"آن الأوان أن نفكر في ما لا نجرؤ أن نفكر فيه. آن الآوان أن نتحلل من محاذير كثيرة، طالما وقفت عقبة أمام قدرتنا على التصور. لم نعد نملك أن نفكر بعقلية القرون الوسطى، حيث هناك محاذير على الفكر، لأن هناك محاذير على القول ... إن العالم يتحول بسرعة، ولا يرحم المتخلف. علينا أن نتعلم كيف نتصدى لما يصدمنا، وألا يشلُّ تفكيرنا ما يوجعنا ... إننا في عصر"ثورة". وليست"الثورة"مصطلحات ثورية فقط، ولا هي تمجيد أو تقديس أحداث كانت"ثورة"في يوم ما، بل عملية متصلة حلقاتها، متجددة أبداً، متسعة الآفاق أبداً، هى أن نقفز باستمرار الى أبعد، وأن نفتش باستمرار عما هو ناشئ، وندفع بالمولود الجديد الى الحياة، أياً كانت آلام المخاض". هذه الكلمات الجريئة المثيرة مقتبسة من مقدمة كتاب"بعد أن تسكت المدافع"، للمفكر الماركسي المصري محمد سيد أحمد، الذى حلَّ مؤخراً ثلاثون عاماً على صدوره. ويبدو أن هذه الكلمات تعبر عن الخطوط العريضة لنظرية المؤلف: تحليل ديالكتيكي خلاق، يفحص التغيرات والتحركات الدائمة، والمتعددة التناقضات، لمكونات الواقع العالمي والإقليمي والمحلي. إن حلول ثلاثين عاماً على صدور ذلك الكتاب يمنحنا فرصة ملائمة للفحص النقدي وليس بالضرورة الانتقادي لمنطلقاته، والمعضلات التي حاول أن يواجهها، والنتائج التي توصل اليها. شهدت السنوات التى تلت حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 خطاباً فكرياً مثمراً في مصر وفي أنحاء الوطن العربي حول التداعيات السياسية لعبور أكتوبر. ساهم اليساريون المصريون، الذين كانوا آنذاك أعضاء نشطين في الاتحاد الاشتراكي العربي، مساهمة فعالة في ذلك الحوار، سواء على صفحات مجلة"الطليعة"المنبر الفكري الذي أتيح للماركسيين المصريين نشره بعد اطلاق سراحهم من المعتقلات أو على منابر أخرى. صدرت في 1975-1976 في مصر عدة مؤلفات لمفكرين يساريين تناولت مستقبل الصراع العربي الاسرائيلي في ضوء إنجازات حرب أكتوبر. نذكر منها، مثلاً لا حصراً، كتاب المرحوم لطفي الخولي"مدرسة السادات السياسية واليسار المصري"وكتاب المرحوم عبد الستار الطويلة"رفض الرفض". لقد مثَّل هذان الكتابان رؤيتين متباينتين، بل متناقضتين، داخل اليسار المصري إزاء قضية الصراع العربي الإسرائيلي. غير أنه مع كل التقدير لهذين الكتابين وسائر المؤلفات التي صدرت في تلك الفترة وتناولت تلك القضايا، يبدو أن كتاب سيد أحمد يفوقها جميعاً من حيث مستواه الإبداعي. يُلفَت النظر أولاً، الى أن المؤلف يعتبر المستقبل، ليس الماضي، مرجعية لمعالجة الصراع العربي الإسرائيلي هذه، على فكرة، هي الصفة الأساسية لكتابه الآخر"سلام... أم سراب"، الذي صدر عام 1995، على خلفية اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ثانياً، يمتنع المؤلف عن تحديد حلول مطلقة للصراع العربي الإسرائيلي. أنه مدرك لتعقيد الصراع ولتعدد العوامل المؤثرة عليه، ويفحص بعين نقدية التفاعل بين هذه العوامل. بل أهم من ذلك، مقابل كل حجة، يطرح المؤلف حجة مضادة، بشكل يفرض على القارئ التأمل في إيجابيات وسلبيات كل خيار من الخيارات المطروحة. صدر الكتاب عام 1975 في بيروت ولم يكن الكتاب ثمرة تشاور مع الرفاق في اليسار المصري، وإنما تأثر الى حد بعيد بتبادل آراء جرى آنذاك وراء الأبواب المغلقة في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية. ولم يعكس الكتاب بالضرورة وجهات نظر كانت شائعة وقتئذ داخل اليسار المصري، بل عبَّر عن الآراء الشخصية للمؤلف. ومع ذلك ليس من شك أن المؤلف، في بعض أجزائه، صبغ تحليلاته السياسية بألوان يسارية معروفة. فهو يؤكد في مستهله أن الذي جعل مجرد التفكير في إمكانية حل الصراع العربي الاسرائيلي ممكناً هو حالة"التكافؤ"التي أحرزتها حرب أكتوبر، ويلاحظ:"يكفي ألا تحرز إسرائيل نصراً حاسماً في حرب واحدة، حتى تشكل هذه الحرب بالنسبة لإسرائيل رِدة وإنتكاسة، وكأنما قد خسرتها. ويكفي ألا يتكبد العرب في حرب واحدة هزيمة منكرة حتى تكتسب هذه الحرب، لا في نظرهم فحسب، بل لأسباب موضوعية كذلك، طابع الانتصار". لقد أحرزت الحرب معادلة جديدة، أحدثت لأول مرة ميزان قوى يعتمد على"قاسم مشترك ما"، وعلى حد أقوال المؤلف،"إن الجديد منذ حرب أكتوبر هو توصل شتى أطراف النزاع الى قناعة بأن بلوغ تسوية تحقق سلاماً يرضى عنه الجميع مقبول فقط لأنه أقل الاحتمالات سوءًا، أقل الاحتمالات ضرراً للجميع، في إطار التوازن الراهن أو المقدَّر لعلاقات القوى في أي مستقبل منظور". وكالعادة فكتاب سيد أحمد متعدد الأبعاد، يحتوي على قضايا مهمة كثيرة: إحتمال التوصل الى سلام عربي إسرائيلي والعقبات التي تهدد العملية"التغيرات التي حدثت في المجتمع الاسرائيلي على أثر حرب أكتوبر"حوافز تدعيم السلام ومنع اندلاع الحرب"احتمالات حل القضية الفلسطينية والقبول المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير"العوامل الأساسية للصراع العربي الاسرائيلي هل هى دينية؟ قومية؟ إقليمية؟ تكنولوجية/إقتصادية؟"المخاوف المتبادلة لدى طرفي النزاع، إلخ... غير أن محور الكتاب، في ظني، تصور الصراع وسُبُل حله كانعكاس إقليمي للانفراج العالمي Detente بين القطبين المتصارعين أيديولوجياً. فيعتبر المؤلف ان حرب أكتوبر تسببت في دخول أزمة الشرق الأوسط عصر الانفراج الدولي، وإزالة الاستقطاب المطلق الذي ترك بصماته على النزاع على مدى السنين. لقد أتيحت فرص جديدة لتحقيق المزيد من حرية التمرين على مبادئ الانفراج. وأهم فصول الكتاب هو الذي يناقش ملامح التسوية المستحسنة للحل. يتساءل الكاتب:"يوم أن ننجز هدف السلام العادل والدائم، يوم أن تسكت المدافع نهائياً، ما الذي سوف يكون؟ ما هي الملامح التي نتصورها للشرق الأوسط؟ ما هي الخواص التي سوف تميز علاقتنا مع إسرائيل؟"