من يتابع روايات رشيد الضعيف، يلاحظ غالباً نزوعاً جاداً، حثيثاً ومستديماً لاستدراج اللغة الى التعري من لبوس هو في ظنه ما يثقلها ويعيق خفتها ورشاقتها ويحدّ من حركتها. على ان هذا اللبوس الموروث، الذي يرى فيها الضعيف جموداً وقصوراً يكفانها عن الظهور بما يليق بلغة حيّة تنشد البقاء والاستمرار، اذ يُسقطه عنها لتتحرر وتستعيد حيويتها، هو ما يوقعها أحياناً في فخ التبسيط المفرط حدّ الابتذال بما يداني المشافهة، لا سيما في نصوصه الروائية الأخيرة تصطفل ميريل ستريب، وإنسي السيارة. ولئن كانت طبيعة الموضوع الذي تطرحه روايته الجديدة"معبد ينجح في بغداد"، هي ما قد يسوغ به رشيد استخدامه للغة الراسخة الوعرة عينها ? استعان على افهام بعض معانيها ومفرداتها بالمعاجم معجم البلدان وسواه.... بذريعة مناسبة الخبر للغة اخباره، فلنا ما يسوّغ سؤالنا له عما حمله على استنباش التراث ومقاربة تاريخ حافل بأمجاد اللغة الموروثة، هذه التي يلح على عتقها من أسر ماضيها. فهل في الرواية التي لا تُعنى كثيراً بالأسئلة، ما يفتح كوّة ننفذ منها الى ما تقتنع به الرواية ويقنعنا؟ في مستهلها، تنهض الرواية على الشعر وتجعله باباً لكل الأغراض وعتبة لأصوات الغناء. وانطلاقاً من سيرة الأب رباح تؤرشف لحكاية الابن معبد. ورباح مولى عبد، أتاه شيطان الشعر وهو في سن الشباب، ووشوش له بالقصيد العظيم ارتجاه سبيلاً يعتقه ويعلي مقامه."كيف لا والشعر أمر عظيم، فيه يستسقى، ويعلو الشرف، وتفك الرقاب، ويرد الأعداء". يحلم رباح بمجد في بغداد لكنه لا يصلها فيقصر أحلامه على مصر ويكتفي بما حققته له أعطيات أمرائها، مكنته من مبتغاه ويسرت له الزواج من جارية بيضاء أولدت له صبياً أبيض البشرة سماه معبد. وتشاء الرواية ان تسحر شياطين الغناء الصبي اليافع، تجيئه في النوم فيحكي أصواتها لمّا يفيق"ولا يصدّق ما يجري له"، ثم حين يزداد إلحاح الأصوات يعالن أباه بسرها فيستعظم الأمر وينكره عليه ويعزم على تزويجه عله ينصرف الى ما هو أكفل للعيش من التبذل في المغنى. الى ان تقيض له الصدفة لقاءً بالمغنية خليدة المكية"تعده بإيصاله الى أبعد مما يمكن أن يتصور". فيعلمها أصواتاً تغني منها لحناً يذهب بعقل سيدها الجديد خزيمة بن خازم، أحد كبار المتنفذين في بلاط الخلافة. يتقن رشيد حبك الخيوط السردية بتلميحات استباقية تؤسس لنهوض الحدث وترهص بتناميه، فتموت خليدة لتبدأ رحلة معبد الى بغداد بعدما بلغته رغبة خزيمة في لقائه. وفي مدينة الحلم يتوالى السرد ممهداً للقاء عابر يتم بين معبد والجارية شارية المتخفية بثياب الغلمان، تهبه بكارتها قبل ان تغيب وتنقطع أخبارها، ثم للقائه بأبي زكاء المغني المتعصّب للمأمون، وصولاً الى دخوله قصر الخلافة وغنائه في حضرة الخليفة الأمين. بين هذا وذاك يستحضر السرد ما يضيء سيرة الرشيد وزبيدة والعباسة ونكبة البرامكة وأخبار مشاهير المغنين والجواري. ويعرّج أحياناً على أخبار بعض القبائل العربية القديمة وصراعاتها، في تسجيلية مستقاة من بطون الكتب التراثية، يستثمرها الضعيف ببراعة فيعيد تشكيلها بما يخدم منطق الرواية وهي تتكئ، في ما تسرده عن زمن معبد، على خلفية الصراع الخفي ثم المعلن حول الخلافة بين الشقيقين العدوين: الأمين والمأمون. تتفاقم الأحداث ويشتد حصار المأمون على بغداد وينتهي بهرب الأمين ثم مقتله، ما يفجع معبد ويوقعه في الخوف من الملاحقة والقصاص فيهرب الى البصرة بوحي من عناية لا يعرف مصدرها تدفعه للياذ بحمى امرأة يجهل هويتها تستضيفه عاماً كاملاً قبل ان تُسهل له لقاء جزيمة الذي يكرمه ويخبره بوفاة خليدة ووفائها له. ثم حين يصارح معبد