الخطاب المتطرف في جانبه الحركي المتمثل في الزرقاوي في حالة العراق مثلاً يستجيب في شكل سريع وفوري للاحداث الجارية على الساحة، ويغلب عليه التعامل مع الآخر المخالف على أسس شخصية بحتة، ولسنا هنا في صدد سرد امثلة على مثل هذا التعامل الذي تميز به الجانب الحركي لهذا الفكر، فإن أي قراءة سريعة لتاريخ أي من قادة هذا الفكر الحركيين ستكشف انه يستهدف اشخاصاً او مقار معينة له تجاهها مواقف محددة. من هنا يمكن استشراف مستقبل هذا الفكر في جانبه الحركي الذي لن يكتب له الاستمرار في أي دولة او نظام قائم، ولكنه ولا شك سيصمد لفترة اطول في أي مكان يعيش حالة فوضى تمثل الغذاء الوحيد لمثل هذه المجموعات، لذلك فإن خلق الفوضى احد اهم اهداف هذه المجموعات التي تسعى إلى تحقيقها تحت شعارات مختلفة وإغراءات عدة تستقي من إسقاط الغيبيات على الواقع، ومنح الكرامات لمن يقتل في سبيل تحقيق الفوضى، وسائل فاعلة ومؤثرة في عقليات صغار السن والمراهقين سياسياً ودينياً. ولن أستغرب ابداً اذا اتضح أن أميركا تتعامل مع هذه المجموعات على اساس تبرير بقائها في العراق اولاً، ثم التأكيد للعالم أن وجودها في العراق كان سبباً رئيساً في منع اندلاع حرب اهلية تسهم هذه المجموعات الآن وبفاعلية كبيرة في بذر بذورها لتثمر حال الانسحاب الاميركي وربما قبل ذلك، هذا الانسحاب الذي سيجيره أتباع هذه الحركات إلى النشاطات التي كانوا وما زالوا يمارسونها، وليس إلى استدراج اميركي لهم لانشغالهم في قتال اهلي قد يستمر طويلاً، بخاصة بعد أن تبين من خلال رسالة الزرقاوي أن الفوضى هي اهم وسيلة تضمن لهم الاستمرار. وفي الجانب الآخر أعني به القيادات الفكرية الداعمة التي تستخدم الكلمة وسيلة للتأييد قد يبدو الوضع مختلفاً إلى حد ما، نحن هنا أمام مجموعات فكرية ترفض النقد وتمارس الإقصاء بصلف غريب يتحول معها ناقدو القيادات الحركية ورموز المجموعات الناشطة خصوماً يتصفون بكل المساوئ، ويهدفون إلى فتح مجتمعاتهم للغرب او كما يحبون تسميتهم بدعاة التفرنج ولا شك أن مثل هذا الإقصاء هو محصلة طبيعية لمجموعة من الظروف الاجتماعية والبيئية والثقافية التي تحيط بالقيادات الفكرية المتطرفة. ولعل اهم ما يميز هذه الفئة عدم الثبات على منهج واضح المعالم، ربما لرغبتها في بناء حركة قوية لا تتعجل حمل السلاح والدخول في ما يمكن وصفه بالمعارك الجانبية من تفجير هنا وتدمير هناك. هذه الرغبة لم يحققها القادة الحركيون لهذا الفكر ولذلك نجد القيادات الفكرية تعترض في بعض الاحيان على بعض العمليات وتتبرأ منها، كما انها لا تبرر بعضها الآخر وتجد له المسوغات والأعذار، ولكن هذه القيادات وفي كل الاحوال لا تتبرأ من الفاعل لأنه جزء من المنظومة الفكرية وجزء من قياداتها العامة، وكأني بهم في حال هدنة على دخن. هذه الجماعات بشقيها الحركي والفكري أنتجت فكراً أحادياً يغيب فيه الحوار بين الأنا والآخر، ويتحول فيه الاختلاف إلى عداء