كانت محنة الرأي الآخر أحد وجهي أزمة الرأي الواحد والسائد الذي أدار الصراع مع إسرائيل نصف قرن ويزيد. وتتكاثر الأدلة يوماً بعد يوم على هزيمته في معارك السلام تماماً مثلما هزم في معارك الحرب. ومحنة الرأي الآخر جزء من محنة "كل" رأي آخر في كل قضايا التقدم والحريات وحقوق الإنسان والمرأة، وهو ما يدلل على قصور وتشوه بنائي حاد في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعرب، وأخطر من كل ذلك في منظومة القيم والثقافة، وقد يمتد إلى كل أسس الإجماع الوطني. وإذا سلمنا بأن "الآخر" يشرع في الوجود بمجرد بدء الذات في الوجود، فيجب أن نسلم بأن "الصيرورة" بالمعنى الوجودي تشمل الذات والآخر، وأن الاعتراف بالآخر لا يعني نفي الصراع أو نفي التناقض معه، ثم أن نفي الآخر لا يعني توقف التفاعل معه، بل يعني حدوث التفاعل في معزل عن الوعي. وهكذا يعبر نفي الآخر عن جنوح إلى تصور عدمي للذات، وفقر في الروح والإدراك، وتلك في اعتقادي هي تراجيديا "الأنا" العربية وانقيادها للهلاوس، وقابليتها للفصام والعزلة، وميلها إلى العنف اللفظي والبدني ومن ثم الهزيمة والدمار. ولدينا في التاريخ القريب حالات واضحة لذلك، وهي الحال النازية والسوفياتية، كما قدمت لنا الصهيونية حالاً أخرى عندما نفت الآخر الفلسطيني، وأنتجت أكذوبة "وطن بلا شعب وشعب بلا وطن" التي سرعان ما انهارت أمام الانتفاضة الفلسطينية، والمتغيرات الاقليمية والدولية، وأثر ذلك في نمو قوى السلام الإسرائيلية، ونشاطها. ويصدق ذلك أيضاً على الجانب العربي وفي صورة عكسية إذ أن الاعتراف بوقائع العداء للسامية والهولوكوست وإدانتها لا يعني تجاهل الظلم والعنصرية الصهيونية ضد الفلسطينيين وإدانتهما والكفاح ضدهما. وثمة مُعامل لهم يوضحه لنا الموقف من الرأي الآخر، إذ ثمة تناسب عكسي، تعبير الرأي الآخر عن نفسه وثنائية الاستبداد والهزائم. ويمكن أن نجد هذا المُعامل نفسه في كل قضايا الحداثة والحريات. تشكل الرأي الآخر الذي ينادي بالحل السياسي، وبالحوار في التوقيت نفسه الذي تشكل فيه الرأي المنادي بالحسم العسكري في ما بين الحرب العالمية الثانية وحتى الهزيمة العسكرية الأولى للعرب عام 1948 مروراً بالهزيمة الديبلوماسية والسياسية في ساحة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد تمثلت في صدور قرار التقسيم الرقم 181 في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947، وكان أنصار السلام والحوار يطالبون بقبول قرار التقسيم، بل نادى بعضهم بإنهاء الصراع، من أجل التعاون في تطوير الشرق الأوسط، وتصاعدت تلك الأصوات بعد تتالي الهزائم. وكانت التيارات الرئيسية التي نادت بتلك المطالب تنقسم إلى ثلاث قوى رئيسية. أولاًَ: الرأسمالية المصرية وعبر عنها اسماعيل صدقي باشا وكان رئيساً للحكومة أثناء انعقاد أول مؤتمر للجامعة العربية خاص بالقضية الفلسطينية في بلودان في سورية في حزيران يونيو 1946، وكان يشاطره الرأي كُثُر من الرأسماليين أبرزهم أحمد عبود باشا رجل الصناعة الأشهر، واتحاد الصناعات اتحاد رجال الصناعة، وبعد صدور قرار التقسيم طالب اسماعيل صدقي بقبول القرار والاعتماد على العمل السياسي، وكرر ذلك في الجلسة الحاسمة يوم 12 أيار مايو 1948 في اللجنة السرية في مجلس الشيوخ، ورفض