هدأت موجة الإصلاح الديموقراطي في بعض دول العالم العربي وتنحسر في غالبيتها. بل وتشير تطورات أخيرة إلى أن زمام المبادرة داخل دول المنطقة ربما يكون عاد إلى الأنظمة الحاكمة التي صمدت، ولا أقول انتصرت، في أول اختبار لها في معركة الديموقراطية، وأنها بهذا الصمود، ولأسباب أخرى سيأتي ذكرها قد تنجح كعادتها في تجميد الأوضاع معتمدة، أيضاً كعادتها، على عنصر الزمن الذي وقف غالباً في صفها، مشجعاً لها على رفض التغيير والتزام الكمون للمحافظة على الاستقرار. يبدو أيضاً أن القوى الأجنبية التي تحمست بعض الوقت لتثوير المنطقة العربية على طريق الديموقراطية فترت حماستها، فالرئيس بوش"أكبر الدعاة وأشدهم حماسة"، لا يزال يتحدث عن ديموقراطية في العالم العربي والإسلامي، ولكن في خطاب فقد حماسة الإقناع وفقد أيضاً ما كان يتمتع به من إلحاح وإصرار وتركيز. ولم يعد خافياً أن الدكتورة رايس انتقلت من موقع الانتقاد الدائم لأوضاع الديموقراطية في الشرق الأوسط وضرورات الإصلاح إلى موقع المديح والثناء على ما تحقق، على رغم أن ما تحقق على الأرض لا يتناسب مع ما كانت تطالب به أميركا والتيارات الداعية للتغيير في الدول العربية. من جهة أخرى، ولعلها الأكثر أهمية، تراجع تيار هام من تيارات الفكر المحافظ في أميركا عن موقفه من نشر الديموقراطية في العالم العربي. يقول عضوان بارزان في مؤسسة"أميركان إنتربرايز"، القاعدة الفكرية والأيديولوجية لليمين المحافظ الحاكم في واشنطن، أنهما بعد تفكير عميق توصلا إلى أن الديموقراطية في الشرق الأوسط قد تأتي بحكومات مناهضة للولايات المتحدة ومعادية للصهيونية، وانهما اكتشفا التناقض الذي وقعت فيه حملة التبشير بالديموقراطية عندما ووجهت باحتمال أن تصل منظمة حماس في فلسطين وكل من السلفيين السنة والبعث والمقاومة المسلحة في العراق"والاخوان المسلمون"في مصر وسورية والأردن إلى الحكم في هذه الدول. يقول دانيال بايبس من"منتدى الشرق الأوسط"وهو أحد مهندسي حرب العراق وحملة التبشير بالديموقراطية في الشرق الأوسط،"يجب أن تبطئ أميركا العملية الديموقراطية، حتى تمنع وصول حكومة إسلامية إلى السلطة في دول عربية". وأضاف في تناقض ملحوظ أنه مازال يقول"نعم للديموقراطية... ولكن ليس الآن، فالديموقراطية عملية بطيئة... وقد تتطلب قروناً لتنمو". بمعنى آخر تحققت توقعات كثير من المراقبين والمسؤولين العرب وعاد المبشرون الأميركيون بالديموقراطية إلى رشدهم وإلى رؤية الحقيقة التي طالما حاولت الحكومات العربية توضيحها لإدارة الرئيس بوش وجماعته الأيديولوجية. ينصح بايبس الحكومة الأميركية بأن تمنح القادة في الشرق الأوسط الفرصة لإعداد"جدول مواعيد مريح"لتدخل الديموقراطية إلى بلادهم"على المهل". وأضاف بصراحة:"أنا شخصياً أفضل مستبدي اليوم على مستبدين إسلاميين في المستقبل"، ما أشبه هذه العبارة بعبارات تتردد بكثرة هذه الأيام بين مثقفين عرب في عاصمة أو أخرى، سمعتها وسمعت أسوأ منها في مؤتمر جمع ممثلين لعدد غير قليل من التيارات السياسية لمناقشة الخطر الذي يهدد مصر ووحدتها واستقرارها، أي الفتنة الطائفية. سمعت في مؤتمر القاهرة ما يتفق مع رأي المفكر الأميركي الثاني الذي اشترك في وضع التبرير الأيديولوجي والسياسي للحرب ضد العراق ريول جريشت Gerecht حين قال:"مستبدو اليوم يتسببون بفسادهم