اغتيل الرئيس المصري أنور السادات في 6 تشرين الأول اكتوبر 1981. في المناسبة هذه القراءة لمعنى اغتياله كما يبدو اليوم. شكل اغتيال الرئيس السادات مصدراً للكثير من الدروس والعبر تزداد وضوحاً وتنوعاً كلما تراكم الزمن من بعده وتدفقت المياه في نهر الأحداث. ولم يكن اغتيال السادات مجرد واقعة سياسية مأسوية يحفل تاريخ مصر والعالم العربي بالكثير منها، لكنه كان بمثابة تجميد لمشروع سياسي استثنائي للشرق الأوسط بكامله، أخضع القواعد والقيم الاجتماعية والسياسية لأطراف الصراع العربي - الاسرائيلي لاختبار حاد. وعلى رغم ان سيرة السادات بالعربية في الغالب والأعم، كتبها خصومه، إلا أن ذلك إضافة الى غيابه الجسدي لم يكن كافياً لنسيان نتائج ذلك الاختبار العاصف، والذي كان السادات محوره وعرابه وأول الغارمين فيه. وعلى رغم الاستثنائية والشخصانية والتجميد لهذا المشروع، إلا أنه تحول الى ما يشبه اللعنة الاغريقية تكشف ضمائر كل الأطراف وتشير الى مصير العروبة السياسية والنظام الاقليمي العربي الذي تأسس عليها بعد أن دب التآكل في الأرصدة القانونية والأخلاقية لكل القضايا العربية وفقدت البلاغة اللغوية القومية تأثيرها، حتى التضحيات والدم والألم الفلسطيني فقدت تأثيرها للأسف وهو ما يعني ان اجابات الخصوم طوال 23 سنة لم تكن مقنعة، وعاد مشروع السادات سؤالاً حرجاً ومعاصراً، والأسئلة عادة في عالم الوعي أكثر خطراً وبصيرة من الاجابات كما يقول اندريه جيد. كان مشروع السادات، أو حلمه المجهض، يتمحور حول تقديرات عدة اختلطت بتوقعات عدة في مقدمها انتهاء الحرب الباردة لمصلحة الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة، وأن القدرات العربية في أفضل الأحوال ومهما بلغ الدعم الاستراتيجي السوفياتي لها لن تكون قادرة على حسم الصراع مع اسرائيل، وكانت هناك مؤشرات لذلك من بينها اعلان سياسة الوفاق بين نيكسون وبريجينيف في 1972 والتي حذفت صراع الشرق الأوسط من الأولويات، واتفاقية هلسنكي في 1975 التي أخضعت الاتحاد السوفياتي لمقاييس حقوق الانسان. ولم تقلل تعبيرات السادات الفجة من صحة هذه التقديرات. واستنتج ان التعايش مع اسرائيل هو البوابة الصحيحة لتوثيق العلاقة مع الغرب لتحقيق التنمية والاستقرار. وكان ذلك يعني بناء نظام اقليمي جديد على أنقاض النظام العربي بصيغته الحالية والذي تأسس على شمولية الأنظمة الحاكمة التي كانت تضع القضية الفلسطينية كأولوية تغطي بها نقص الشرعية السياسية، كما اعتمدت على التغطية التي تقدمها الحرب الباردة لهذا النوع من النظم الاقليمية، وبالتالي أجلت وأخفت التدهور الداخلي والنتائج الكارثية للهزائم الحضارية والاستراتيجية أمام اسرائيل. وكان كل ذلك يمنع التسوية الشاملة للصراع ويفرض الحل المنفرد. كان السادات طاغية على رأس دولة مركزية عاتية قوائمها الأساسية هي البيروقراطية العسكرية والأمنية والدينية بجانب جهاز هائل للبروباغندا، وكانت جمهورية يوليو تلك ضلعاً أساسياً في النظام العربي، شكل الفكر البعثي الهامها القومي منذ 1958 وكان بوابة مرورها الى العالم العربي بعد أن كان خطابها السياسي وطنياً ودينياً وفاشياً قبل هذا التاريخ، ومكنها ذلك من دخول حلبة التنافس الاقليمي مع البعث بجناحيه في دمشق وبغداد. أدرك السادات انه كي يقترب من الغرب يجب أن يتحاشى ضغط مؤسساته الشعبية بتحقيق شروط عدة من بينها تحرير الاقتصاد من الحماية وزيادة المشاركة الشعبية وزيادة هامش التعبير. وعلى رغم تشهير الخصوم بالانفتاح فهو لم يتخذ خطوات واسعة خارج المركزية