لم تعد مسألة النفوذ الايراني في العراق مجرد شبهة أو اتهام يطلقه وزير في حكومة عراقية طاقمها يتكون من شراكة القوى والاحزاب التي جاءت بها الولاياتالمتحدة لحكم العراق ومن بينها الاحزاب الاسلامية الشيعية الموالية لطهران، مع جدية وخطورة المعلومات التي يتحدث بها الوزير الشعلان لوسائل الاعلام بعد توجيه اتهامات الاختلاس اليه من جانب أعضاء في الحكومة الحالية وجمعيتها الوطنية. كما ان قضية النفوذ الايراني ليست مشكلة بين بلدين يمكن حلها بالطرق والاعراف الديبلوماسية،.. فهي تحمل خلفيات مرتبطة بصراع تاريخي على هوية العراق ليس على أساس ايديولوجي قومي أو ديني ومذهبي، حسبما يصوره البعض. بل إن خصوصية العراق النادرة في امتزاج الحضارة بالثروة جعلته عرضة للسطو العسكري والسياسي والاخطر من ذلك محاولات محو معالم هويته الحقيقية واحلال بدائل ذات مواصفات تطغى فيها مظهرياً شعارات الدين والمذهب لصالح دولة ايران التي بدت في سنوات ثورتها الخمينية الاولى قبل عقدين مثيرة للتعاطف من قبل جيل الثوريين العرب الذين كانوا بأمس الحاجة للتعبير عن كبتهم الفكري والسياسي واحباطاتهم في قضيتهم الكبرى فلسطين. واذا كانت الحرب العراقية - الايرانية لم تتمكن، على جسامة التضحيات البشرية والمادية التي خلفتها، من احداث تغيير جيوسياسي بإسقاط أي من العاصمتين بغداد أو طهران لأن الاحتلالات العسكرية المتبادلة كانت محدودة اضافة الى ضعف ارادة قيادتيهما السياسيتين والاهم من ذلك الرغبة الاميركية بخروج البلدين ضعيفين مدمرين، إلا أن تلك الحرب كشفت عن مخزون سياسي ايراني هائل لاقامة نظام حكم ولاية الفقيه في بغداد. ولهذا تم تأسيس"فيلق بدر"ومدّه بكل وسائل الحركة والتنظيم كأحد مؤشرات ذلك الهدف وواحداً من وسائله. وكانت حظوة حزب الدعوة أقل بكثير في ذلك المشروع بسبب خصوصية البنية الفكرية والتنظيمية لقياداته التي كانت في الخارج ومثلها خط ابراهيم الجعفري أبو احمد، ومع ان هذا الحزب أكثر تأثيراً بين القواعد الموالية من المجلس الاعلى الذي استند الى مكانة شخصية المرحوم محمد باقر الحكيم وعائلته المناضلة. لم يتوقع الايرانيون حدوث طوفان الاجتياح العسكري مرة ثانية عام 2003 بعد اثنتي عشر عاماً على الاجتياح الاول عام 91 ورضوخ الايرانيين للقرار الاميركي بمنع القوات الايرانية من التدفق عبر الحدود بشهادة قادة ومسؤولين اميركان وايرانيين، لكي تتوفر الفرصة التاريخية لطهران بعد نجاح مشروع الاجتياح العسكري الامريكي الثاني بعد نصائح من عراقيين هولت أمام المسؤولين عن الملف العراقي من مخاطر مشروع التغيير الداخلي واحتمال بقاء المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة المدنية الاخرى حيث اشتركت قوى الاسلام الشيعي والقيادتان الكرديتان في هدف تحطيم الجيش العراقي بقرار سياسي، وكانت طهران الكاسب الأول من ذلك القرار وتدمير منتسبيه بسبب ما يحتفظ ضده من ثأر يعود لحرب الثماني سنوات. ثم حصلت تحالفات اللحظة الاخيرة التي قادها السيد احمد الجلبي بين طهران وواشنطن لاشراك قيادتي المجلس الاعلى وحزب الدعوة في تبني مشروع الاجتياح الى جانب القيادتين الكرديتين مسعود وجلال الذي تربطه واياه والمرحوم محمد باقر الحكيم وثيقة تحالف منذ عام 95، وحصل اجتماع طهران عشية الاجتياح العسكري. مع ان الجلبي كان فتح خطاً للبحث في شأن التغيير مع رموز في المعارضة العراقية كانت ذات توجهات عروبية ولها امتداداتها في الداخل العراقي على الصعيدين الحزبي والعسكري، وقدم لها تعهدات بأن مشروع اجتثاث البعث لا يمس سوى خمسة عشر إسماً ممن هم حول صدام، ثم تنكر لتلك التعهدات في اللحظة الاولى لدخوله بغداد بصحبة الدبابات الاميركية. ثم ادرك الاميركان أنه تجاوز الخطوط غير المسموح بها فأثاروا حوله اعلامياً قضية الاختراقات الاستخبارية بين طهران وواشنطن قبل أكثر من عام. لكنهم لم يعلموا بابتلاعهم الطعم الايراني... اذ كانت الساعات والايام تحسب بدقة لفرض الوجود اللوجيستي الايراني في المحافظات الجنوبية باستغلال بارع لانشغالات الجنود الاميركان بمواجهة العمليات المسلحة وانعدام القوة العراقية نتيجة حل الجيش العراقي والقوات الأمنية وحرس الحدود. يؤكد ذلك ما نشرته صحيفة"التايمز"البريطانية بتاريخ 14/8/2005 من وثائق خطيرة عن عمليات تدفق منظمة للقوات الاستخبارية والعسكرية الايرانية منذ آذار مارس 2003، سبقت دخول القوات الاميركية، اضافة الى الشهادات الحيّة لمواطني مدينة البصرة التي تتم فيها