في دفع مسلمين بأعداد كبيرة نحو تفضيل البديل الإسلامي"، ولم يفتني المغزى في عبارة جاءت على لسان فقيه من رجال الدين حضر المؤتمر، حين قال إن"الفساد السياسي هو الذي يفرز أعداداً كبيرة من المسلمين يفضلون التطرف الإسلامي". ومن ظواهر صمود الأنظمة العربية في المواجهة مع حملة الإصلاح، وفي اقتناع بعضها بأنه انتصار، هذا الموقف الذي وقفته الدول العربية جهراً أو صمتاً في مؤتمر البحرين الذي عقد تحت عنوان"منتدى المستقبل". كان الموقف برمته صدمة لعدد كبير من منظمات المجتمع المدني وللمعارضة السياسية التي كانت تنتظر من المؤتمر دعم مسيرة الإصلاح الديموقراطي في بلادها، ليس بما ستحصل عليه من معونات من المنتدى، ولكن بالتأييد المعنوي الذي ستكسبه حركة الإصلاح ويفقده المتشددون في حكومات المنطقة، يقول كثيرون ممن قابلتهم من العائدين بأن الموقف في نهاية المؤتمر جسد وضع النكسة التي تمر بها حركة الإصلاح في معظم الدول العربية، والصحوة التي تمر بها غالبية قوى التشدد في حكومات المنطقة وتياراتها. كانت المرحلة الأولى في الانتخابات التشريعية المصرية وصلت إلى نهايتها حين قرر بعض قيادات المجتمع المدني والمعارضة المصرية أنها تجربة كاشفة جاءت في الوقت المناسب. كشفت المرحلة عن أن الإصلاح أفاد الدولة بأكثر مما أفاد الأحزاب، بما فيها الحزب الوطني الحاكم. وكشفت حقيقة لم تكن غائبة، وهي أن قطبين اثنين سيتحكمان في عملية التغيير: النظام والتشدد الديني، ولا ثالث لهما. وبالتالي فالإصلاح في هذا السياق مؤجل. كشفت أيضاً أن الإصلاح لم يحقق إنجاز يذكر لأهم أقليتين في المجتمع المصري: المرأة والأقباط. ولم تخف قيادات نسائية غضبها من المجلس القومي الذي أُنشئ تحت مظلة الإصلاح لغرض تمكين المرأة المصرية وتيسير مشاركتها في العمل السياسي، وأقام ندوات ومؤتمرات متعددة لهذا الغرض وعقد حلقات تدريب لمئات من سيدات الريف والصعيد، وأنفقت عليه أموال طائلة، وعندما حانت ساعة اختبار إنجازاته الحقيقية على أرض الواقع وأمام فرصة لا تتكرر كل يوم، فوجئ مجتمع المرأة بوضع يقترب من حد الهزل. اتضح أن الحزب الحاكم لم يجد وجوهاً جديدة من النساء لينزل بها انتخابات المرحلة الأولى أو أنه، كما ردد بعض الإعلاميين الناطقين باسمه، لم يكن مستعداً للمجازفة بفقدان مقاعد يرشح لشغلها نساء. من جهة أخرى، فإن مَنْ شاركن من نساء المعارضة كن حفنة لا أكثر. أما الأقلية الأخرى، أي أقباط مصر، فلم تقبل الأعذار التي قيلت في تبرير تقاعس الحزب عن تقديم أقباط ومساعدتهم على الفوز، وبينها العذر ذاته الذي قيل في ترشيح النساء، فجاء هذا التقصير سبباً يُضاف لأسباب أخرى أثارت التوتر الطائفي، على رغم تحذيرات أهل العقل الذين تمنوا على النخبة الحاكمة، والسياسية عامة، تجنب كل ما من شأنه أن يضيف زيت على نار لم تخب بعد. ليس سراً، ولا خافياً، على المتابعين لحملة الإصلاح السياسي في العالم العربي، أن الأنظمة الحاكمة العربية تجاوزت مرحلة الخطر وعادت إلى ممارسة أساليب وطرائق حكم، كان الظن أنها تخلت عنها تحت ضغط الإصلاحيين في الداخل وفي الخارج. وأعتقد أن النية منعقدة على عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل"هوجة"الإصلاح، حسب التعبير المفضل عند أحد قيادات العمل السياسي، مهما كلفت هذه العودة. وأعتقد أيضاً