في تسريع الانفتاح في ميدان التجارة. وظلت المشاركة الشعبية في حدود تعددية غير ديموقراطية عمادها الحزب الواحد، وهو آلية حكومية بامتياز سوقت تحت عنوان الاتحاد الاشتراكي او الحزب الوطني، وهي الصورة المستمرة حتى الآن ولحين اشعار آخر. لكن هامش حرية التعبير اتسع في شكل استثنائي في الصحافة وان حافظ على مركزية في وسائل ومؤسسات ثقافية ودعائية وكان معنى كل ذلك ان السادات لم يتلق الرسالة التي صدرت عن الغالبية الصامتة عندما استقبلته بحفاوة عند عودته من القدس وبتعداد يزيد على المليون لم يكن للتدبير فيها نسبة تذكر، وكان ذلك منطقياً لدى أحد أعضاء مجموعة انقلاب تموز يوليو وهو الذي فشل في تفسير رسالة أكثر عمقاً عندما تظاهر خمسة ملايين في كانون الثاني يناير 1977 ولم يرفعوا شعاراً واحداً دينياً أو قومياً من أسوان الى الاسكندرية وكانت تطالب بالعدالة والحرية. يشيع خصوم السادات انه تحالف مع الإسلام السياسي ضد اليسار والناصريين، ولم يكن هذا صحيحاً بدوره، فقد كانت معركته مع القوميين العروبيين منذ البداية حين أعاد اسم مصر وغير العلم والنشيد الوطني، وكان تحالفه الحقيقي مع اليسار حتى تظاهرات كانون الثاني 1977 وكان في وزارة 1974 زعيمان للحزب الشيوعي المصري وشارك لطفي الخولي في اعداد ورقة تشرين الأول اكتوبر وكان عبدالرحمن الشرقاوي احد محاوري السادات ومعدي خطاباته، وكان معظم رجال الحكم من أعضاء التنظيم الطليعي الناصري، وكان تعامله مع الأخوان المسلمين على مضض، ووافق على صدور مجلتهم "الدعوة" من دون تصريح مكتوب، وكانوا شرعوا في العمل السابع ضده منذ العملية الفنية العسكرية في 1972، كما انه نازعهم خطابهم الديني، وفي عامه الأخير قال: "الدين في المساجد فقط"، أما سبب تعامله معهم فسنوضحه لاحقاً. كان السلام وارداً كأولوية في أجندة اليسار، ولم تكن الديموقراطية في الوارد بالنسبة الى كل الأطراف عدا جماعات ليبرالية صغيرة كانت قد خرجت لتوها من سبات شتوي طويل ولم يكن لها تأثير يذكر. وإذ كان السلام هو ضيف كريم على مأدبة اللئام فإن الديموقراطية كانت تهيم على وجهها شريدة وبعيداً من الأعين. وعندما بدأ السادات صدامه العنيف مع جبهة الصمود والتصدي تدفقت أموالها على مصر، بزعم دعم الصمود أمام "خيانة" السادات، ومعها انهالت اموال الأصولية وتكاثرت التنظيمات المصرية والاذاعات والصحف الموجهة الى مصر في الكثير من العواصم العربية والأوروبية، وانزلقت المعارضة بكاملها تقريباً ومعها قسم كبير من البيروقراطية الحاكمة الى قومية المزاج والمصالح، وتحولت حرية التعبير في غياب الشارع السياسي الى بوق دعائي لجبهة الصمود والتصدي. كانت رؤية السادات تأخذ طريقاً في حركة بندولية بين عالمين لكل منهما زمنه الخاص، هما النظام العربي ومجتمعاته المغلوبة على أمرها وفي المقابل عالم الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة، وكان هذا التناقض هو نقطة الضعف في مشروع السادات، إذ ان الاشتباك مع نظام اقليمي عاتٍ فضلاً عن تغييره يحتاج الى ما هو أكثر من قدرة وإيمان رئيس نظام عضو في هذا النظام الاقليمي، ودعم من قوى عظمى لم تكن قد انتصرت بعد في حرب عالمية، وفي ظل اشكالية مزمنة هي الغياب الشعبي. انتهت حرب اكتوبر لمصلحة اسرائيل حتى ان مصر وسورية طلبتا وقف النار في حين انهما من أعلن الحرب، ولا يقلل من ذلك مشاهد بسالة الشباب المصري والسوري من المشاة في امتصاص هجمات المدرعات، لكن الانتشار الواسع للجيش الاسرائيلي في مساحات من الأراضي أوسع مما كان يحتله قبل الحرب