قد يحار القارئ في تجنيس نص"معبد ينجح في بغداد"دار رياض الريس : هل هو اعادة كتابة لمجموعة اخبار واردة في كتابي"الأغاني"لأبي الفرج الأصبهاني و"مروج الذهب"للمسعودي؟ ام انه تخييل روائي لوقائع وأخبار تنتمي الى فترة حرجة من تاريخ الدولة العباسية يّنجزه رشيد الضعيف متخيلاً ان الأصبهاني يكتب حكاية بتغنٍّ مستعملاً التركيب الفني الروائي لزماننا؟ مهما يكن، فالواضح ان رشيد الضعيف يستثمر علاقة مختلفة مع النصوص السردية التراثية لأنه لا يتوخى صوغاً للتاريخ بقدر ما يبحث عن فضاء تصوغه"الأخبار"بعيداً من المنطق العقلاني الصارم، يحقق من خلاله متعة القارئ ومتعته هي في الكتابة الطريفة الجذابة. لكن استيحاء"الخبر"والسرديات القديمة لا يعني استغناء الكاتب عن الجهد التخييلي والصوغ الروائي المحكم، بل ان بناءه لپ"معبد ينجح في بغداد"يؤشر على العلاقة المختلفة التي يقيمها الضعيف مع نصوص التراث، فهو يعمد الى اختلاق شخصية معبد بن رباح ليجعل منه بطلاً افتراضياً، محتملاً، يسبغ عليه ملامح وسلوكات مستمدة من سمات مشتركة ميّزت شخصية المغني في العصر العباسي، بخاصة كما اوردها صاحب"الأغاني"منسوبة الى وجوه بارزة في الغناء خلال تلك الفترة. وكون معبد بن رباح شخصية افتراضية يتيح مجالاً اوسع للتخييل والتوليف بين شخصيات عدة، والاتساع افقياً لملامسة احداث تخص الصراع بين الأمين والمأمون حول السلطة، وتعكس سلوكات ودسائس العائشين في كنف السلطان وحاشية الولاة. من ثم تصبح شخصية معبد الافتراضية هي الخيط الرابط بين مختلف الأخبار والنوادر والحكايات، وهي"الفاعل"الحامل للحبكة ومغامرات رحلته من الحجاز الى بغداد طلباً للشهرة وعطاءات الخليفة... وتبدأ الحكاية مع رباح، مولىً عبد، والد معبد الذي عتق نفسه بفضل شيطان الشعر الذي جعل الناس يعترفون بشعره، فأحرز على المال الكافي لِعَتْق نفسه وأسرته، ثم قرر ان يتزوج امرأة بيضاء تلد له اولاداً بيضاً مثلها، من بينهم معبد. أراد الابن ان يسير على خطى والده رباح، فلم يطاوعه شيطان الشعر، وواتته اصوات الجن حاملة إليه ألحاناً وأبياتاً شعرية تفتن سامعيها. ولكن الأب عارض اتجاه ابنه معبد الى الغناء لأنه صنعة العبيد السود! ولم يستطع معبد بن رباح مقاومة الأصوات التي كانت ترد على مسامعه وهو نائم، فكان يصحو ويرددها كما سمعها، من دون ان يبوح لأحد بسره. وكان ان تعرف الى نُليْدة المكية الشهيرة بحفظ"الأصوات"واستقبال الرجال في بيتها، وغنى لها بعض ما تلقاه من شياطين الغناء فوعدته بأن تُشهره... لكن خزيمة بن حازم البغدادي اشتراها ورحل بها، فعاشت معه شقية وماتت بعد ان جعلت خزيمة يُفتن بألحان معبد بن رباح. ولما بلغ هذا الأخير تعلُّق خزيمة بألحانه، عزم على الهرب الى بغداد ليلتحق به. في العاصمة العباسية اكتشف معبد مظاهر الترف وحفلات الطرب التي يقيمها"الفتيان"، وتعرّف، في الحمّام، الى رجل ثري استدعاه الى بيْته وأرسل إليه"غلاماً"يُحضره فاستلطفه معبد وغازله وعند المضاجعة تبين له انه جارية أُلبست لباس الغلمان فلم يتردد في إكمال ما بدأ، وأسفرت تلك المغامرة عن ولادة