دخول الحرب، وخرج غاضباً منها. ويوم دخول الحرب صباح السبت 15 آيار مايو 1948، صدرت جريدة "أخبار اليوم"، وهي تنشر مقابلة أجراها مصطفى أمين مع إسماعيل صدقي يحذر فيها من سوء العواقب. وعلى رغم أن محمد حسنين هيكل يبرر موقفه بأنه نابع من حاجته إلى دعم اليهود في مفاوضاته مع الإنكليز المفاوضات السرية - الجزء الأول ثم يعود في كتابه "جيوش وعروش" كي يذكر من دون مبرر "ظاهر" أن إسماعيل صدقي كانت له علاقة جنسية مع زوجة يوسف شيكوريل بك، رجل الأعمال المصري اليهودي الشهير. وإلى كتابات الرأي الواحد والأوحد التي أثارت التراب حول موقف إسماعيل صدقي، إلا أن تاريخ الرجل السياسي والاقتصادي فيه التفسير المنطقي والكافي. فهو من أسس "بنك التسليف الزراعي" في مواجهة "بنك الأراضي" اليهودي الذي كان يعمل في رهن الأراضي الزراعية، وهو من أسس اتحاد الصناعات وانشأ كورنيش الاسكندرية" وهو أحد ثلاثة أسسوا "بنك مصر"، وكانت علاقته بدوائر الرأسمالية اليهودية لا تخرج عن السياق المنطقي لرجل أخذ على عاتقه إحداث تطور رأسمالي في مصر، وكان قسم كبير من رؤوس الأموال التي شاركت في تأسيس بنك مصر أهم مؤسسات الاستقلال الاقتصادي، من تمويل عائلات رأسمالية مصرية يهودية مثل قطاوي باشا وشيكوريل وموصيري. وتوفي صدقي سنة 1950 ولم يترك ما يمكن أن يسمى ثروة بحال. إنه الرجل نفسه الذي بدأ حياته السياسية عضواً في التنظيم السري لثورة 1919 وليس معنى ذلك أن صفحته السياسة كانت بيضاء دائماً، فهو من عطل دستور 1923. ثانياً: قوى سياسية عدة تنتمي في أغلبها الى الطبقة الوسطى وكبار الملاك الزراعيين ومتوسطيهم، والى النخب السياسية والثقافية تركز بعضها في تيارات من يسار حزب الوفد والطليعة الوفدية وحزب الأحرار الدستوريين والحزب السعدي، وشخصيات عامة مثل الدكتور طه حسين وسيزا نبراوي والدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ آنذاك وصاحب الاتصالات بالإسرائيليين في القاهرةوجنيف عبر الياهو ساسوف وكان موظفاً رفيعاً في الخارجية الإسرائيلية مؤلف كتاب "خطوات على طريق السلام" وكانت آخر الاتصالات في نهاية ايلول سبتمبر 1948، أي خلال اشتعال الحرب. وكانت تلك القوى عماد التيار الذي حذر من الفاشية بعد الهزيمة، وطالب بالتركيز على الاستقلال ودعم المشروع الوطني الديموقراطي. ومنهم من دعا الى إنهاء حال الحرب لصناعة مستقبل أفضل للمنطقة مثل سلامة وموسى. وينتمي إلى هذه التيارات محمود فهمي النقراشي باشا وكان رئيساً للحكومة خلال الحرب، ومن الرافضين لدخولها. وأعلن ذلك في اللجنة السياسية لمجلس جامعة الدول العربية التي عقدت في عالية في لبنان في 7 تشرين الثاني نوفمبر 1947، وكان دافعه يتلخص في: "إن المفاوضات مع الإنكليز تعتمد على قدرة الجيش المصري على شغل الفراغ بعد الاستقلال الكامل، الذي ينشأ عن جلاء الإنكليز، وتلك الحجة سوف تنهار إذا حدث - لا سمح الله نص كلامه - أن واجه مشكلة في فلسطين كما أن أوضاع الجيش المصري لم تمكنه من تسليح نفسه"، على أن الأسباب التي دعته الى الموافقة على دخول الحرب بعد تلك الجلسة السرية في مجلس الشيوخ قبل الحرب ثلاثة أيام تظل محصورة بين ضغط الملك فاروق وخداع معلومات العسكريين". وحمل النقراشي لعنة الرأي الآخر حتى بعد اغتياله على