يبدو ان الأديب غازي القصيبي ما زال يقتفي أثر جيمس جويس والد الرواية الحديثة في تقديم عالم روائي، وعلى المتلقي ان يقوم بسد الفراغات وتتبع خطوات السارد من غير ان يلوم الروائي لإهماله بناء معمار صارم ينهض على قاعدة المثلث الأرسطي أو يجاوره في أقل تقدير، أو يتجاوزه بتقنيات تقارب بين عوالمه المشتتة وتتداخل مخلفة تراكماً سردياً متنامياً ومتناغماً. صرح غازي القصيبي بهذا الافتتان الافتتان بجيمس جويس في رواية "العصفورية"، جاعلاً من المعلومة معماراً سردياً ينهض بفنيات السرد مع اهمال عناصر ذات بعد فني ملح وغير عابئ بما يمكن ان يقال عن جلال الرواية الكلاسيكية... أو الحديثة. وكذلك بالاقتفاء المتفلت في أحيان كثيرة من تناغم العالم الروائي كما يجب أن تكون عليه الرواية! والمعلومة عند القصيبي عنصر أساس في بناء عمله الروائي. ونظراً الى كثافة هذه المعلومة نجده يصرفها عبر شخصيات الأعمال التي يكتبها محاولاً قول شيء لا يستطيع قوله صراحة ولو كان ذلك من خلال أبطال رواياته وكأنه أشبه بمن في فمه ماء. وهو بالتالي يجعلنا نسأل: لو ان القصيبي كان بعيداً من منصبه، هل تستطيع المعلومة التي يحتفظ بها أن تتشكل على نار هادئة ليروي سرداً ينبت على ساق شجرة ويتفرع بأوراقه وأغصانه في الشكل الطبيعي أو المتجاوز في عملية سردية متقنة تمنح القارئ عالماً روائياً شاهداً على عصره من غير اللجوء الى الاسقاطات التاريخية؟ هذا القول، قول خارج النص، وما هو خارج النص لا يعتد به، كما ان الكتابة: خيار مستقل للكاتب إذ يختار طريقاً دون سواه وفق زاوية الالتقاط ووفق الرسم الهندسي السابق لعملية الكتابة... هل أسقطت سؤالي بهذه الإجابة التي انتدبت نفسي لها بغية قطع الطريق على تفرعاتها؟ ليكن! فهيام غازي القصيبي بالتشذرات والتفجيرات الداخلية للنص ليس جديداً، وقد ألفنا هذا العالم المفكك أو المتشظي وعليك أنت كقارئ، جمع هذه البقايا لخلق عالم روائي تقيمه أو تنسفه كما تشاء. فحين قدم لنا "العصفورية" بشظاياها المعلوماتية وخلق حالاً من عدم اليقين بصدقية المعلومة التي بثها من خلال شخصية الدكتور سمير ثابت، جعل العالم الروائي في ذهنية المتلقي عالماً هلامياً يتجاذب ويتنافر وفق خلفية القارئ الثقافية. والتشظي عند غازي القصيبي أمر ملحوظ ليس فقط في رواية "العصفورية" بل نجده في روايات أخرى مثل "أبو شلاخ البرمائي" و"سبعة"، ويلتئم بعض الشيء في "شقة الحرية". وها هو يعاود التشظي وباللعبة نفسها من خلال روايته "سلمى" التي صدرت حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر... يعاود لعبة الرواية التي لا تبدأ ولا تنتهي ولا يوجد فيها عقدة، ولا تصاعد درامياً، ولا أخيار ولا أشرار، ولا رواية ولا معلّق وقد تتناثر في السطر الواحد أحياناً عشرات الإيماءات والألغاز. ف"سلمى" رواية تخلط بين فن المقالة والتاريخ. ومن يدخل الى فضاءات "سلمى" باحثاً عن فن الرواية بمعمارها وتقنياتها وأبعاد الشخصيات والحيل السردية، لن يجد أمامه سوى مشاهد تاريخية مركبة على طريقة الكولاج، إذ يتم لصق شخصية واقعية سلمى افتراضاً على خلفيات تاريخية تعد مفاصل في التاريخ العربي، ويحاول القصيبي من خلال هذا التركيب إحداث تقاطعات حادة مع التاريخ، وفي أحيان كثيرة يسعى الى نسفه. رواية "سلمى" عبارة عن ثمانية مشاهد قام المؤلف عبرها بزرع بطلته سلمى في مفاصل تاريخية للكشف عن حالات السقوط في العالم العربي. واختار تاريخاً قريباً بعض الشيء ليدلل الى الانهيارات العربية الراهنة بينما واقع التاريخ العربي يشير الى ان التصدع أبعد من ذلك بكثير. هذه المشاهد الثمانية تتركز في: سلمى وجمال عبدالناصر، سلمى وسقوط الأندلس، سلمى وصلاح الدين، سلمى وسقوط بغداد. في زمن هولاكو طبعاً وليس الآن، سلمى وشوقي وعبدالوهاب، سلمى وشارون، والمشهد الأخير: موت العجوز سلمى. هذه المشاهد الثمانية هي انثيالات التاريخ والتداخل معه بتحريفه أو محاكمته. وإذ تختلف الأزمنة التي تركض فيها "سلمى"، فإن الزمن الروائي يتشكل من خلال الفترة الزمنية التي توجد فيها "سلمى"، يتشكل من خلال ذهنية القارئ الملم بذلك الزمان وإن لم يكن كذلك فسيدخل في دوامة الأزمان المتفلتة. السؤال المؤجج للافتراضات هو: لماذا اختار القصيبي هذه الفترات التاريخية؟ ومن هذا السؤال تتوالد أسئلة فرعية عدة: ما هي قيمة معرفة اسم زوجة أبي الطيب المتنبي في التاريخ؟ ما هي قيمة أحمد شوقي ومحمد عبدالوهاب وأبي نواس في المتغيرات السياسية التي تمكن الاشارة اليها كمفصل تاريخي؟ ماذا يعني وجود "سلمى" في حياة أبي الطيب أو شوقي أو عبدالوهاب؟ ومَن يتسامح مع رواية "سلمى" عبر الدخول الى المفاصل التاريخية وإعادة النظر أو اعادة تسجيل المشهد ببطء سيجد في مشهدي أبي الطيب وشوقي مشهدين عدميين أبدعهما المؤلف تبعاً لانتمائه الشعري ومعرفته الدقيقة بتفاصيل حياتهما. وبالتدقيق قليلاً يمكن زحزحة هذه القناعة. ويصعب عدم القول ان هذين المشهدين اختيرا لأنهما مفصلان هامشيان في تاريخنا العربي. فأبو الطيب المتنبي الباحث عن الولاية يرى فيه القصيبي الشخصية الفذة التي لو نادت بالإمارة لسقطت كراسي كل الحكام - في زمنه وفي زمن الرواية طبعاً - وهي اشارة الى انحراف الخلافة في البدء وتشذرها من خلال الدويلات الصغيرة التي كانت في حاجة الى شخصية طموحة كأبي الطيب المتنبي. وقد حمل أبو الطيب لواء الفحولة الشعرية وظل قوة ثقافية ذات زخم متجدد الى وقتنا الراهن. أما شوقي وعبدالوهاب فيمسيان شخصيتين استطاعتا قلب الذائقة العامة، خصوصاً أن شوقي جاء بعد زمن انحطاط الفنون الكلامية فحملها مرة أخرى الى الذروة، وكذلك فعل عبدالوهاب من ناحية أخرى والمقصود الموسيقى والغناء. وفي موازنة المشاهد، فإن هذين المشهدين يخلقان توازناً بين بقية المشاهد، توازناً ثقافياً مع الجانب السياسي الذي مثّله صلاح الدين وجمال عبدالناصر ومع سقوط الخلافتين في العراق والأندلس. ويصبح مشهد شارون هو المشهد الذي يجسد الذاكرة العربية، تلك الذاكرة التي تنهض في مشاريعها على جزئيات من الأحلام الوردية. وهو مشهد مجاني تأسس في الحلم، وحدث في الحلم أيضاً، ولم تكن المفاجأة مباغتة كما أراد لها القصيبي حينما أوهمنا بأن جثة "سلمى" التي ماتت في فراشها كان شرشفها مغطى بالدم من غير ان يكون هناك جرح. هذه النهاية التي أراد لها القصيبي أن تنهض بحلم الذاكرة العربية من تفجير "سلمى" نفسها في وجه شارون هي أمنية عاطفية دغدغ بها القصيبي الوجدان العربي البسيط أيضاً. ولعل مشهد النهاية أخل بنهج القصيبي الروائي حين استعار فكرة جيمس جويس، من كون الرواية لا تبدأ ولا تنتهي ولا يوجد فيها عقدة، ولا أخيار ولا أشرار، ولا راو ولا معلّق. واتبع القصيبي حيلاً سردية بسيطة لنقل الأحداث. فالمرأة العجوز ابنة الثمانين عاماً "سلمى" تطلب من ابنها سليم احضار جهاز راديو. ولا يعرف الابن سر ولع أمه بأجهزة الراديو، فيزودها شهرياً بجهاز مختلف الماركة، ولكل جهاز ميزة سواء أكان يابانياً أو روسياً أو هولندياً. والجمل التي ترد على لسان البطلة أو ابنها ناعتة هذه الأجهزة تنعت حالاً سياسية من خلال المنتجات التي تسمّيها، والحيلة نفسها التي اتبعها القصيبي في "العصفورية" المدخل والمخرج لخلق فضاءين سرديين اتبعها في "سلمى" إذ كان الفضاء الخارجي للنص هو الواقع المعاش في زمن السرد، وهو زمن هلامي غير محدد، تتحرك فيه أصابع "سلمى" على إبرة الراديو لينطلق الحدث في الزمن العربي. وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي اعتمدها الروائي في تحريك الأحداث، وظل الزمن الداخلي تاريخياً يدخل عليه الواقع كلحمة أساسية تحاول ان تكون من النسيج نفسه. إلا ان السير في التاريخ يعرقل خطوات الكاتب ويجعله أسيراً له. وعلى رغم المحاولات الذكية للقصيبي في أن تأتي شخصية "سلمى" زائرة للتاريخ ومغيّرة له أو شاهدة عليه، إلا أنها في النهاية ظلت حبيسة زمنها. أما شخصيات الفضاء الخارجي للنص فهي شخصيات سطحية ليس لها ملامح أو عمق نفسي أو طموحات. انها شخصيات جاءت لأداء مهمة تنتهي بإدخال "سلمى" الى الفضاء الداخلي للسرد، بينما مثلت الشخصيات الأساسية في فضائه الداخلي شخصيات تاريخية تكتسب حضورها من ذهنية المتلقي وليس بما رسمه الروائي. وختاماً بقي أن نسأل: هل "سلمى" رواية أم مداخلة مع التاريخ؟ وإذا كان التاريخ هو الحاضر الوحيد، فهل الرواية التي تُكتب هي رواية الآن؟ * روائي سعودي.