على رغم مساندته عدداً مِن حركات التحرر الوطنية٬ بما فيها الحركة الجزائرية ضد بلاده فرنسا، إلا أن جان بول سارتر انحاز إلى الصهيونية؛ على حساب توق الفلسطينين إلى التحرر، وهو قال أثناء زيارته إلى تل أبيب: «إن إسرائيل لها الحق في الوجود ويجب أن تَبقى». وهو أيضاً سانَد الدولة العبرية خلال حرب 3791 من دون أي تحفظ، فمنحته جامعة أورشليم الدكتوراة الفخرية. والغريب أن مثقفين مصريين يعتبرون زيارة سارتر مصر خلال آذار (مارس) 1967 والتي استمرت سبعة عشر يوماً٬ «تاريخية»؛ وينشرون صورها مِن حينٍ إلى آخر على مواقع التواصل الاجتماعي. هؤلاء المثقفون أنفسهم، تفادوا طوال سبعين عاماً، نقل مؤلفه «تأملات في المسألة اليهودية»؛ الصادر في 4491 إلى العربية. أخيراً؛ ترجم الباحث حاتم الجوهري الكتاب نفسه (دار روافد) وضمَّنه دراسة نقدية لمحتواه، ونال عنه جائزة الدولة التشجيعية لعام 7102. وعن السر وراء تأخر ترجمة هذا الكتاب؛ يقول الجوهري: «الأمر يتعلق بفكرة المواءمات وأزمة اختيارات النخب العربية المتناقضة للغاية. كل تيار فكري لديه اختياراته الخاصة وتصوره الذي يرفض سواه. هذه الأزمة حاضرة الآن: الماركسيون العرب يرفضون نسقاً لا يستحضر معركة مع الإخوان تعيد إنتاج صراع العلمانية والدين، والناصريون القوميون يرفضون نسقاً لا يصلح الأنظمة القائمة ويستأنف ما انقطع منذ نهاية الستينات، والليبراليون العرب يتفهمون دورهم جيداً ولا يسعون إلا إلى الدفاع عن مصالحهم المادية في العصور كافة، والإخوان يريدون نسقاً مقدساً يعلن حرباً ضد الجميع، والحل لا بد سيكون مِن خارج هؤلاء». يذهب الجوهري إلى أن سارتر وظَّف فلسفته لمصلحة تأكيد أوهام صهيونية، بذريعة الاضطهاد الذي لاقاه اليهود، وتناسى أن الذين اضطهدوا اليهود هي دول أوروبية استعمرت البلدان العربية واستباحت ثرواتها، وأن التخلص من عقدة الذنب لا يكون بتمكين اليهود مِن الأراضي العربية تحت حجج واهية وأساطير لاهوتية مزيَّفة، وإنما بأن يعتذروا لهم ويعوضوهم بالأموال وعدم الاحتقار. أما القول إن اغتصاب الأرض الفلسطينية هو وسيلة للتحرر وخلق الذات اليهودية، فهذا هو مكمن التناقض الشديد. مِن أهم أسس سارتر في مقاربته وجود دولة إسرائيل في فلسفته «الصهيونية الوجودية»، هو التعامل مع المشكلة كواقع وأمر مسلم به، بغض النظر عن تاريخه، مع تهميش أو إنكار ما نتج منه من مشاكل تخص وجود الشعب الفلسطيني الذي قام سارتر باضطهاده ونفيه ومصادرة حريته الوجودية؛ مساوياً بين المعتدي والمعتدى عليه. يرى سارتر النزاع العربي- الإسرائيلي صراعاً بين مضطهدين يصعب حله، إذ يستوجب – وفق تصوره - التسليم بحقيقتين متضادتين: فمن ناحية لا بد من كيان وطني لضحايا اللاسامية القدامى، ومن ناحية أخرى، لا بد من تمكين الفلسطينيين من حقهم في الرجوع إلى الوطن. وفي سعيه لدعم حرية اليهودي؛ صاحب الصورة النمطية في أوروبا، يرى سارتر أن وجود الكيان الصهيوني في فلسطين هو معطى تاريخي لا يمكن الطعن فيه، وأن المشكل الذي ما زال معلقاً هو وجود اللاجئين الفلسطينيين، لا وجود الشعب الفلسطيني. ويذهب الجوهري إلى أن سارتر كثيراً ما تحدث عن اللاجئ الفلسطيني في الشتات وحقه، لكنه سكت طويلاً عن الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال في أرضه. تحدث عن الحقوق والأوضاع الإنسانية لكنه أبداً لم يرِد في ذهنه أن يتحدث عن الدولة؛ عن ذلك الكيان السياسي للفلسطينيين. ربما كان سارتر في وعيه الباطن يعلم حتمية الصراع بين الكيانين، لذا اختار الانحياز إلى منطقه الفلسفي عن «الوجودية اليهودية» وتمثلها الصهيوني على أرض فلسطين. وهو كان يتحدث عن الفلسطينيين بصيغة التعاطف والأسى والمطالبة ببعض الحقوق الإنسانية، لكنه أبداً لم يتخذ موقفاً واضحاً من حقهم في تكوين دولة، لأنها ببساطة كانت ستقف في وجه تصوره المزعوم عن ممارسة اليهود حقهم الوجودي في الموقف الحر على أرض فلسطين وعلى حساب سكانها من العرب. كان موقفه من الدولة الفلسطينية واضحاً للجميع. في مقابل ذلك؛ في ما يخص قضايا: معاداة السامية، اليهودية، والصهيونية وبخاصة دولة إسرائيل، لم يغير سارتر موقفه؛ على رغم الضغوط التي مورست من جانب اليسار؛ ليتخذ موقفاً إيجابياً إزاء دولة فلسطينية، وحاول في المقابل أن يلفت إلى اهتمامه باللاجئ الفلسطيني الذى حاول أن يختزل فيه حرية الوجود الفلسطيني لمصلحة التحقق الكامل لحرية اليهود وكأنهم مركز العالم ومحوره. لقد قفز فيلسوف الحرية والإنسانية الشهير على خطيئته في حق الإنسان الفلسطيني الذي سلبه حريته الوجودية؛ معتبراً أن العلاقة بين الاحتلال الصهيوني والمقاومين الفلسطينيين هي علاقة متساوية بين طرفين مظلومين، تحمل – من وجهة نظره – المشترك الأبرز المتساوي المتمثل في الظلم الذي وقع على الجانبين؛ في مغالطة وفساد تدليل منهجي وعلمي وتاريخي.