الحديث عن التيار الليبرالي في مصر "ذو شجون"، لأنه الاتجاه السياسي الذي لا يوجد له كيان مؤسسي ينطق باسمه ويطرح أفكاره، ويفتقد إلى برنامج متفق عليه يمكن الرجوع إليه في تحديد المواقف السياسية والمطالب البرنامجية له. كما أن كل الاجتهادات المتاحة الموصوفة بالليبرالية لا تزيد على كونها اجتهادات فردية لمثقفين يتحدث كل منهم عن آرائه الخاصة، في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر. ومن ثم، أصبح التيار الليبرالي محدود النفوذ وضعيف التأثير في أوساط الرأي العام، على رغم امتلاك مصر لتراث ليبرالي متميز منذ قرنين من الزمان. بدأت ركائز التيار الليبرالي في مصر تترسخ منذ القرن التاسع عشر، مع تجربة محمد علي لبناء دولة حديثة في مجال الزراعة والصناعة وفي مجال تحديث القوات المسلحة، وتأسيس الجهاز البيروقراطي المتطور، وشهدت، وهو الأهم، إدخال أنماط علمانية للتعليم، أدت إلى حركة إحياء ثقافية وتكوين نخبة سياسية مصرية هذا إضافة إلى البعثات الدراسية للخارج والتي أدت إلى احتكاك بالثقافة والفكر الغربيين، وولدت في ما بعد تيارات فكرية وسياسية متنوعة، وارتبط بذلك افتتاح مدرسة الترجمة الألسن لنقل أمهات الكتب الأجنبية إلى اللغة العربية. فتح هذا التحول الباب أمام نمو اتجاهات فكرية حديثة لوضع أسس المدرسة الليبرالية المصرية، وساهم في ذلك ضعف النفوذ الاقتصادي والسياسي لرجال الدين في هذه المرحلة، فأفسح المجال لبروز المحاولات المهمة للإصلاح الديني والتي قادها حسن العطار ورفاعة الطهطاوي. فمدت جسوراً بين الفكر الديني التقليدي ومنهج التفكير العقلاني الحديث. وامتد المناخ الجديد، لتشهد مصر بداية المؤسسات الحديثة، فتكون أول مجلس نيابي عام 1866 وتشكلت أول نظارة وزارة عام 1878. ولعب التيار الليبرالي من خلال رموزه الوطنية المعبرة عنه كمحمد حسين هيكل وأحمد لطفي السيد وعلي عبدالرازق ومحمد عبده وقاسم أمين، الدور الأول المحوري في تحديث المجتمع المصري وإخراجه من حال التدهور والانحلال التي عرفها في عصور الخلافة العثمانية. كذلك بدأ الحضور القوي للتيار الليبرالي من خلال ثورة 1919 ودستور 1923 وفاعلية البرلمان وازدهار الصحافة وتطور التعليم. كما شهدت هذه الفترة ميلاد الجامعة المصرية وترسيخ الوحدة الوطنية وصعود الحركة النسائية وتأسيس النقابات المهنية والعمالية. هذا المناخ الليبرالي أفرز أيضاً سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد في السياسة وطلعت حرب في الاقتصاد ومحمد التابعي وفكري أباظة في الصحافة والسنهوري وعبدالحميد بدوي في القانون وعباس العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم في الأدب وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم في الشعر وسيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب في الغناء ومحمود مختار في النحت ومحمود سعيد في الرسم ومصطفى مشرفة في العلوم. كل هؤلاء الرواد الكبار استطاعوا أن يخرجوا بعالمهم إلى خارج حدود مصر وينشروا تلك المعرفة في كل اتجاه، وانتشرت الصحيفة والكتاب والمجلة والاسطوانة والفيلم والمسرحية. لكن التيار الليبرالي في مصر تعرض ل "انتكاسة" لا يمكن إرجاعها إلى قصور داخلي في الفكر وإنما الأصح هو إرجاعها إلى عوامل سياسية واجتماعية شهدها المجتمع المصري في هذه الحقبة من تطوره ومنها غياب الاستقلال الوطني إضافة إلى ظهور التيارات السلفية وفي مقدمها حركة "الإخوان المسلمين" التي ولدت