صبية سيسترجعها بعد سنوات... إلا ان التحارب بين الأمين والمأمون اشاع التوتر في بغداد وقلّص من فرص نجاح معبد لدى الخليفة، وأسعفه الحظ فغنى في حضرة الأمين الذي أغدق عليه وقرّبه... ثم قتل الأمين فرحل معبد الى البصرة وهناك التقى خزيمة بن حازم الذي كان معجباً بألحانه من طريق خليدة المكية، فأخذه معه الى بغداد بعد انتصار المأمون الذي امر بتعذيب معبد بن رباح. لكن خزيمة استطاع ان يتشفّع له عند المأمون ليقبل بمشاركة معبد في سهرة الغناء:"وحين بلغ الدور معبد اندفع يغني بكل جوارحه: اذا لم تستطع شيئاً فَدَعْهُ وجاوِزْه الى ما تستطيع أصبت بنصيحتك يا خزيمة! قال الخليفة. ثم أمر معبد بأن يُعيد هذا الصوت مرات عدة. وكان المأمون معروفاً بالرصانة والعقل، وعلى رغم ذلك قام ورقص على رجل واحدة، وصاح: يا آدم، لو تسمع ما أسمع من وَلَدِكَ الآن لسرّك! ص2". لا تقتصر الرواية على سرد محن معبد ومغامراته قبل ان ينجح في الغناء امام المأمون وينتزع منه رقصة الاستحسان، بل هي تُعرّج، من خلال عنصر الاستطراد، على مشاهد تلامس تنافُسَ المغنين والشعراء، وتصف حياة اللهو والمجون، وتستعرض نماذج من الألحان والأشعار التي كانت تحظى بالإعجاب، وتوضح اهمية سهرات الغناء في تدعيم الخلافة وتعزيز نفوذ السلطان... وإلى جانب ذلك، يوظف البناء العناصر اللاواقعية، الخرافية، الواردة في اخبار"الأغاني"وبخاصة ما يتصل بالجن والهرر والشياطين الحاملة للألحان الى المغنين بطرائق عجائبية:"... قال لها ألم تسمعي غناء جميلاً؟ قالت لا! قال ألم تسمعي هرتين غنّتا هنا بعد ان دَخَلَتا من الطاقة تحت السطح؟ قالت لا! ... فقال ألا تريدين ان اغنيه لك؟ قالت الجارية فوراً: لا! هذا صوت إن غنّيتَه لأحد جُنّ أو مات..."ص 119. ونتيجة للتناص المتواتر مع لغة كتاب الأغاني، فإن لغة"معبد ينجح في بغداد"تأتي قريبة من تركيبات جملها، مرصعة بالأبيات الشعرية المغنّاة، بل ان الكاتب كثيراً ما يورد عبارات كتاب الأغاني بنصّها مع شرح الكلمات التي قد تستعصي على القارئ المتوسط ولعله يقصد من وراء ذلك ضمان استرسال القارئ في متابعة الأخبار والمشاهد الممتعة من دون حاجة الى القاموس؟ لكن متعة النص وتنوع احداثه وفضاءاته، لا يحولان دون التساؤل عن مقصد رشيد الضعيف من توليف رواية بطلها مغن يفترض انه عاش في فترة عاصفة من حياة الدولة العباسية. خلافاً لما يوهمنا به الضعيف من ان"الخبر"في السرد العربي القديم هو ما يقوده الى امتاع القارئ، أفترض وجود سؤال روائي في"معبد ينجح في بغداد"اصوغه على هذا النحو: هل تكفي ارادة معبد بن رباح ورغبته لبلوغ النجاح الذي كان يصبو إليه؟ ام ان الأمر يتعلق بقوى اكبر منه وشروط خارجة عن ارادته هي التي تحكّمت في تقرير مصيره؟ اظن ان هذا السؤال الضمني هو ما ينقل نص"معبد ينجح في بغداد"من مستوى التوليف بين الأخبار والحكايات الواردة في كتب السرد القديمة، الى مستوى الصوغ الروائي حيث يغدو معبد بن رباح شخصية تسعى الى استكمال فرديتها من خلال تجريب حرية الاختيار وتحقيق مجد الشهرة والمال. لكن هذا"المشروع الفردي"يبدو بلا وزن ولا تأثير امام نزوات ومزاج الماسكين بالسلطة ورقاب البشر داخل نظام حكم مطلق، ثيوقراطي. من هذه الزاوية، نجد ان معبد، بعد ان ظن بلوغه الأوج في عهد الأمين، يتدحرج فجأة الى الحضيض ويتعرض للتعذيب شهوراً طويلة، في عهد المأمون... لكن هذا السؤال الذي نقترحه لتأويل النص، لا نكاد نجد في الرواية ما يقنعنا بأن الكاتب حريص على ان يصوغ رؤية تضيف الى متعة الرواية وطرافتها، ابعاداً تُثري التأمل وتفتح النص على اسئلة راهنة. ولعل هذا"الحياد"الذي يلجأ إليه الضعيف في رواياته الأخيرة، خصوصاً في"تصطفل ميريل ستريب"و"انسي السيارة"، هو نوع من التباعد المقصود عن مناخ الحرب الأهلية في لبنان وأسئلتها الجدية المكرورة... كأنما يريد الضعيف، ان يعوّض الرواية المؤدلجة، الجهمة، برواية الإمتاع والسخرية وغرابة المواقف والعلائق. من ثم حرصه على استحضار الجنس والمشاهد الإيروتيكية اعتباراً الى انها موضوعات أليف تزخر بها كتب تراثنا القديمة. وكما يقول على لسان السارد في روايته"تصطفل ميريل ستريب":"فإن كثيراً مما جاء في الكتب القديمة عن الرجل والمرأة حق، وأننا ابناء هذه الأيام كثيراً ما نظلم هذه الكتب حين نحكم عليها اليوم بخفة ولا رحمة"ص142. من هذا المنظور، يمكن ان نعتبر"معبد ينجح في بغداد"تأصيلاً لتلك الطرافة الإمتاعية المتوافرة في كتب الأخبار والسير والكرامات والعجائب... لكن"متعة النص"التي تحققها ولا شك، رواية"معبد ينجح في بغداد"، تظل في نظري، بحاجة الى متعة التأمل وتواطؤ الروائي مع القارئ للإيحاء برؤية تستعيد النص من"الحياد"وتُلقي به في خضم الإشكاليات المرافقة للحياة وصراعاتها. ومهما يكن الشكل طريفاً وممتعاً، فإن تحقق الرواية مرتبط ايضاً بپ"فكرها"وتساؤلاتها المغايرة لأسئلة الفلسفة والتحليل النظري. بعبارة اخرى، استشعر ان الضعيف، بعد الجهد التخييلي والتوضيبي الذي بذله لتحويل سرديات تراثية الى شكل روائي ممتع، يتحاشى الدخول في"حوار"مع تلك النصوص والأخبار والوقائع، أي محاولة اختبار مضمونها وحمولاتها على ضوء ما يفرزه الحاضر. وليس المقصود هنا، إسقاط افكار جاهزة وإنما الرؤية الى الإنسان"العربي"الذي يجر وراءه نصوصاً وتعاليم تراثية كثيرة تكاد تطمس ارادته ووعيه ومشاعره... بتعبير آخر، فإن الروائي القابع في مكان ما، والمتدخل بالتنسيق والتقطيع والانتقاء والاختلاق، لا يستطيع ان يتناسى ان اللابطل معبد بن رباح، المرتهن في سياق اجتماعي تاريخي معين كان يستبطن قيماً معينة تحيل على انتروبولوجية اجتماعية لعل بعض ملامحها ورواسبها لا تزال سارية، فاعلة، بين ثنايا الفئات والحقول المجتمعية العربية... اظن ان الاحتراز من كتابة رواية ايديولوجية لا ينبغي ان يقودنا الى نشدان رواية متعة خالصة نفترضها داخل عالم لا مكان فيه لمتعة الحياد. والروائي، بما له من حيل وأقنعة، قادر على ان يلاحق الرؤيات المتصارعة وهي قيد التشكل، مثلما انه قادر على هدم الشعارات الجوفاء والأطروحات الجاهزة. وأعتقد ان رشيد الضعيف يتوفّر على ما يؤهله لهذا الأفق المجدد الذي يُزاوج بين إمتاع القارئ وإغناء رؤية في الآن نفسه.