يد الإرهاب الإخواني في 28 كانون الأول ديسمبر 1948 اذ ادعى "الاخوان" تغطيةً لاغتياله ممالأته لليهود بقبوله الهدنة الأولى، في حين كان الموقف العربي ميؤوساً منه من بداية الحرب إلى نهايتها. ثالثاً: تيارات الحركة الشيوعية ومنها الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني "حدتو" بقيادة هنري كورييل الارستقراطي اليهودي، ولا ينقص من ذلك أنه كان موقف الاتحاد السوفياتي نفسه، وكان لذلك التيار تأثير واسع بعد الهزيمة لكنه فقد هذا التأثير بعد عزل "حدتو" من الشيوعية العالمية بسبب تأييدها انقلاب تموز يوليو 1952، ففقدت بالتالي تأثيرها في القوى اليسارية في إسرائيل. بعد الهزيمة العسكرية الأولى وتوقيع اتفاقات الهدنة سنة 1949 أفرزت التيارات السابقة إطارين للعمل: الأول - حركة أنصار السلام المصرية: وهي جبهة وطنية شكلت "حدتو" لجنتها التحضيرية في كانون الثاني يناير 1951 كفرع لمجلس السلام العالمي الذي تأسس بناء على نداء استوكهولم الذي وجهه فردريك كوري. وكان السكرتير العام للحركة المحامي يوسف حلمي من الحزب الوطني، وكان في الوقت نفسه رئيس تحرير مجلتها "الكاتب" وكانت توزع 12 ألف نسخة ومن أعضاء اللجنة التحضيرية: كامل البنداري باشا الحزب الوطني، سيزا نبراوي، عزيز فهمي باشا والدكتور محمد مندور وابراهيم طلعت الطليعة الوفدية، حفني محمود باشا الأحرار الدستوريين، إحسان عبدالقدوس رئيس تحرير "روزاليوسف"، خالد محمد خالد المفكر الإسلامي، الشيخ جابر التميمي الإخوان المسلمين، كمال عبدالحليم حدتو، يوسف المدرك اتحاد العمال. وساعد على تأسيس هذه الحركة المناخ الذي صنعته حكومة الوفد عام 1950 بعدما نجحت في شكل ساحق في الانتخابات التي ادارتها حكومة غير وفدية، وحاولت استيعاب ما حدث من هزائم، ولجأت الى خفض حدة الصراع والانتظام في اجتماعات لجان الهدنة استعداداً لحل سياسي. وأعادت قضية "الاستقلال التام" الى الصدارة. عقد أول مؤتمر لحركات أنصار السلام في روما في ايلول سبتمبر 1951، والمؤتمر الثاني في فيينا في تشرين الثاني نوفمبر من السنة نفسها. وشاركت وفود من مصر وسورية ولبنان والعراق والجزائر والمغرب وتونس وإيران، إضافة إلى إسرائيل التي تشكلت فيها لجنة فرعية لمجلس السلام بعضوية اميل حبيبي وهارون كوهين ومناحم دورمان. وكان تحدد للمؤتمر الثالث تاريخ كانون الثاني يناير 1952 في القاهرة، وتمت دعوة اللجنة الإسرائيلية، إلا أن حريق القاهرة في 26 كانون الثاني يناير أي في الشهر نفسه، وإعلان الأحكام العرفية منع انعقاد المؤتمر، ومع صعود الفاشية قبض على يوسف حلمي وقادة حركة السلام، وأغلقت مجلة "الكاتب" وحظرت الحركة برمتها. وهنا لا بد من أن نركز - في اعتقادي - على أن الصراخ بالحرب ثم الهزيمة ثم الصراخ بالانتقام ثم حريق القاهرة ثم انقلاب تموز يوليو 1952 هي لحظة تاريخية واحدة، الوقائع داخلها مترابطة، صنعها استقطاب حاد بين الطبقة الوسطى وقواها السياسية التي يمثلها حزب الوفد وباقي تنويعات حزب الأمة القديم مثل الأحرار الدستوريين والسعديين وغالبية مؤسسات المجتمع المدني آنذاك، والقوى الفاشية التي يأتي على رأسها الملك فاروق ومجموعة علي ماهر و"الإخوان المسلمون"، والحزب الوطني، و"مصر الفتاة" الحزب الاشتراكي، والتنظيمات