والتوقف عند أبواب مدن كبرى بما فيها العواصم وطول وتعرج خطوط المواجهة وطرق الامداد وضيق قاعدة الانطلاق الاستراتيجي وانخراط قسم كبير من الاحتياطي الاستراتيجي في العمليات، جعل كل ذلك الانتصار الاسرائيلي غير مريح، وساهم ذلك في سهولة التدخل الدولي وانصياع اسرائيل للعملية السلمية على رغم انها كانت تحت قيادة اليمين. من هنا بدأ مشروع السادات، ولم تكن الكفاية في ادارة العمليات العسكرية إذ كانت الحرب تقليدية تماماً ومحددة وذات هدف تكتيكي أو حرب "تحريك"، وكان السادات واضحاً في ذلك، وكان يقول في الداخل "انتصار اكتوبر" ولكنه في الخارج وفي الكنيست قال "حرب اكتوبر"، وكانت الكفاية حقاً في التعامل مع الساحة الدولية بدرجة تسمح للعرب بالمبادرة، وقام بالإعداد المبكر لإخراج نتائج الحرب من تحت مظلة الحرب الباردة حيث لا تحل أية قضية اقليمية، وتذكر اخراجه للخبراء السوفيات، ولم تخل الحرب نفسها من التنافس مع البعث حتى ان الاتحاد السوفياتي وسورية طلبا وقف النار في اليوم الثاني للحرب، ولكن السادات كانت له اليد الطولى الى درجة همشت دور البعث مرحلياً. ولكن وجود منظمة التحرير في بيروت في ظل النفوذ السوري شل حركة عرفات "المصري الهوى" وساهم ذلك في عزل السادات في ما بعد على رغم انه أجل لمدة عام تقريباً الاتفاقية السلمية الخاصة من أجل تحسين شروط السلام مع الفلسطينيين. ونجح في ذلك بانتزاع الموافقة على حق تقرير المصير من اسرائيل للمرة الأولى. لم يتحصل العرب عموماً في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي على معرفة عقلانية عميقة باسرائيل ولا على القراءة العبرية للصراع، وظل الوعي العربي العام أسير التفسيرات الاسطورية وفي أفضل الأحوال توافرت ترجمات ودراسات ذات ذهنية ايديولوجية غرضها هو الحشد وفرض القراءة العسكرية للصراع، ونحت آلة الدعاية العربية منحى فضائحياً وإثارة للذة احتقار الآخر، وترسيخ ثقافة داحس والغبراء تارة، وتارة أخرى تعميق الجروح النرجسية لدى الشعوب بهدف تغذية روح الثأر، وتسبب ذلك في استغلاق وعدم فهم أهم مشاهد مشروع السادات وأكثرها ديناميكية، أعني بها ما حدث في اسرائيل. وصل السادات الى مطار اللد في ذلك اليوم من أيلول سبتمبر 1977 وكان في استقباله كل شخص في الدولة يملك صلاحية الدخول الى المطار على حد تعبير البروفسور شمعون شامير، وطوال المسافة بين اللد والقدس البالغة 50 كيلومتراً تقريباً احتشد الناس من كل حدب وصوب ومن كل الأعمار على الجانبين في دولة كان تعدادها آنذاك لا يزيد كثيراً على أربعة ملايين وفي تجمع لم يحدث حتى عند استقبال رفات تيودور هرتزل لدفنه في اسرائيل بعد انشاء الدولة، ولا عند عرض أرتال الاسلحة والمدرعات العربية السليمة في مهرجان هائل في القدس بعد حرب 1967، والأغرب انهم لم ينصرفوا مباشرة بعد مرور الموكب حتى يتخلصوا من وطأة الذهول. ولكن الأكثر دراماتيكية كان توقيع حوالى 1500 ضابط من جيش الدفاع رسالة مفتوحة الى رئيس الوزراء يطلبون فيها السلام... والآن، وكان هو بيان تأسيس حركة "السلام الآن". كانت الثقافة السياسية والاجتماعية تتوزع بين نظريتين في مستقبل علاقة اسرائيل بالشرق الأوسط، وكانت كل القوى السياسية تنقسم داخلها طبقاً لذلك، وكانت النظرية الأولى ترى ان قوة اسرائيل ازدهرت خلال حربها. وكانت الأخرى حتى ان ذلك الوضع غير طبيعي لدولة مهما طال زمنه ومهما كانت قوتها، وان الانخراط في المنطقة والتعايش والتعاون هو رسالة اليهود. وعلى ذلك المفصل كان هجوم السلام الذي قام به السادات. خلال