وهي تحمل "خصومة تاريخية" مع جوهر هذا الفكر في ما يتعلق بقيم الحرية، ناهيك عن اعتبارها - أي الليبرالية - موازية "للتغريب"، فهدمت هذه الحركة الجسر الذي أقامه التيار الإصلاحي بين الإسلام والتحديث وربما زاد من قوة تأثير هذه الحركة تجاوزها مجال الفكر إلى العمل السياسي المباشر وسعيها لجذب الفئات والقوى الاجتماعية نفسها التي اجتذبتها القوى الليبرالية والمقصود بها - تحديداً - الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة. كما تعرض تطور التيار الليبرالي في الفكر السياسي المصري لانقطاع حاد بسبب التطورات التي لحقت بالنظام السياسي والمجتمع منذ عام 1952. وساعد على انحسار التيار الليبرالي في مصر خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم الدور الذي قامت به الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي آنذاك في مناصرة حركات التحرر الوطنى في مختلف دول العالم الثالث، مما خلق تياراً فكرياً يسارياً قوياً خصوصاً بين الشباب معجباً بالاتحاد السوفياتي وتجربته في الاقتصاد والسياسة، وهكذا واجه التيار الليبرالي - في دعوته إلى الحكم الديموقراطي الدستوري واحترام حقوق الإنسان من ناحية والأخذ باقتصاد السوق من ناحية أخرى - أسوأ أيامه حينذاك وتدنت شعبيته وجاذبيته خصوصاً بين الشباب إلى أدنى المستويات، فنحن إزاء نظام حكم جديد وفتى واعد بالآمال للخلاص من عهد بائد فشلت فيه الأحزاب السياسية في إقامة ديموقراطية سليمة، ولم تتحقق فيه تنمية اقتصادية ملموسة، وتركزت الملكيات الزراعية في عدد محدود من العائلات، وكان أن جثم الاستعمار على البلاد بتواطؤ صريح أو ضمني من الطبقة السياسية والاجتماعية الحاكمة. وكانت إسرائيل قامت في هذه الفترة وأصبحت مواجهة التوسع الإسرائيلي في الخارج وحل المشكلة الاجتماعية في الداخل هي الشغل الشاغل وتراجعت قضايا الحرية السياسية والديموقراطية إلى ذيل الأولويات وأدنى الاهتمامات ان لم ينظر إليها باعتبارها ملهاة تصرف الشعوب عن مصالحها الحقيقية في التحرر الوطني والانجاز الاقتصادي من خلال شعار "الخبز قبل الحرية". وأصبحت قوة الوطن وليست حرية الوطن هي المعيار. وعلى عكس التيار الليبرالي الذي يرى أن قوة الوطن من قوة المواطن وأن حرية المواطن هي الطريق إلى قوة الوطن، فقد غلب التيار الذي يرى في الحرية السياسية شكلاً بلا مضمون وأن حقيقة الحرية هي في بناء اقتصاد الدولة. وبدأ التيار الليبرالي يعاود الظهور على الساحة السياسية منذ بدء حملة النقد التي وجهت للخبرة الناصرية في أعقاب حرب 1973. غير أن هذه الحملة لم تقدم إنتاجاً فكرياً يعتد به إلا في شكل نادر، حيث غلب عليها طابع النقد السياسي وتصفية الحساب مع النظام الناصري وسياساته في مجالات إدارة الاقتصاد الوطني والحريات السياسية وإدارة العلاقات الدولية والإقليمية. فالغرض الرئيس لهذه الحملة تركز في توفير الشرعية للتوجهات الجديدة للنظام الساداتي، والتي لا يمكن وصفها بالليبرالية بأي حال، وهو ما ترتب عليه قدر عالٍ من التشكك ونقص التقدير تجاه الليبرالية في أوساط الرأي العام المصري. علاوة على ذلك، وضع المصريون الفكر الليبرالي في قفص الاتهام لأن الظروف التي نشأت فيها الليبرالية في الغرب ارتبطت بالاتجاه الى التوسع والسيطرة على الاسواق وبالتالي تصبح شكلاً جديداً للاستعمار في عصر العولمة. كما ان الليبرالية ارتبطت في الذهن المصري بالانحلال الأخلاقي لأنها تدعو الى الحرية والتعددية. لكن