عمليات تطهير طائفي باشراف المخابرات الايرانية وهيمنة الحركة التجارية لايرانيين في كربلاء والنجف حيث يتم تداول التومان الايراني، ومعلومات دفع العملاء الايرانيين للتخريب داخل العراق التي أعلن عنها وزير الدفاع السابق حازم الشعلان في احدى لقاءاته التلفزيونية أخيراً. وبعدما دخلت عملية تغييب هوية العراق وعزله عن محيطه العربي وتفكيك وحدته التاريخية مرحلة التقنين عبر وثيقة الدستور، تعالت صرخات الوطنيين العراقيين سواء من الشيعة العرب المتمسكين بعراقيتهم أو السنة أو غيرهم، وراح يتبلور اصطفاف سياسي مفروز ما بين التمسك بالولاء للعراق وبين الولاء لغيره، مع ما أحدثته العمليات الارهابية التي تستهدف المدنيين العراقيين على ايدي الجماعات الظلامية المتطرفة وجهات استخبارية عدة، من خلط للأوراق. وواجه الصف الوطني العريض أقسى حملات التصفية الجسدية وباستثمار مقيت لشعار محاربة الارهاب الذي يدينه ويحاربه كل عراقي مخلص لابناء وطنه. وبسبب ما يعانيه النظام العربي من مشكلات معقدة أحجمت البلدان العربية المحيطة بالعراق وكذلك مصر ودول الخليج عن بلورة موقف عملي واضح من المشكلة العراقية مع إنها سمعت الصرخة العراقية ميدانياً من داخل ذلك البلد الجريح وعبر الصور التلفزيونية المسموح بها ومن القوى والاحزاب والشخصيات الوطنية سواء تحت قبة الجامعة العربية أم خارجها، ومن ممثلي الأمين العام للأمم المتحدة، ولم تتمكن الجامعة من ترجمة قرارات مؤتمر شرم الشيخ أواخر عام 2004 بسبب اصرار الاميركان على تنفيذ برنامجهم في عقد الانتخابات الماضية. ومع ذلك واجهت الجهات العربية والدولية التي دعت الى ضرورة تحقيق توافق وطني عام على العملية السياسية انتقادات لاذعة من قبل الاحزاب النافذة وأجهزتها الدعائية. وحين وصلت السكين الى الرقبة، كما يقولون، حدث دوي الصوت السعودي الذي تأخر كثيراً، في النقد الموضوعي الذي وجهه الأمير سعود الفيصل للأميركان، وهو لوم في محله لأنهم سبب الكارثة في محيط العراق الداخلي والعربي، ولا يعلم أحد غيرهم ماذا يهدفون من لعبة تداول الملف الايراني على الساحة العراقية بهذه الطريقة التي سيكون ضحيتها ويمحى عن الخارطة كيان عربي اسمه العراق. ثم تحرك ذلك النقد الى مبادرة اللجنة العربية وصدور بيان جدة بتاريخ 2/10 بتكليف الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى زيارة العراق واللقاء بمختلف القوى والفعاليات السياسية العراقية. ومع إن البيان المذكور لم يصدر عن قمة الزعماء العرب المعنيين مثلما حصل في شرم الشيخ الذي لم ينفذ، فما الضمانة لإمكان تحريك الازمة بصورة جدية ووضع الحلول السليمة لها؟ وما الموقف اذا لم تعجب هذه الخطوة مسؤولي السلطة في بغداد، وهم طوائف وأعراق قبل أن يكونوا دولة واحدة... إن أهم عنصر لإنجاح مثل هذه المبادرة الانقاذية هو وضوح هدفها المتمثل بالحفاظ على هوية العراق وصيانة وحدته، وتبني الاميركان لها كونهم هم الماسكون بالارض وبالسلطة الحقيقية في العراق بعد أن تتوفر لها عناصر الرضا والقبول من جميع الاطياف السياسية الرئيسية في العراق من خارج السلطة وداخلها، واشراك الاممالمتحدة فعلياً، والدعوة الى مؤتمر وطني عراقي موسع لا يستثني أحداً، بعد تعطيل جميع فعاليات العملية السياسية الحالية ومن ضمنها ايقاف ترويج وثيقة الدستور الحالية، وتشكيل حكومة انقاذ وطني لتسيير الاوضاع العامة لحين انتهاء أعمال المؤتمر الوطني وصدور قراراته باجماع وطني عام. ان الظرف معقد وخطير ويحتاج الى وقفة تتجاوز زيارات المجاملة البروتوكولية، أو تجيير المبادرة السعودية العربية لصالح تمتين وضع الحكومة الحالية وتحسين رصيد بعض القوى في الانتخابات المقبلة، وقد فسرت تصريحات السيد هوشيار الزيباري وزير خارجية العراق لاحدى الفضائيات يوم 7/10 والتي بدت ايجابية أكثر من بعض ما صدر من جهات داخل حكومة بغداد، تلك المبادرة بهذا المعنى. وهذا ما يجعل عدم قيامها أفضل بكثير من أن تؤدي الى اضرار تزيد من مرارة العراقيين ومحنتهم في منعطف التفكيك الاثني والعرقي الذي يمرون فيه. نعم نحن العراقيين بحاجة الى"طائف عراقي"يقيمه المخلصون من الزعماء العرب خصوصاً السعودية ومصر والاردن قبل أن يضيع هذا البلد ويتشرذم شعبه العظيم بمختلف أوبئة الاحتراب الطائفي، مؤتمر يعقد اليوم قبل غد بشراكة الحكماء من سياسيي العراق الذين يقدمون مصالح العراق ووجوده ووحدته على مصالحهم الخاصة ومصالح حلفائهم في الخارج... كاتب وسياسي عراقي مقيم في لندن.