الزيارة الثانية تعرض مشروع السادات لاختبار دقيق عندما بدأ مناحيم بيغن في التملص من مأزق السلام، وصارح السادات علناً على العشاء انه لا يثق به، وكاد حلم السادات يتحول الى يقظة مؤلمة ويائسة عندما أصدر أمره بإعداد الطائرة للمغادرة في الصباح الباكر، وفجأة حضر الجنرالان ايغال يادين وعزرا وايزمان الى الفندق وانخرطا في حديث طويل حتى الفجر تقريباً مع رئيس الوزراء المصري السابق د. مصطفى خليل بهدف التأكد من نية السادات وقدرته على تنفيذ تعهداته. وفي الصباح وبعد حديث أقرب الى المشادة بينهم وبين مناحيم بيغن خضع الأخير وحضر للاجتماع بالسادات وصرح له انه سينزل على رغبة جنرالاته لأنهم من سيدافعون عن اسرائيل اذا لم تكن نياته صادقة. كان لدى بيغن هامش متسع للمناورة أمام ضغط الولاياتالمتحدة وأوروبا والمنظمات اليهودية حيث تحرك السادات بذكاء، حتى ان بيغن قال مرة غامزاً الى الادارة الأميركية: "لسنا جمهورية موز، نحن أرخص وأفضل استثمار لكم"، لكن هذا الهامش كان يقترب من الصفر أمام ضغط جنرالات الحرس القديم من مؤسسي الدولة. لا تقاس أهمية مشروع السادات بما حصل عليه وهو يتجاوز بكثير الاستحقاق العربي وموازين القوى مع اسرائيل وبما لا يقاس بالنظر الى التدهور الحضاري والمدني للعالم العربي. لكن أهميته تكمن في كشف تعبير الطريق الى الاتفاقات السلمية ومن دون حرب، كما حدث في اتفاق وادي عربة والإمكانية التي لم تكمل لمحادثات شيبردزتاون مع سورية والعرض الذي لن يتكرر كالعادة مع الرئيس كلينتون في كامب ديفيد 2، إضافة الى امكانية التعايش والتعاون من أجل التنمية، وهذا هو الجزء المستقبلي والحتمي في مشروع السادات. أطلت التراجيديا برأسها على مسرح الأحداث وارتسمت النهاية الدموية عندما أصبحت القدرة الهائلة للنظام العربي على الهدم وإشاعة التوتر تمثل سلعة مرغوبة بشدة لدى الولاياتالمتحدة عندما استعملت الاسلام السياسي العربي الولادة والنشأة في الحرب الدينية على الاتحاد السوفياتي خاتمة الحرب الباردة. هنا زال الحاجز بين الزمنين والعالمين، وهنا ارتبكت الحركة البندولية للسادات وانقلب العد التصاعدي الى عد عكسي وفرض عليه ذلك التحالف المتوتر مع الأصولية، وهنا ازداد اقتراب المجال الداخلي في مصر من المجال الاقليمي العربي حتى غدا عينة منه وأداة له، وهنا كان دور كعب أخيل في حياة السادات والذي كان الهوة ما بين التوقع وزمن التحقق. عندما ارتفع شعار "عودة مصر الى الصف العربي" لم يكن في حقيقته سوى تطبيق لشعار "لا سلام من دون سورية". وكان آخر ما تحتاجه المجتمعات العربية تجميد أو تبريد عملية السلام التي تجمد معها التقدم، وكان آخر ما يحتاجه المصريون إعادة مجال الصراع وبعث طقوس عبادة الشر على الجانبين وإطلاق كل شرور اليمين الصهيوني التوسعي. وعندها جاء دور العبارات الصلصالية الخالية من كل مسؤولية عندما أضحت حرب اكتوبر انتصاراً لا قبله ولا بعده وانها السبب في اتفاق السلام، وأصبح الجلاء عن سيناء تحريراً، وعزلت الحرب عن المشروع السياسي للسادات الذي أصبح "خائناً". ولكن لأن الدراما في التاريخ لا تتوقف مثلنا في المسرح، ولأن توقيت تحرك السادات أحال السلام بشارة ورسالة كان تحرك خصومه تأجيلاً له حتى تحول الى اكراه وعقوبة، من بعض بنودها ازالة النظام العربي وإقامة نظام اقليمي آخر على انقاضه لا يحارب قوة التاريخ الغلاّبة وأعني بها التقدم. وإذا كان من عبرة في هذه التراجيديا فهي ان السلام مستحيل في غياب الحرية. الاسكندرية في 13 تشرين الأول/ اكتوبر 2004 * كاتب مصري