ما يجرى تطبيقه في مصر اليوم من سياسات لا يحمل من الليبرالية سوى القليل من السمات، فالسياسات ذات الملامح الليبرالية الجاري تطبيقها في مصر مع بداية عقد التسعينات تقصر السياسات الليبرالية على المجال الاقتصادي وحده دون غيره من المجالات، الأمر الذي يسيء الى ليبرالية بما يؤدى إليه من تقديمه لها باعتبارها نظاماً اقتصادياً يسعى إلى تحقيق مصالح الطبقات المتميزة، وليس كفلسفة تسعى إلى تحقيق نهضة شاملة في المجتمع. أكثر من هذا فإن الإصلاح الاقتصادى الليبرالي يجرى في إطار اتفاقات تعقدها الدولة مع مؤسسات التمويل الدولية والدول المانحة، إذ تبدو السياسات الليبرالية وكأنها أسلوب للإدارة الاقتصادية مفروضة من الخارج، الأمر الذي يكسب الليبرالية سمعة سيئة، خصوصاً في ظل مشاعر التخوف من الغرب والشك فيه السائدة في أوساط الرأي العام. وعلى رغم الاعتقاد الشائع بأن حزب الوفد يمثل التيار الليبرالي المصري فإن كاتبة هذه السطور تخالف هذا الاعتقاد، لأسباب عدة. فمن ناحية أولى، نجد أن الصلات والروابط بين حزب الوفد وتراث الليبرالية المصرية لا تزيد عن كونها امتداداً بالاسم وببعض القيادات التاريخية التي باتت في ذمة الله الآن لأهم الأحزاب المصرية في الحقبة الليبرالية، وهي الحقبة التي يمثل فيها الوفد قمة الهرم الليبرالي في مصر، وليس كل الهرم، وكان هناك تيارات أخرى مثل "الأحرار الدستوريين" و"السعديين" و"الكتلة الوفدية" ينتمون الى هذا التيار ولكن ليس داخل "الوفد". ومن ناحية ثانية، فإن معظم الكتاب والصحافيين والمفكرين المعبرين عن التيار الليبرالي في مصر ليسوا من أعضاء حزب الوفد. كما أن جريدة الحزب، التي تعتبر أهم مظاهر وجوده في الساحة السياسية والفكرية، بعيدة من صوغ موقف ليبرالي متماسك ومنسجم. على العكس فإن لغة الخطاب الواردة في جريدة الحزب هي خليط من الخطابات التي ترددها التيارات الأخرى إسلامية وقومية ويسارية، بل إن أهم كتاب المقالات في جريدة الوفد هم من الرموز الفكرية لتيارات سياسية غير التيار الليبرالي. ومن ناحية ثالثة، إذا كان من الصحيح أن حزب "الوفد" يمثل أحد الاتجاهات الليبرالية تاريخياً إلا أن حال الحزب تكشف عن بعض مظاهر النقد الذاتي. فقد أثبتت التجربة الحدود التي تتوقف عندها قدرة "الوفد" على النمو والتطور واستقطاب أجيال جديدة. كما أنشغل الحزب بمعارك قديمة أكثر مما فجر قضايا جديدة. ولكن الأهم من ذلك أنه ضحى بسهولة في أكثر من موقف، بخاصة بتحالفه في وقت ما والآن أيضاً مع "الأخوان" بجوهر هويته الليبرالية وغلبت النزعة المحافظة على عدد من رموزه. وربما كانت المحاولة الأكثر أهمية لبلورة تيار ليبرالي مصري هي تلك التي قامت بها مجموعة من المثقفين بقيادة المرحوم الدكتور سعيد النجار لتأسيس جمعية "النداء الجديد"، غير أن الأخيرة لم تزد عن كونها منتدى Forum يرتاده عدد قليل من المثقفين والمهتمين بالشأن المصري العام، والذي يصدر بعض المطبوعات المحدودة الانتشار، لتعبر عن أفكار أصحابها أكثر مما تعبر عن رأي جماعي ينطق باسم جماعة أو تيار، وهي المطبوعات التي توقفت عن الصدور بعد أن ضعف الزخم الذي صاحب تأسيس الجمعية في مطلع التسعينات. لكن أهم ما يميز التيار الليبرالي في مصر هو تركيزه على أن مشكلة مصر تنبع من داخلها. فعلى عكس التيارات السياسية الأخرى التي تركز على البعد الخارجي للمشكلات التي تواجه مصر، فإن الليبراليين يرون أن مصدر هذه المشكلات داخلي، كنتيجة لإخفاقها المستمر