أن هذه النية ستزداد إلحاحاً مع استمرار الأسباب التي شجعت على الصمود قائمة وفاعلة. أما الأسباب كما يراها خبراء الحكم ومستشاروه وآخرون فهي: - أولاً: الضعف الشديد الذي تعاني منه إدارة الرئيس بوش، وخصوصًا أنه جاء في الوقت المناسب، فكان بمثابة هدية لمناهضي الإصلاح ونعمة لم يتوقعها أحد منهم. لقد اضطر الرئيس بوش، لمواجهة النقص المتفاقم في شعبيته، إلى نقل التركيز في خطاباته وسياساته الخارجية من قضية نشر الديموقراطية إلى قضايا داخلية. وفي ظني أن هذا النقل وصل إلى عواصم المنطقة العربية في شكل رسالة توحي بأن الإصلاح لن يكون هماً أميركياً خلال السنوات الثلاث المقبلة. - ثانياً: الفشل الذريع للعراق"الجديد"كنموذج للديموقراطية في الشرق الأوسط، حتى أن منظمات الحركة الديموقراطية والليبرالية في كل الدول العربية صارت تتفادى الإشادة بالعملية السياسية في العراق ابتداءً من صياغة الدستور والاستفتاء عليه وانتهاءً بالاستعدادات الراهنة للانتخابات التشريعية المقبلة. أصبح العراق بالفوضى الضاربة فيه والعنف المستشري وخطر انفراطه نموذجاً لمحاولة إصلاح سياسي تجري بتدخل أجنبي أو بمعدل سرعة أسرع من المعدل الذي يزعم النظام الحاكم في كل دولة عربية على حدة أنه سيقرره بما يتناسب وتاريخها وجغرافيتها وظروفها الدينية وحال الأمية فيها والتجارب السابقة وخصوصيات عديدة أخرى من دون حصر. - ثالثاً: جاءت الأزمة المتعلقة بسورية لتضيف بعداً جديداً إلى وضع شديد الاضطراب في المنطقة. إذ ساد شعور في الأوساط الحاكمة العربية بأن استمرار الوضع الحالي في العراق على فداحته، قد يدفع الولاياتالمتحدة بدرجة أو بأخرى من التهور لتفتح جبهة أخرى تخفف بها الضغط عليها في العراق. وربما لجأت أيضاً إلى ممارسة ضغط على الدول العربية لدفعها للمشاركة عسكرياً في العراق بعدما وافقت على المشاركة السياسية، خصوصا وأنها، أي الدول العربية، يجب أن تعترف بأن الضغوط الأميركية للإصلاح خفت إلى حد كبير فانزاح عن كاهلها عبء سخيف وثقيل. وأظن أنه ليس غائباً عن التحليل والتشاور المتبادل بين العواصم العربية اتصال التطورات في لبنان بالتطورات في العراق عبر التطورات في سورية والموقف الدولي منها. وليست خافية خشية حقيقية في أكثر من عاصمة عربية من عواقب الشراكة الأميركية الفرنسية في الهيمنة على لبنان: العضو الأكثر رخاوة في جسد المشرق. - رابعاً: لم تضيع أكثر الدول العربية فرصة فوز أحمدي نجاد في انتخابات الرئاسة الإيرانية، لتأكيد موقفها الثابت من خطورة الديموقراطية على سياسات الاعتدال والعلاقات الطيبة مع الغرب. وصدرت تعليقات في إسرائيل ترفض مبدأ شارانسكي الذي قال الرئيس بوش عنه إنه كان ملهماً له ولحملته لنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، وتحذر من ديموقراطية تأتي بأمثال نجاد في كل الدول العربية. يبقى واضحاً وجلياً أن جانباً كبيراً من المأزق الذي انحدرت إليه حملة الإصلاح تسببت فيه تيارات المعارضة السياسية بأخطائها وعدم نضوجها ومناوراتها"الصغيرة"، كما يبقى واضحاً وجلياً أن البديل لما هو قائم لم يكتمل، وفي أكثر المواقع العربية لم يدخل بعد مرحلة التكوين. هنا يجب الاعتراف بأن الإصرار على عدم إتاحة الفرصة لقيام بديل ديموقراطي وتعددي ومعتدل أثمر وثماره الآن تهدد كل المواقع. كاتب مصري.