، ويضيف ان من المحتمل ان تتخلل الطريق الى التسوية ? طالت أو قصرت - حرب خامسة، أو سادسة، أو سابعة... الا أن هذا لا يخالف حقيقة انه لا يوجد حل عسكري للأزمة. ثم يقتبس من أقوال الرئيس أنور السادات،"ان الأزمة قد بلغت من الخطورة لأطراف دولية متعددة حداً أصبح معه عدم الحل أمراً غير محتمل". فمن البديهي ان تضم التسوية السلمية الدول العربية كافة، وأن تضمن حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية. أما بشأن ملامح التسوية، فيؤكد أنها" ليست الغاء التناقضات، بل هي إعادة ترتيب هذه التناقضات التي يُعتبر ضررها على جميع الأطراف أكبر من فائدتها لأي طرف". والنتيجة التي يتوصل المؤلف اليها هي أن"خريطة الصراعات في المنطقة لم تخفت. بل على العكس تعقدت بعد حرب أكتوبر، مع حلول عصر الانفراج الدولى، وبعد أن أصبحت التسوية أمراً وارداً. ذلك ان حل التناقضات"الرأسية"سوف يفسح المجال أمام التناقضات"الأفقية"، أي الصراعات الاجتماعية داخل كل كيان شرق أوسطي بحد ذاته، بما في ذلك إسرائيل، وعلى اتساع الخريطة الجغرافية للمنطقة ككل. وبصفته مفكراً يسارياً ماركسياً يطرح المؤلف عدداً من التساؤلات لا مفر منها:"هل التسوية مع إسرائيل حتماً تفريط في الحق؟ هل الانصياع لفكرة التسوية حتماً منطلق يميني استسلامي... وهل مقاومة التسوية حتماً منطلق يساري ثوري؟ ما هو المحتوى الاجتماعي لمبدأ التسوية مع إسرائيل، وهل هو غلبة لليمين أو لليسار؟". ويا ليت اليساريين العرب تبنّوا جواب سيد أحمد عن هذه التساؤلات حيث يؤكد ان"رفض مبدأ التسوية ليس بالموقف الثوري، وقبول مبدأ التسوية لا ينمّ في حد ذاته عن موقف رجعي". والآن بعد مرور ثلاثين عاماً منذ أن صدر الكتاب، وهى فترة حافلة بالتقلبات والتغيرات العميقة، يجب أن نتساءل: هل تحققت أم أخفقت فرضياته الأساسية؟ لقد أشار المؤلف نفسه في بعض مقالاته في"الأهرام"الى توقعات لم تتحقق وملابسات عالمية وإقليمية تغيرت جذرياً. فمثلاً، أصبح السلام مع إسرائيل أمراً ملموساً ليس بفضل جهد عربي مشترك بل بفضل مبادرة منفردة للرئيس المصري، الشيء الذي عمَّق الصراعات العربية العربية، الى أن سلكت بعض الأطراف العربية الطريق التي مهدها الرئيس السادات، وتبلور إجماع عربي يعتبر السلام مع إسرائيل خياراً إستراتيجياً. كما تجب الإشارة الى انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية مع انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في شرقي أوروبا، الشيء الذي منح مصطلح الانفراج مفهوماً جديداً. يضاف الى ذلك اتفاقيات أوسلو التي، مع كل نقاط ضعفها، رسّخت في الخريطة عنصراً لا رجعة فيه: الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، ومن ثم كانت الغطرسة الإسرائيلية والانتفاضتان اللتان تجسدان الكفاح الفلسطيني لانهاء الاحتلال الاسرائيلي واقامة دولة فلسطين المستقلة الى جانب دولة إسرائيل. المدافع في الساحة العربية الاسرائيلية والفلسطينية الاسرائيلية لم تسكت بعد، ولا يمكن لأحد أن يتكهن متى ستسكت، لكن علينا أن نسلِّم بأن بعض الافتراضات الأساسية للكتاب لم تزل سارية المفعول الى يومنا، وسوف تظل سارية في المستقبل المنظور، وفي مقدمتها فرضية إستحالة الحل العسكري للصراع، وحتمية التسوية، التي لا تعني في المرحلة الراهنة سلام الأفئدة، بل"إعادة ترتيب التناقضات"بين أطراف النزاع.