المرأة برغبته في الرحيل الى بغدد تكشف له عن سرها. فهي أم شارية الجارية المتخفية بثياب غلام، حبلت منه يوم واقعها وأنجبت له صبياً يحمل اسمه. هكذا ينزاح السرد ليضيء حكاية الأم وابنتها في شهرزادية لافتة مبثوثة في أكثر من مكان، هذا قبل ان يتحول سياقه الى ما يبشر معبداً بدخول جنة المأمون الذي استتب له عرش الخلافة في بغداد. لكن الأقدار تعاكسه فلا يغني معبد في البلاط، اذ تموت مناصرته علية بنت المهدي، عمّة المأمون، ولا تسعفه مؤازرة صديقه أبي زكار، بل تُثار قضيته مع الجارية شارية ليلام بأمر من الخليفة ويعذب في حفرة كالقبر فتضيق الدنيا في وجهه. ثم يطلق سراحه فيقصد خزيمة الذي يطمئنه ويمهله الى ان تسنح له الفرصة ويسمح المأمون باستقباله فيغني معبد في حضرته كما لم يفعل من قبل ويحمل الخليفة المسحور طرباً على الرقص برجل واحد. على هذا النحو ينجح معبد في بغداد، ينال فيها أخيراً مباركة الخليفة واعجابه، فترد له شارية وابنها، ويحظى بما ابتغاه من مجد ومال وشهرة ويسعى للمزيد... بين الفن والتارخ في ما أقرأنا اياه التاريخ، قبل ان يصير علماً مستقلاً بذاته ثم ما بعد ذلك، عن شخصيات ملفقة أو حقيقية قد يكون لمعبد بن رباح، في بعض الوجوه، شبيه أو قرين، وقد لا يكون له نظير الا في رواية الضعيف، من دون ان يعني ذلك ان الكتابة الروائية اما وهم خالص، واما واقع صرف. فالذاكرة الروائية مزيج يولّف بين الاثنين لينتج ذاكرة خاصة أو تاريخاً خاصاً يقول فيه فيصل دراج"انه ذاكرة المقموعين"فيما يجعل منه نبيل سليمان"تاريخاً حديثاً للبشر يعتني بدقائق حياة المهمشين ودخائلهم"، يعدهم، في ما ينتجه ويراكمه ويحيد فيه عن الثبات والجمود، باحتمالات واقع متغير، متطور ومتجدد. في هذا الباب ينتمي معبد بن رباح هذا، الى عالم روائي يسرد ابداع المهمشين، مرموزاً اليه بوحي شياطينهم، لا ينصفون ولا يتكرس نجاحهم الا بمباركة السلطان، في زمن يبعد كثيراً لكنه لا يختلف عن الحاضر في شرطي المراعاة أو الانكار. ومن هذا الباب أيضاً يحذر رشيد الضعيف القارئ، قبل الشروع في قراءة الرواية، من الوقوع في فخ الالتباس بين شخصية بطله المتخيل"معبد بن رباح الذي تسوق الرواية أخباره"والشخصية الحقيقية"لمعبد بن وهب، نابغة الغناء العربي في عصر الدولة الأموية"وينبه الى"ان كل شبه بين الاثنين هو من قبيل الصدفة البحت". وعلى هذا تحديداً، يقيم رشيد الفارق بين التاريخ الموضوعي والتعامل التخييلي مع هذا التاريخ، يعاد في فن الرواية بناؤه وتشكيله داخل النص استناداً الى القوانين أو المعايبر الفنية للكتابة الروائية التي تتكفل بانتاج خطابها الخاص، وهو ينأى عن تبعيته للخطاب التاريخي، ينزاح عنه وينعتق من رقابته. فالرواية التي تتوكأ على التاريخ فتقارب مادته أو أحداثه أو علاقاته الاجتماعية، انما تمس منه على ما يُفترض جانباً جزئياً فقط تستثمره لتوفر لشخصياتها وضعاً وجودياً كاشفاً يمكّن هذه الشخصيات من استيفاء شرط كينونة محتملة وممكنة التحقق في الخيال كما في الواقع، والا لتحولت الرواية الى تاريخ منسوخ وفقدت ما يسوغ كتابتها. ولا نجادل في ان رشيد لم ينهل من منابع"الأغاني"للأصفهاني، أو من معين"المروج"للمسعودي بغية المعرفة التاريخية وتقصي حقائقها لتعيين رؤية موضوعية قد لا تتحقق حتى لمتخصص في علم التاريخ، فما بالك بالروائي! كما لم يتوخ بالتأكيد ترميز الحاضر في عملية اسقاط تخضع هذا الحاضر للنقد وللنقض بغية تسفيهه أو تغييره. وان كان قد فعل، فذلك لم يكن على الأرجح، دافعه الأول الى كتابة الرواية، ولا شكل له هاجساً واعياً ومقصوداً بذاته. هذا علماً أن الكثير من كتّاب