نفث آخر أنفاس سيجارته قبل أن يلقيها إلى لا مكان.. والآن عليك أن تكون محددا أكثر فيما تقول.. فكلامك كله منذ البداية مائع وغير مفهوم.. هل أتيت بي إلى هنا لتقول هذا التخريف؟ هممت أن أتكلم ولكنه قاطعني بلهجة أكثر ودا محاولا أن يخفي ما سببه كلامي من صدمة أنا أعرف بأنك صديق عزيز.. بل إنني لن أبالغ إذا ما قلت إنك أقرب أصدقائي لي.. ولكن ها أنت تأتي أخيرا لتقول لي مثل هذا الكلام! أشعل سيجارة أخرى بولاعته الذهبية وهو يشير للنادل ليحضر فنجان قهوة آخر في الوقت الذي كنت أحاول فيه أنا السيطرة على مشاعري وذلك التخبط الذي اعترى ذهني فجأة.. هل يمكن أن يكون كل ما مر بي مجرد وهم؟ هل كانت الأيام الثلاثة التي سبقت جلستنا مجرد خيال؟ لقد أوشكت على الانهيار مرارا.. وكرة النار التي كانت تسكن معدتي.. كان كل شيء يدفع بي إلى الجنون.. واستغرق الأمر عذابا ما بعده عذاب حتى أطلب أن أجتمع به بتلك الطريقة.. انتزعني من دوامتي صوت ارتطام فنجانه بالطبق الصغير.. والآن.. أعد علي ما تقول.. هل تلمح لأن زوجتي تخونني؟ مشيرة!.. برغم عشرتنا الطويلة، أنت -فيما يبدو- لا تعرف مشيرة.. إنها كائن أشبه بالملائكة.. لا.. لا تنظر لي هكذا.. كان صوته متهدجا وفي غاية من الانفعال، بل لقد كان يؤكد كلامه يطرق بقبضته على المنضدة.. كان يتشبث بخيوط واهية من رباطة جأشه برغم الاضطراب الشديد الذي وشت به ملامحه الدقيقة وشعره البني المصبوغ الخفيف الذي برغم عنايته الفائقة به كان فجأة منتصبا فوق جلد رأسه اللامع المتعرق كأشواك قنفذ هبت للدفاع عن صاحبها.. كان مشهدا بائسا بحق لشخص في مثل سنه ومركزه.. - وكأنك لا تعرف شيئا عن كل ما مررنا به معا.. لقد ظلت وفية لي طول زواجنا.. هل تذكر اعتقالي بعد أحداث سبتمبر؟!... بالتأكيد تذكر.. فقد كنا سويا. هل تذكر كيف تحملت هذه الأيام العصيبة حتى أتى ذلك العفو بعد مقتل السادات وخرجنا سويا؟!.. هل تذكر في كل مرة كنا نعتقل أو نسجن بعد مؤتمر حزبي أو تظاهرة.. حتى خلال الثورة.. من كان يقوم على رعايتنا أنا وأنت في الميدان؟! مشيرة لم تتزوجني وأنا وزير كما أنا الآن.. لقد تزوجت شخصا كانت تطارده دولة كاملة بكل أجهزتها، وبالرغم من ذلك لم تلن ولم تتخل عني طوال تلك السنين التي لم أكن أبدا فيها رجلا يضمن لبيته الاستقرار والأمان.. لقد تحملت مشيرة ما لم تتحمله امرأة في مصر.. من أجل ماذا؟!.. من أجل أنها تحبني.. نعم.. بكل عيوبي وجنوني.. والآن تأتي أنت بعد كل هذه السنوات حاملا تلك الصور السخيفة على جوالك وتقول لي بكل بساطة إن المرأة التي تحملت معي كل هذا تخدعني.. تخونني.. أنت مجنون.. بكل تأكيد أنت مجنون. قطع كلامه فجأة واختطف جوالي من على المنضدة.. كان صوت تنفسه عاليا وظل يقلب الصور.. كانت عيناه جاحظتين وملامحه تزداد ذهولا وتعرقا.. كل شيء فيه كان يرفض ما يراه.. كل نظرة في عينيه كانت تبحث في الصور عن شيء يقول له إنها ليست مشيرة.. تلك العارية التي تتلوى في فراش ذلك الممثل الشاب.. أعرفه جيدا.. أعرف ما يدور في ذهنه في تلك اللحظة.. لم يكن منصبه الوزاري ولا الاحتمالات الجنونية التي يحملها انتشار مثل هذه الصور المذلة له كرجل ذي تاريخ.. كل هذا لن يدور بباله الآن ولا لاحقا.. الطعنة التي بين جنبيه الآن تتخطى كل هذا.. إنني لأكاد أرى دماءه الآن تفور من صدره كنافورة حمراء وتتناثر على كل شيء في المكان.. ألقى الهاتف أمامي وقام دون أن ينطق بكلمة.. بعد خطوتين وكاد يسقط غير أنه استند على ظهر كرسي ما.. وخرج.. تأملت للحظة طرقات المطر على زجاج المقهى من الخارج، قبل أن أطلب من جوالي الرقم المحفوظ.. كلمة واحدة.. - انتهى.. ثم أغلقت الخط.. مهما كان الأمر لقد لجؤوا للشخص الصحيح الذي أتم لهم مرادهم بأسرع وأسهل طريقة.. تغلبت على تلك الغصة في حلقي وأنا ألقي بثمن ثلاثة فناجين قهوة على المنضدة قبل أن أمضي تاركا ورائي ولاعة وعلبة سجائر تسببت للتو في مقتل صاحبهما.... مصطفى يونس