نُدبج بيانات ونَزور ونُزار وندلي بتصريحات ونستجيب كثيراً ونعترض قليلاً ونسير في تظاهرات ويقتلوننا كل يوم في ُنين وغزة والفلوجة وبغداد ونقتلهم أحياناً، ولكن في معظم الأحيان نتأمل في حزن أو نلهو في سخف وكلنا في مواقعنا وعلى مواقفنا لا نتحرك. لم ننفعل كثيراً عندما سقط في الفلوجة مئات من العراقيين. ولم ننفعل عندما سقط طفل بعد طفل في ُنين وطولكرم وغزة. يقول يهود إسرائيل للأميركيين لا تخشوا ردود فعل العرب. سيرضخون إن آجلاً أو عاجلاً، وخصوصاً إذا شعرت حكوماتهم بأن تهديد استقرارها أقرب إليها من حبل الوريد. وفهم الأميركيون الرسالة. ضاعفوا نشاطهم في القتل وفي الغطرسة وفي التهجم على كافة ما تعتز به هذه الحكومات. قال الوزير كولين باول إن حكومة العراق التي ستستلم الحكم في العراق بعد شهرين ستكون حكومة ناقصة السيادة. لم تنفعل حكومة عربية، ولا مسؤول عربي. فالسيادة ليست إحدى الأولويات في العلاقات العربية الأميركية. السيادة نافعة وحتمية في العلاقات العربية - العربية وليست كذلك في أية علاقة بين عرب وغير عرب. وكان آخر نفع لها عندما استخدمت ذريعة لإلغاء القمة العربية في تونس أو تأجيلها، وذريعة لمن أراد أن يحتج على هذا الإلغاء أو التأجيل فالقرار التونسي خدش سيادته لأنه اُتخذ من دون التشاور بين"سيادتين"، وبدقة أكثر، بين اثنين وعشرين"سيادة". يجب أن نعترف أن في منطقتنا واقعاً مختلفاً في الدرجة عن واقع عشناه لسنوات طويلة. يجب أن نعترف أن كثيراً من حكوماتنا العربية محرجة. وأظن أنه وصف ملائم لأنه لا يجرح إحساساً ولا يؤذي مشاعر. تصورت أن المسؤولين لابد وأن يكونوا في حرج لأنهم مطالبون يومياً بموقف من مذبحة العرب في العراق ومذبحة العرب في فلسطين ومذابح واقتتال واعتقال في مواقع أخرى كثيرة. ولكنهم لا يعلنون ولا ينفعلون، والناس تطالب ثم تسكت عن المطالبة. لكنها تنظر وترفض أن تنسى ثم هناك هذا اللغم الذي دسه الأميركيون بخبث كبير وبنيات ليست طيبة ولا صادقة. يضغط الأميركيون بقوة على حكومات عربية بعينها لإجراء إصلاحات بعينها، أغلبها يمس حقوقاً للحكام كانت شبه مقدسة وحقوقاً للشعوب كانت محرومة منها. ولكن الأميركيين لم يضغطوا على كل الحكومات العربية بالدرجة نفسها. استثنوا بعضها.فكان الحرج. وقع حرج بين حكومات شقيقة متشابهة في كل شيء تقريباً. بعضها فرضوا عليه الإصلاح وما صاحب هذا الفرض من تشويه للسمعة في المجتمع الغربي، ومس بالكرامة والمكانة داخل الإقليم العربي والإسلامي وعالم الدول النامية على اتساعه. والبعض الآخر منحوه صك البراءة. وهو في رأي أشقائه مذنب مثلهم وإن لم يعترفوا بالذنب. ووقع حرج آخر. فقد طولبت هذه الدول التي فرضوا عليها الإصلاح إعلان استجابتها، وإن مشروطة. وكان الهدف من طلب الاستجابة المعلنة الالتزام أمام شعوبها بالتنفيذ. بعض هذه الدول كان أقام جانباً من شرعيته لدى شعوبه على دعوى أو خرافة أنه لا يتعرض لأي ضغوط، وإن وقعت فلن يستجيب لها. الضغط هذه المرة جاء صاخباً ولم تنكر وقوعه حكومة عربية واحدة . قالت واشنطن إن أفكارها للإصلاح نقلت إلى كثير