الرواية تورطوا في مثل هذا الهاجس، من دون ان يبلغوا من خوضهم فيه"مطمحاً جليلاً سوى مساس جزئي بالمشكلات المطروحة"، بحسب ما يقول عبدالرحمن منيف. الى ذلك لم يكن ارتحال رشيد الى رحاب العصر العباسي في زمن الأمين والمأمون، واستلهام عوالم الشعر والغناء والاجتماع آنذاك، بدافع التوثيق لهذه العوالم في نسيج روائي يسائل الحقائق المثبتة حولها في كتب التراث، بل على النقيض من ذلك، فالروائي العليم، المحيط بكل شيء في الرواية، يخرج أحياناً بملاحظات هامشية يتجاوز فيها زمن النص الداخلي الى ما بعده بمئات السنين. كأن يشير مثلاً الى ما تذكره معبد عن قول يشبه الى حدّ بعيد عبارة كتبت بعد ذلك التاريخ بألف سنة"تجد دائماً بين الأشياء حبّة حنطة"، أو أن ينسب باعتباره حكماً ومرجعية بناء بيت المتنبي الذي قاله في هجاء كافور، الى شطر بيت شعر قديم لشاعر مجهول، واذ يسرد أحداثاً واقعية بعينها، ويورد أبياتاً شعرية ثابتة لشعراء مخلّدين، من دون أن يؤكد أو ينقض هذه أو تلك ببرهان أو دليل، انما يفعل ليولّف، أولاً، بين التاريخي والتخييلي بمعنى تضمين المادة التاريخية المسجلة وترشيدها بهدف أداء وظيفة أدبية تشتغل على ايقاع زمن خاص بالرواية، على مساحته يؤدي المتخيل والمفترض والواقعي من جهة، والسجل التاريخي من جهة أخرى دوراً مشتركاً لتشكيل عوالم النص وفضاءاته. ثم ليعود ثانياً، فيعيث خراباً متعمداً في سجلات العوالم التي يسرد عنها، تتداخل فيها الأحداث والأزمنة حد التعارض والالتباس أحياناً بما يشبه العبث، تبعث اليه ربما، الرغبة في اعادة ترتيب الأشياء وفق مشيئة روائية تسلم قيادها لمخيّلة تتشهى اللهو الخالص، تستجلب عبره لذة السرد العابث المتفلت من رقابة المدونين. ولنا على ما يثبت هذا، ما تشير اليه الرواية، تمثيلاً لا حصراً، من مفارقة كاشفة بين رواية رباح الأب يحدق كيف شهد بعينه وفاة قيس بن الملوّح مع ما رافقها من ندب وبكاء وتفجع. ورواية معبد الابن الذي عاين بنفسه خلال رحلته الموعودة الى بغداد، حادثة وفاة الشاعر العامري المجنون مرفقة بالتفاصيل الحرفية نفسها، في زمن لاحق ومتأخر عن زمن الأب بنحو نصف قرن، تلك المفارقة لا ينقضها أو يسقط عنها حدثيتها ما علق به أحد رجال بني عامر اذ قال:"رجلان ما عرفا في الدنيا وما وجدا قط الا بالاسم، وهما مجنون بني عامر وابن القريه... فقد وضعهما الرواة واخترعوهما". بذا تتوازى ذاكرة الرواة في ميلها الى التلفيق مع ذاكرة الرواية، تلفق، ان جاز التعبير، ما شاءت من الأحداث والشخصيات لينشأ التباس مزدوج. ولئن أشار ما يخص منه شخصية المجنون الى ما أحيط بها من تشكيك وغموض، يبقى الآخر تمثيلاً على انسياق الرواية الى اللعب والعبث مرة بالأزمنة وأخرى بالسجلات الموثقة تاريخياً، فيعاصر مشاهير الشعراء الأموات والأحياء منهم ويعيش ابن المقفع والجاحظ وأبي نؤاس في زمن واحد. كذلك يردد الشعراء السابقون أبيات الشعراء المتأخرين في خلط تتداخل فيه العصور والشخصيات حتى لتضيع الفوارق بين الحقيقة والخيال. في ضوء هذا نرتاب في ان الحقيقة هي ما تهجس به رواية رشيد، بل هو شيء آخر يقرب ما وصفه جرجي زيدان ب"الفكاهة"وسماه جمال الغيطاني المتعة، وبين الحقيقة والمتعة على ما نظن حدّ، هو نظير ما بين التاريخ والفن. فهل هي المتعة الصرف ما حرّض حقاً على كتابة الرواية، أم ان رغبة في الكشف تخالطها لتسد نقصاً يقصّر فيه التاريخ اذ يغفل أحداثاً تتعلق بالإنسان في حياته اليومية البسيطة فيتولى الفن تعويض هذه الغفلة في ما يرويه عن حياة المهمّشين؟ سؤال نبقيه عالقاً لمن تهمه قراءة التاريخ بعين الكتابة الروائية وتأويلاتها.