الفرعية المشتركة مثل "الحرس الحديدي" و"الضباط الأحرار". وهي القوى التي كانت أعلى صوتاً في اللجوء الى الحسم العسكري ثم الصراخ بالانتقام، ثم هي التي أحرقت القاهرة، وقسم رئيسي منها هو الذي دبر الانقلاب العسكري عام 1952، ويلاحظ ان التحقيق في حريق القاهرة لم يتم بعد الانقلاب، بل إن عبدالناصر أشاد به واعتبره المقدمة الحقيقية ل"ثورته" فلسفة الثورة. وهكذا وصلت الفاشية الى الحكم، ويلاحظ أن نقد جمهورية تموز يوليو العسكرية للملك فاروق يدور بكامله داخل النقد الأخلاقي من دون التطرق الى النقد السياسي. ويلاحظ أيضاً أن تلك القوى من دون استثناء راهنت على المعسكر النازي والفاشي خلال الحرب العالمية الثانية، في حين أن خصومها وعلى رأسهم حزب الوفد المعبرين عن الطبقة الوسطى كان رهانهم على الحلفاء بوضوح. وكل ذلك يؤكد أحد ملامح القوى الفاشية، طيلة التاريخ وهي لعبة الصراخ بالحرب، وبذلك تتقدم الصفوف ثم تقع الهزيمة فتنادي بالانتقام. وهكذا تسيطر الغريزة الجمعية على الشارع وهي الفرصة المناسبة للقفز الى السلطة، ولذلك أيضاً لم تقع حرب خلال القرن العشرين بين دولتين ديموقراطيتين على الاطلاق، على رغم أنه قرن الحروب بحق، ثم أن الديموقراطيات انتصرت على الدوام، وهذا يوضح جدلية العلاقة بين الديموقراطية والحرب، ويكشف التناسب العكسي بينهما، ويمكن تطبيق ذلك على تقدم النازية الى الصدارة في المانيا نتيجة الهزيمة في الحرب الأولى، ونتيجة اتفاقات السلام المهينة، والقياس مع الفارق. خرج يوسف حلمي من السجن عام 1954 وشرع في العمل من أجل السلام، لكن مياه النهر كانت تغيرت، وعلى رغم ذلك وجه رسالة من أجل السلام إلى مؤتمر باندونغ، وحضر مؤتمر هلسنكي من أجل السلام، وحيداً، بسبب عدم السماح للوفد بالسفر من القاهرة، وكان يعتقد أن قرار التقسيم هو أساس مهم للتسوية، وعودة للاجئين وإقامة دولة فلسطينية ديموقراطية، وحق إسرائيل في الوجود، وكان يرى أن إسرائيل ليست المعتدي الوحيد، وأن الدول العربية غزت إسرائيل 1948 في صورة غير عادلة، وفي 10 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1955 وجه نداء الى الرئيس عبدالناصر، ونداءً الى الشعب الإسرائيلي دعا فيهما إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط. لكن طبول الحرب كانت أعلى صوتا، وتوفي يوسف حلمي أوائل الستينات بعد مرض طويل، وكتب عنه صلاح جاهين قصيدة مطلعها: "الاستاذ يوسف حلمي.. أهلاً عمي". الثاني - مجموعة روما: تسببت تفجيرات "الإخوان المسلمين" و"مصر الفتاة" في الممتلكات اليهودية والأجنبية، ببدء الهجرة من مصر. وهاجر بالتالي كُثُر من قادة الحركة الشيوعية من اليهود وعلى رأسهم هنري كورييل، وأسسوا "مجموعة روما" في باريس التي قامت بالوساطة والحوار مع اليسار الإسرائيلي مثل "المابام" و"ماكي" و"احدوت هاعفودا". ويمكن اعتبار مجموعة روما أحد امتدادات "حدتو" أو أحد مناطقها حتى 1958. وبعد عدوان 1956، تشكلت اللجنة المصرية - الإسرائيلية للسلام، برعاية جماعة روما، لكن المناخ العام لم يسمح لها بتأثير يذكر، وكانت جمهورية تموز يوليو العسكرية تدعمت وتمرست بوسائل احتواء كل نشاط سياسي "مدني". وانحصر نشاط حركات السلام بعد ذلك في بعض الوساطات السرية بين عبدالناصر وبعض الشخصيات