من الحكومات العربية ضمن سلة من الضغوط. وقالت أوروبا إنها على علم بهذه الضغوط الأميركية وألمحت إلى استعداها الاشتراك بضغوط من ناحيتها في سلة أقل قبحاً من السلة الأميركية. ووصلت كل الرسائل الغربية إلى الشعوب العربية تعترف بأن ضغوطاً وقعت على العواصم العربية ليحدث الإصلاح. وكان مبعث الحرج أن كثيراً من الحكومات العربية شعرت أنها إن استجابت ستكون متهمة من شعوبها بأنها تصلح عن غير اقتناع، وإلا لأصلحت عندما لم تكن هناك ضغوط أجنبية. وإن لم تستجب فهي متهمة أمام كل دول الغرب، وكل الحركات الإصلاحية في العالم النامي، وكافة منظمات المجتمع المدني العالمي، وأمام شعوبها بالاستبداد وأنها رافضة للتغيير والإصلاح، وبالتالي تستحق من الجميع الإدانة ثم العقاب. ووقع حرج آخر. ففي الدول العربية اشتغل الليبراليون طويلاً وضحوا كثيراً من أجل اقتناع حكوماتهم بضرورة إجراء إصلاحات سياسية. ولا مبالغة في القول إن الليبرالية العربية فشلت في تحقيق ذاتها. ثم فقدت كثيراً من صدقيتها حين بشرت - مع بعض الحكومات - بفكرة أن الديموقراطية في مجتمعاتنا العربية قد تؤدي إلى وصول المتشددين من أعضاء التيارات الدينية واليمينية المتطرفة إلى الحكم. كان موقف هذه الفصائل، ومازال، سبباً كافياً من أسباب انعزالها وتناقض ما تفعله. لم يقل أصحابها نحن جاهزون للمقارعة والمناقشة، ولم يرددوا ما يقوله فوكوياما وغيره عن حتمية الحل الليبرالي وقوته التاريخية الهائلة. حدث العكس، فقد استسلمت هذه الفصائل الليبرالية عند أول تحدٍ لأفكارها وطموحاتها. وفضلت على الفور أن تلعب دور الجناح الليبرالي في نظم غير ديموقراطية عن أن تنشط من أجل إقامة نظام ليبرالي يحظى باقتناع غالبية أفراد أو تتنافس على هذه الغالبية مع القوى الدينية. اعترفت بأنها عاجزة عن الحصول على أغلبية أصوات الناخبين في أي انتخابات ديموقراطية حرة. قررت اختصار الجهود والوقت والاستمتاع بمزايا المشاركة السياسية كطرف تابع وليس كقوة سياسية مؤمنة بالديمقراطية الليبرالية وساعية بالنضال لتحقيق مبادئها. هذه الفصائل الليبرالية في العديد من الدول العربية في حرج، ليس فقط لأنها لم تعد مقنعة وانكشفت نيات بعض قياداتها البارزة في السعي لمناصب في السلطة غير الليبرالية، ولكن أيضاً لأن واشنطن انتزعت من كل القوى الليبرالية في العالم العربي سلاح الإصلاح السياسي، واستخدمته بنفسها. فجأة وجدت القوى الليبرالية العربية نفسها في مواجهة مع مبادرات الإصلاح الليبرالي المقبلة من الخارج. وكان حرجها ملحوظاً. فهي إن استمرت تدعو للإصلاح ستتهمها الحكومات وتيارات التشدد والمنتفعون من الأوضاع القائمة بالتشيع لأميركا والإصلاح المفروض من الخارج، وإن توقفت عن التبشير برسالتها الليبرالية اتهمت بالتخلي عن عقيدتها السياسية والخضوع لإرادة الحكومات وفقدت مكانتها في الغرب ومجتمع حقوق الإنسان العالمي وجماعات المصالح الكبرى ومؤتمرات ومنظمات العولمة، وكلها مواقع حققت فيها ومن ورائها هذه الفصائل الليبرالية امتيازات مادية ومعنوية كبيرة على امتداد السنوات الأخيرة. وعلى رغم