بقي رضا من دون جواب، بدا أنه غائبٌ، تارِكاً نفسَهُ وهو يُطْرَدُ مثل كيسٍ مملوء أقذاراً. منحتْ ضحكاتُ المُستهْلِكين الساخرة للنادل حالةً من الانتشاء، فقام بإنهاء عمله الشجاع بأنْ وجَّهَ ضربةً عنيفة بِرِجْله قذفتْ بقريبي إلى مَجْرى الماء. لم يَرُقْني منظرُ رضا وهو مُلقى على الأرض. لم أتحَمَّلْهُ أبداً. في القرية كان الكل، بمن فيهم رفاقنا الضعاف البنية، يعنفونه. وعند أدنى مُشاحنَة، كان هلعه الشديد الذي لا علاج له يصيبه بالشلل. ينقبض على نفسه ويحمي وجهه بذراعيه وينتظرني أن أحرره. لقد دافعتُ عنه دائماً. لقد كلفني الأمر، في غالب الأحيان، غالياً، ولكنني مع ذلك دافعتُ عنه، لأن رضا هو دمي. إذاً، فأمام هذا الرصيف العاجّ بالعاطلين من العمل وبماسحي الأحذية وبمُؤجِّري الجرائد وبصغار المجرمين وبالموظفين المنحطين وآخرين من الذين لا قيمة لهم، انحنيتُ ورفعتُ"دمي"من الأرض. لم أتنازلْ فأشتم جمهور المتوحشين"إلا أن حنجرتي كانت تغلي بالشتائم التي لم تسمع السماءُ مثيلاً لها، إلا نادراً. لو أنهم تلقوا جزءاً صغيراً من الحقد والاحتقار الذي يشع من عينيّ كانوا سيتوقفون، بسرعة، عن الضحك وعن الإشارة إلينا بالبنان، لأنّ رَجُلاً من الجنوب، ومُهاناً، كما هو شأني، هو شخصٌ لا يمكن توقُّع أفعاله وقادرٌ على ارتكاب كل الحماقات. ترنح رضا قليلاً، وهو يتكئ على كتفي. كانت رأسه تتحرك برفق. ابتعدنا عن المكان ببطء، وفي صمت. كنت أتمنى لو أنني فسَّرْتُ له بأي طريقة رهيبة كنتُ أريد الانتقام: هذا الرجل الخسيس لن يخسر شيئاً إذا ما انتظرني، سأنتقم منه، سوف ترى، عندي فكرة في الموضوع... كمينٌ... الليل... في إحدى زوايا شارع صغير مظلم. لن يرى في الشارع سوى النار. لقد فعلتُ حَسَناً بأن تركتُ سكِّيني بِكَبّاس"كم كان أخي الصغير يُريده! أوشكت أن أتركها له، قبل رحيلنا. لقد استيقظ الشيطان في الفجر وظل واقفاً هناك أمام الشاحنة الوسخة التي حملتنا، رضا وأنا، نحو الشمال"كان ينظر إليّ بعينين مخضّلتين، من دون أن يطلب مني شيئاً، ولكنني كنتُ أعرفُ كم كان يطمع في هذه السكين... أنت ترى، لقد كنتُ على حق حين رفضت أن أتنازَلَ له عنها. من الجيد دائماً أن يحتفظ المرءُ معه بسكين بِكَبَّاس. سأذبحُ هذا الوغد"إنه كبير الجثة ولكنني سآخذهُ حيلة. سأتسبب له في ندبة كبيرة كي يتذكرني. إن منْ يتحدث الآن هو ابن"تساووت". صدِّقْني. هكذا اجتررتُ مخططات دامية لانتقام مُؤَجَّل. لم يَكُن رضا يعرف عن الأمر شيئاً، كان يتمشى إلى جانبي. وذراعاه متدليتان وكيسه على صدره. اتجهنا نحو النافورة العمومية، إذ كان من المستعجل الوصول إلى دورة للمياه. ليس في الأمر نميمة، ولكن قريبي كان ينشر رائحة كريهة كرائحة الجيفة الفاسدة. السردين المشوي الذي ازدردناه، منتصف النهار، قرب الميناء، ربما كان هو السبب. الثمن البخس الذي دفعناه كان عليه أن ينبهني. ولكنني تظاهرتُ بعدم الإحساس بأي شيء. الشمس المائلة تلون بوميضها الوردي المُخمليّ الحيطان والحوانيت والحيوانات والبشر. لم تكن النافورة بعيدةً. جمهور الفتيان المغرورين الذين كانوا يلعبون حولها ما كان ليطمئننا. أنا أعرفُ أيّ شيء هم قادرون على فعله إذا فاجأوا رضا وهو يغتسل في الشارع. كنتُ أعي الشراسة المرعبة التي يُمكن أنْ تُحَرِّكَ هؤلاء الرعاع. حينما كنتُ صغيراً، ليُسامحني الله، كانت اللحظات التي يغتسل فيها أحد المتسولين في النافورة العمومية من أحلى فترات سعادتنا. كنا نترَصَّدُ، مثل السنّوريّات اللحظة المحددة التي يكون فيها رِدْفَاهُ في الهواء كي نخرج، على حين غرة، ونُنَكِّدَ به. كنا نسرق رزمته أو طاقيته، أو كنا نجذبه من قلنسوته فنسقطه على ظهره. كان المشهد مضحكاً! إن رؤيته مبتلاً وسرواله إلى ركبتيه، وهو عاجز عن مطاردتنا، وهو مُرْغٍ ومُزبد من الغضب وهو يموج ويهيج ويلعن، كانت تعود علينا بالغبطة. كنا نتمرغ على التراب ونقهقه. كنا نصفق ونبعث نحو السماء صرخات الانتصار. ولكنني، الآن، في الرطوبة المقرفة لهذا الشفق، مع قريبي الذي يُثير الرثاء في حالته التي تُثير الرثاء، كانت تنتابني كل الرغبات إلا رغبة الضحك. جلسنا غير بعيدين من النافورة من دون أن نتكلم، ومن دون أن نتبادل النظرات، كلانا يحتمي بالآخر مثل متسولين تائهين، ننتظرُ، في صبر، هبوط الليل. ترجمة محمد المزديوي { ماحي بينبين كاتب ورسام مغربي مواليد مراكش 1959. يكتب بالفرنسية. روايته الخامسة Cannibales"كانيبال"صدرت أولاً بالفرنسية ثم ظهرت بالانكليزية عن دار غرانتا تحت عنوان"welcome to paradise". فضل المؤلف ان يكون العنوان العربي لروايته التي تصدر ترجمتها قريباً"الحرّاقة". وموضوعها تراجيديا الهجرة السرية للمغاربة الى اسبانيا.