الإسرائيلية كانت دوافعها استقصاء الآراء أكثر من أي شيء آخر، وهكذا حلت مجموعة روما نفسها سنة 1958، وأسس كورييل بعد ذلك لجاناً للتضامن مع الشعب الجزائري خلال معركة الاستقلال في فرنسا وأوروبا وإسرائيل. يذكر أن كورييل تنازل عن منزله في ضاحية الزمالك في القاهرة ليكون مقراً لأول سفارة لحكومة الاستقلال الجزائرية. وقتل بإطلاق الرصاص عليه أمام باب منزله في باريس عام 1987 في ظروف غامضة، لكن السبب يكمن بالتأكيد في نشاطه السياسي. وهنا يجب أن نذكر أن تلاشي قوى السلام والديموقراطية واستلام القوى الفاشية المبادرة في أكثر من بلد عربي كان يوازيها في ترادف مذهل تلاشى قوى السلام في إسرائيل. إذ انتهى مشروع شاريت للسلام في 1955، وخرج الرجل من الساحة السياسية تماماً ومعه كل معسكره تقريباً وتقدمت قوى الحرب والتوسع تحت زعامة بن غوريون، وهي جدلية اقليمية أخرى صنعت التحالف الموضوعي غير المباشر بين معسكري الحرب على الجانبين، إذ منح كل منهما الشرعية للآخر. بعد كل ذلك أصبحت فكرة السلام والحوار محفوفة بالمخاطر، ولدينا ما حدث لفكري أباظة عندما كتب مقالا في مجلة "المصور" تحت عنوان "الحالة جيم" طالب فيه بتحييد الدول العربية وإنشاء رابطة أوسطية تشمل إسرائيل وفلسطين يلاحظ أنه سبق بيريز ب 32 سنة، فتسبب بما يشبه الموت المدني له، اذ منع من الكتابة اربعة شهور ومنع من دخول "دار الهلال" حيث مقر مجلة "المصور"، إلى أن كتب بعد ذلك اعتذاراً موجها الى عبدالناصر على صفحات جريدة "الأهرام" عنوانه "الصراع بين ضميري وقلمي"، وكان بمثابة العبرة لمن يعتبر. وعندما صدر الرأي الآخر ممن هم في موقع السلطة لم يختلف رد الفعل، ومن هؤلاء الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، الذي أعلن في تشرين الثاني نوفمبر 1964 أن قبول قرار التقسيم يمكن أن يحرج إسرائيل، ويصلح كبداية لتسوية سلمية للصراع. ثم ذهب الى مدينة أريحا يوم 3 آذار مارس 1965 وطالب بالتفاوض مع إسرائيل، لكن الهجوم الرسمي والدعائي عليه ونوعية الاتهامات التي مست الشرف الشخصي، والمسيرات "الجماهيرية" التي دبرت في أكثر من بلد عربي، واحراق السفارة التونسية في دمشق، وتحطيم السفارة في القاهرة، اثبتت كلها أن لا حصانة من أي نوع لمن يحمل الرأي الآخر. وكان ذلك إيذانا بمرحلة الاختفاء، أو البيات الشتوي للرأي الآخر، والإغلاق التام للاعين والآذان والأفواه، وسيادة مرحلة "الحيطان لها ودان"، التي هيأت الساحة لوقوع الكارثة الاستراتيجية والحضارية عام 1967. بعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، وإثر اتفاقات فصل القوات، ومؤتمر جنيف، تصاعدت من جديد أصوات أنصار السلام، وتسامح نظام الحكم معها وسمح لها بالتعبير في بعض وسائل الإعلام "القومية"، وكان من الواضح أن السادات اتجه الى الحل السلمي أو "المنفرد" كما سمي آنذاك، ومن الواضح أنه تسامح مع أصوات النقد الموجه الى المرحلة الناصرية، واستعمل كل ذلك في التمهيد لاتفاقات السلام، مع التجاهل لأصوات الدعوة الى الديموقراطية التي تبناها أنصار السلام وغيرهم من القوى الديموقراطية. وكان البعض يرى أن الحل السلمي هو مدخل الى الديموقراطية الكاملة، لكن السادات قطع أشواطاً أسرع وأبعد بكثير في اتجاه الحل السلمي عن الخطوات