في بناء نظم ومؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية حديثة. ويتشابه الليبراليون المعاصرون في هذا المجال مع نظرائهم القدامى، الذين رأوا في الاستعمار البريطاني لمصر نتيجة لضعف مصر وتخلفها في مجالات التعليم والاقتصاد والاجتماع والصحة، معارضين بذلك ما ذهب إليه الاتجاه الراديكالي الوطني الإسلامي، الذي مثله الزعيم مصطفى كامل، من أن الاستعمار هو سبب المشكلات وأصل البلاء لمصر. على جانب آخر، فإن الليبراليين المصريين ليسوا دعاة انعزال عن النظام الدولي، بل يطالبون بضرورة إدماج مصر في الاقتصاد العالمي، وذلك كأحد الشروط التي تسهل لها مواجهة مشكلاتها الداخلية من خلال رفع كفاية أداء الاقتصاد الوطني. أما على الجانب السياسي، فإن الليبراليين المصريين يدعون لتبني سياسة خارجية "تعاونية" تسعى لتوفير الشروط الملائمة للتنمية الاقتصادية في الداخل، من خلال التركيز على حل الصراعات الإقليمية "المزمنة" في المنطقة وتجنب الدخول في مواجهات خارجية مكلفة وتوسيع دوائر حركة مصر الخارجية. كما يطالبون بالإصلاح السياسي من خلال إصلاح النظام الانتخابي، وضمان الحريات السياسية، والتداول السلمي للسلطة. وعلى رغم أن هذه المطالب تمثل "قواسم" مشتركة مع تيارات سياسية وفكرية أخرى على الساحة المصرية، إلا أن الليبراليين المصريين يضيفون نقطتين مهمتين هما التشديد على الحرية الفردية وإصلاح نظام القيم السياسية السائدة في أوساط النخبة والشعب لأنه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، أن يعمل نظام سياسي مستمد من الفكر الليبرالي في غياب قيم أساسية مثل العقلانية والفردية والمواطنة وحرية الفكر والحوار والتنافس السلمي والتسامح وقبول الآخر. ويظل حضور التيار الليبرالي في الحياة السياسية المصرية ضعيفاً على رغم محورية الدور الذي من المفترض أن يلعبه في أي تجربة تعددية، بسبب الهجوم الذي تعرض له سواء من جانب الحركات السلفية بتهمة التكفير، أو بعض التيارات القومية بتهمة التخوين، وهي نظرة لا نجد لها سنداً موضوعياً أو علمياً، خصوصاً في ظل رفع هذه القوى نفسها للشعارات "الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني" التي لم تنشأ وتتطور فكراً وممارسة إلا في الغرب. ولذلك ستظل التجربة المصرية الحالية في حاجة إلى تدعيم الاتجاهات الليبرالية فيها، إذ يتبلور فكر تترابط فيه مفاهيم كل من الحرية السياسية والحرية الاقتصادية مع المفاهيم الجوهرية للحريات الفردية. وازعم أن حزب "الغد" تحت التأسيس هو "قاطرة" التيار الليبرالي في المرحلة المقبلة من التطور الفكري والسياسي المصري، فهو الوريث الشرعي له، لأنه حزب ليبرالي اجتماعي يعبر عن أفكار نظرية "الطريق الثالث" The Third Way فهو يسعى إلى الإصلاح السياسي ويشجع التحرر الاقتصادي ويؤمن بالتكافل الاجتماعي ويدعو للانفتاح الثقافي ويحبذ التوطين التكنولوجي، فضلاً عن رموزه الأعضاء التي تمثل جيلاً جديداً من المثقفين والمهنيين والسياسيين والفنانين والنواب وأساتذة الجامعات، ممثلة ل100 في المئة من محافظات مصر، وأكثر من 74 في المئة من مراكزها ومدنها. وهذا التيار في مصر، يمثله بلير في بريطانيا وجوسبان في فرنسا وشردور في المانيا. وعلى رغم أن ما يطرحه التيار الليبرالي، هو "سباحة ضد التيار" العام، إلا أنها "صحوة مطلوبة". * كاتبة مصرية. عضو في البرلمان سابقاً. أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية - القاهرة.