الأسباب الكثيرة للحرج، لا أرى حرجاً في واشنطن، أو لعلها في حرج أحسنت إخفاءه. وإلا فما التفسير المعقول لحال الاضطراب التي شاهدناها في كلمات الرئيس الأمريكي، وعلى ملامح وجهه خلال مؤتمره الصحافي مع رئيس الوزراء البريطاني. لم يحدث اضطراباً مماثلاً خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه والرئيس المصري أو خلال المؤتمر مع شارون. يبدو أن الرئيس الأمريكي لا يقع في أي حرج طالما كان في وضع الهجوم. كان هجومياً في حديثه عن الفلسطينيين والإصلاح في الشرق الأوسط والأوضاع في العراق، كان يتحدث منتصراً وهو إلى جانب زعيم عربي ويتحدث ممتناً وشاكراً وهو إلى جانب زعيم إسرائيلي فلم يبد عليه أي حرج. وكان في وضع الدفاع عندما كان مع توني بلير لأن بلير برز في المؤتمر الصحافي مدافعاً من الدرجة الأولى، والرئيس مدافعاً من درجة أخرى لا تتناسب ومسؤولية بلاده في كل ما حدث ويحدث. لا تقول واشنطن الحقيقة عن العراق أو أفغانستان أو فلسطين، بينما أوروبا الشامتة في صمت بدأت تقلق وتخشى على الاستقرار الدولي نتيجة تدهور صدقية أميركا. تدرك أوروبا جيداً أبعاد الورطة العالمية الراهنة. تدخلات أميركا بقيادة نخبة متهورة تهدد سلام العالم واستقراره. وانسحاب أميركا أو اعتزالها يهدد سلام العالم واستقراره. لا يوجد طريق وسط، على الأقل حتى تظهر نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية.الورطة نفسها، وإن أصغر حجماً، واقعة في العراق - فالخروج الأميركي المفاجئ من العراق قد يتسبب في حريق هائل وبقاء الاحتلال يسبب حريقاً ليس أقل هولاً. ولذلك يشعر الشامتون والقلقون في أوروبا بالحرج، وكذلك حكام روسيا واليابان الصين والهند. وغيرهم. ولكن أشد الحرج واقع في منطقتنا العربية. نوع من هذا الحرج كان وراء أزمة انعقاد قمة تونس. وأظن أن القمة المقبلة ستكون قمة الحرج أو قمة في الحرج. لن يرفع هذا الحرج إلا أن يخرج قادة المنطقة إلى شعوبهم ليعلنوا أنهم يرفضون ما قاله الرئيس الأميركي في وجود آرييل شارون جملةً وتفصيلاً. يقولون إنهم لا يقبلون تمزيق الاتفاقات وخرق القواعد الدولية وفرض شريعة"الواقع على الأرض". لقد صدر وعد بلفور عندما لم تكن في العالم العربي دول عربية حرة مستقلة. والآن يصدر وعد غربي جديد أشد ظلماً وإجحافاً واستهانة في وجود عشرين دولة عربية تضمها منظمة إقليمية قومية ويجتمع قادتها في مؤتمر ينعقد في دوريه منتظمة. والدول العشرون - أو أكثر - دول مستقلة وتقدس سيادتها وترفض التبعية، من هنا كان الجرح. ألم يتغير شيء في العالم العربي وفي علاقته بالقوة الأعظم بعد مرور قرابة المائة عام ؟. أمام القمة - إن عقدت - خيارات صعبة ومتناقضة. هل تقبل بالإصلاح المفروض من الخارج الذي يتهمها بالتقصير والعجز الديموقراطي؟ هل تبارك الأعمال الأميركية ضد"عراقيين"يعتقدون أن التحرير انقلب احتلالاً؟، هل تسكت عن وعد بوش الذي يساوي بين عرب مطلع القرن الحادي والعشرين وعرب مطلع القرن العشرين الذين لم تكن لديهم حكومات تنطق باسمهم فترفض وعد بريطانيا لليهود وتعمل لإجهاضه؟ * كاتب مصري.