في اتجاه الحياة الديموقراطية، والتي انتهت الى نوع من التعددية غير الديموقراطية، التي مازالت تحكم الحياة السياسية في مصر الى الآن، وحتى إشعار آخر. وفي هذا السياق، كتب إحسان عبدالقدوس مجموعة قصص في سلسلة في جريدة "أخبار اليوم" الاسبوعية، أذكر أن إحداها تضمنت قيام أحد الضباط الأحرار بعمل تجاري مشترك مع مصرية مهاجرة الى أوروبا تبين بعد ذلك أنها يهودية، لكنه استمر في الشراكة معها. في المدة نفسها كتب عبدالله الطوخي وعبد الستار الطويلة في الاتجاه نفسه في مجلات مؤسسة "روزاليوسف". وكان صدور كتاب "بعد أن تسكت المدافع" لمحمد سيد أحمد، علامة بارزة على طريق الدعوة الى الحل السلمي، وتعرض للكثير من النقد بل والتجريح، وكانت له صلات قديمة بمجموعة روما في باريس. وفي مقابلة مع جريدة "القبس" الكويتية في 1975 تحدث نجيب محفوظ بصراحة عن حل سلمي تفاوضي. وكان الدكتور لويس عوض خلال المدة نفسها دائم الحديث عن ثقافة جديدة تؤسس للسلام والديموقراطية، وكتب مراراً في مجال الرؤية النقدية للحقبة الناصرية. وعلى المنوال نفسه كان توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي الذي زار إسرائيل سنة 1980، والقى هناك مجموعة من المحاضرات عن "دور الثقافة في صوغ السلام" وعندما عاد أبدى استغرابه لأن ما من أحد من شباب الصحافيين سأله عن إسرائيل أو عن رأيه. وكان من الواضح أن الصحوة الثانية للرأي الآخر حمل لواءها الفرسان القدامى أنفسهم، اذ كانت الحركة الطالبية واليسار الجديد، اضافة الى جماعات الإسلام السياسي العائدة بقوة وفي مناخ مناسب لها تماماًَ، تطالب جميعاً بالحرب، وبالرجوع عن طريق الحل السلمي. وكان ذلك دليلاً واضحاًَ ودامغاً الى الخصام ما بين أبناء الثقافة الحرة والشارع السياسي قبل انقلاب تموز يوليو 1952، الذين وضعوا الديموقراطية في أعلى سلم الأولويات، ووجدت في السلام المدخل الممكن إليها وإلى التنمية، من جهة وثقافة الرأي الواحد ذي النزعة المتطرفة الذي ساد بعد تأسيس جمهورية تموز يوليو العسكرية على انقاض الثقافة الحرة ومحو الشارع السياسي، من جهة أخرى عبر الرأي الآخر عن وجوده في كل العالم العربي تقريبا وقدم التضحيات بكل أشكالها، وبينها الاغتيال المدني والدموي، وتعمد طريقه بالدم عندما اغتيل سعيد حمامي في لندن سنة 1977، وعصام سرطاوي في لشبونة سنة 1983، وخلال عامي 1995 و1996 عبر عن وجوده في وقائع عدة على صفحات جريدتي "الحياة" و"الأهرام"، ومن ابرزها واقعة فصل ادونيس وهشام الدجاني والراحل الدكتور هاني الراهب من اتحاد الكتاب السوريين بسبب دعوتهم الى الحوار وتفنيدهم للأوهام والزيف في المفاهيم العربية عن الصراع، وتضامن معهم بالاستقالة من الاتحاد كل من الراحل سعد الله ونوس والروائي حنا مينة والدكتور كمال أبو ديب، وكثر من الكتاب والمفكرين في سورية. في اعتقادي أن هذه المجموعة يمكن المفاوض السوري الاعتماد عليها خلال التفاوض الصعب والمرهق مع إسرائيل من أجل الحوار مع قوى السلام الإسرائيلية، لصناعة أرصدة داخل الشعب الإسرائيلي للضغط على باراك لتسهيل الأمور أو لإجباره على التنازل في بعض مراحل التفاوض. ورافقت الواقعة سجالات حادة عامي 1995 و1996 بين المعسكرين، كشفت عن حجم مؤثر لأنصار السلام والحوار، ومنها: * السجال الذي دار بين المخرجة السينمائية الإسرائيلية سيمون بيتون من جماعة "الماتزين" اليسارية والكاتب حازم صاغية في شأن زيارة الكاتب المسرحي علي سالم ووفد من الكتاب والفنانين العرب لإسرائيل والطريف انها أبدت ملاحظات نقدية على الزيارة، وكان ذلك على صفحات جريدة "الحياة". * المساجلة بين نجيب محفوظ والشاعر الراحل نزار قباني في مجلة "روزاليوسف" على قصيدة "المهرولون" نهاية 1995. * مجموعة الحوارات التي أجراها عبدالقادر الجنابي فى "الحياة" خلال العامين نفسيهما مع كتاب وشعراء إسرائيليين منهم الشاعر ناتان زاخ والشاعر روني سوميخ، والروائي شمعون بلاص وهم من أصول عربية. * سلسلة ضخمة من المقالات والمساجلات دارت على آفاق السلام والحوار على صفحات "الحياة" و"الأهرام" برزت فيها اسماء: أدوارد سعيد، محمد الرميحي، هشام الدجاني، محمد سيد أحمد، حازم صاغية، لطفي الخولي، سعد الدين ابراهيم، عبدالمنعم سعيد، ربعي المدهون، صالح بشير، محمد السيد السعيد، اسامة الغزالي حرب. * في حلقة بارزة دارت مجموعة ضخمة من الحوارات على صفحة "الحوار القومي" في جريدة "الأهرام" التي كان يشرف عليها الراحل لطفي الخولي، على مقالات لكتاب إسرائيليين أولهم يوسي اميتابي المتخصص في تاريخ اليسار المصري ومدير المركز الاكاديمي في القاهرة حالياً، وقد كتب خلال النصف الأخير من 1995 وزئيف ماغور رئيس مركز جافي للدراسات الاستراتيجية في تشرين الثاني نوفمبر 1996، وشلومو بن عامي الاكاديمي وعضو الكنيست والقائد البارز في حزب العمل ووزير الداخلية الحالي وهو من اليهود، في كانون الأول ديسمبر 1996. وعلى رغم أن بعض تيارات السلام تلقت دعماً من بعض الجهات الرسمية في مصر خلال حكم نتانياهو لاستعمال الحوار في الضغط على رئيس وزراء إسرائيل السابق، لكنها بعد نجاح باراك سحبت دعمها، بل وجهت الدعم الى التيارات المضادة في عودة الى سياسة "سور برلين الجديد". وهكذا يمكن القول إن الرأي الآخر في الصراع العربي - الإسرائيلي وعلى رغم الظروف الصعبة المعادية تمكن من أن يعبر عن نفسه، واصبحت له قسمات. وأهم من ذلك أنه عبر عن طاقة غضب من نتائج إدارة الصراع بواسطة الرأي الواحد، وظله الرأي السائد، لكن يجدر القول إنه لم يبلور بعد رؤية نقدية متكاملة أو أطراً للعمل، ولم يرسخ علاقة موضوعية مع تراث أنصار السلام وأدبياتهم منذ البداية. وإذا عدنا إلى الساحة الإسرائيلية نكتشف أن التوازي والترادف مازالا يعملان في معسكر أنصار السلام والحوار هناك، ففي مرحلة التلاشي العربية تلاشت أيضاً تلك القوى ولم تقم سوى مبادرات فردية أحبطها معسكر الحرب على الجانبين مثل مبادرة مائير إميت، مدير الموساد في آذار مارس 1966، ومبادرة ناحوم غولدمان في آذار مارس 1970. وبالعودة الى مبادرة السادات 1977 نكتشف أن معسكر السلام الإسرائيلي نشط منذ ذلك التاريخ واغلب حركات السلام ولدت بعده فالتوازي والترادف هنا يعبران عن ارتباط ما في وجه التحالف الموضوعي غير المباشر بين قوى التوسع والعنصرية هناك، وقوى العداء للديموقراطية والحداثة هنا وهو ما يفرض تأسيس جبهة مستعرضة أخرى لأنصار السلام والحوار والتنمية الاقليمية لحصار معسكر الحرب بدد مقدرات المنطقة وعلى رأسها الحرية والحداثة للشعوب العربية. * كاتب مصري.