يمارس من خلاله الثأر والثأر المضاد في دائرة شريرة تتسع لتشمل مزيداً من الاختلاف ومزيداً من التشظي والانقسام على الذات، وتتصف بالتعامل السلطوي مع الآخر، ومن ثم إلغاء هذا الآخر تماماً كأسهل وايسر الوسائل لإثبات الاهلية والاحقية بالاستمرار والوجود. ممارسة عملية الإلغاء التي تتم داخل هذه المنظومة الفكرية يمكن مشاهدة حال مماثلة لها حينما ننتقل من داخل هذه العينة الصغيرة إلى خارجها او حينما نتدرج من الخاص إلى العام. والامثلة الواقعية على المستوى المجتمعي العام كثيرة ومتعددة، فأي حدث تتناوله مجموعة من المنظومات الفكرية الناشطة في الساحة المجتمعية يكشف بوضوح اعراض هذه الممارسة، واعني بها ممارسة الغاء الآخر من خلال الادعاءات والمزاعم او من خلال استخدام العنف اللغوي باستخدام تعابير وصفية للفئة المخالفة تلغي حقها الايماني ووضعها قسرياً وفي شكل لا يقبل المساومة في خانة ما يسمى"حزب المنافقين"، ولا بأس بوصف المخالف بما ذكره احدهم"بدأنا نلمح ظهور اللحى الليبرالية"وهو زعم يؤكد بطلانه الواقع المعاش في إعلام بلاد يتميز بالوسطية، كما ارى أن التهمة تندرج تحت مقولة"رمتني بدائها وانسلت". وفي الحقيقة أن هذا الادعاء ليس الا احد الاساليب المتبعة للتفسيق العام كمقدمة لالغاء ليس فقط المجموعة المخالفة، بل المجتمع في عمومه اذا استدعى الامر لتبرير افعال واعمال واقوال شيطانية مدمرة للمجتمعات تعيش على الفوضى وتتغذى على كراهية الآخر. وفي شظية اخرى على المستوى المجتمعي العام نجد من يستخدم لغة ترهيبية عوضاً عن اللغة الارشادية التثقيفية التعليمية، ففي حادث كارثي ضخم، يمكن أن يكون عقاباً بالدرجة نفسها التي يمكن أن يكون فيها ابتلاء، نجد انتقائية في تفسير اسباب الحدث بما يتفق وميول التفسيق العام، كما وجدنا في تجارب اخرى كثيرة مماثلة، السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا هذه الانتقائية لتفسير محدد واحادي لأحداث متعددة التفاسير، ففي وقت يمكن اعتبار الحدث الكارثي نوعاً من الابتلاء اصاب قوماً ينتمون إلى العقيدة نفسها، جاء تفسير الحدث للاسف على انه نوع من العقاب. فهل كان ذلك نتيجة لسؤال اوقع المتحدث في الفخ ام أن الميول التفسيقية لدى مجموعات فكرية معينة جعلت من اختيار العقاب اقرب من اختيار الابتلاء، الا اذا كانت هذه المجموعات لا ترى فرقاً بين الابتلاء والعقاب. وهنا نتساءل: هل يمكن أن نستبدل كلمة ابتلاء بكلمة عقاب في سياق الحديث عن ابتلاء الله سبحانه وتعالى لانبيائه وعباده الصالحين. قد تتفق العقائد المختلفة سواء منها السماوية او الوثنية على أن الاحداث الكونية عقوبة الهية، لكن الاسلام بالذات تميز عن كل الديانات والعقائد بأنه وصف الاحداث التي تقع لاتباعه بأنها ابتلاء وتمحيص وامتحان بدءاً من الشوكة يشاكها المؤمن وانتهاء بالاحداث الكارثية الضخمة، فهل هناك مبرر واحد يجعل البعض يصر على كونها عقاباً سوى أن الغاء الاخر وتفسيقه هو السر وراء ذلك الإصرار؟ وفي الجانب الآخر من الساحة المجتمعية العامة كان يمكن للفئة المخالفة احتواء هذه الانتقائية في تفسير الحدث بدلاً من تصعيدها وممارسة اقصاء مضاد في رفضها المطلق للتفسير المختار، وكان الأولى أن يتم ابراز التفسير الآخر لتعرية منهج الانتقائية واحراج اصحاب الميول التفسيقية والمطالبة بالاجابة الواضحة على سؤال واحد فقط هو: اذا كان البعض يجزم أن هذا الحدث الكارثي هو عقوبة الهية قطعاً فلماذا لم يقع في هوليوود مثلاً خصوصاً أن كل الاحداث الكارثية التي جاءت في القرآن الكريم على انها عقوبة كانت موجهة ضد الكفار وليس ضد المسلمين، كما أن الاشارة إلى نجاة المؤمنين من تلك الاقوام كانت في الاعم الاغلب مرافقة لتلك الاحداث؟ سؤال يتم المطالبة بالاجابة عليه من دون أن يبدو في السياق على انه انكار ورفض مطلق للتفسير وهذا ما يبدو أن الطرف الآخر استغله فعلاً. وعلى رغم أن من عقب على هذا التفسير الانتقائي يعدون على اصابع اليد الواحدة وفي وسائل اعلامية محدودة النطاق الجغرافي، الا أن رد الفعل الاقصائي كان عنيفاً ومفتعلاً، فقد تم تحوير نقطة الخلاف الرئيسة من مجرد تساؤل يفترض أن يجد اجابة إلى اتهام بأن رفض التفسير الانتقائي هو رفض لمبدأ العقوبة الالهية، وبدلاً من التراجع او على الاقل التعامل مع الآخر على انه سائل باحث عن اجابة وجدنا اتهامات وسيلاً من القذائف التعبيرية بدءاً برد فضائي سبقه اعلان فضائي مجاني في قناة اخرى، وتخلل ذلك حملة شعواء لهواة الكتابة على حيطان الانترنت تستهدف اصحاب التساؤل بدلاً من الاجابة على السؤال، فهل تعود هذه الحملة الاقصائية المفتعلة إلى أن مثل هذه الأسئلة تعبر عن رفض السائل للنموذج الطالباني وبالتالي فهو هدف مشروع للإقصاء والإلغاء؟ مجرد تساؤل. وفي شظية أخرى نجد مجموعة تقع في حالة شد وجذب بين المحلية والأممية وتتبادل المواقع حسب الحالات، وقد يصفها البعض بأنها مرحلية الأداء فيما يراها البعض على إنها تتعامل مع الواقع. وأياًَ كان من هذه الرؤى يظهر أن هذه المجموعة تحاول اصطياد حالات معينة ومحددة والتعامل معها على أسس تعتمد في المقام الأول على دغدغة العواطف وربما يعود ذلك إلى السعي للحضور الإعلامي وربما انه كلام حق قد يراد به باطل، ولعلي أصر على ما بين القوسين. ومن النماذج التي تعاملت معها هذه الفئة هي رد الفعل الإنساني تجاه الحدث الكارثي الأخير وحملة التبرعات التي صاحبته ونتيجتها الرائعة وحاولت التأثير عليها وتخطئة هذه الممارسة الإنسانية وإقصاءها عن إنسانيتها ووضع اولويات عاطفية لا تتعامل مع الواقع ولا مع تاريخ العمل الإنساني لمنظمي هذه الحملة بقدر ما تتعامل مع عواطف المتفاعلين معها وتوجيه أنظارهم إلى أوليات من صنع هذه الفئة، من هذه المجموعات من رأى أن حملة تبرعات مماثلة للفلوجة قد تكون أجدى وانفع، متناسين أن الفلوجة جزء من العراق ولكن تفادي استخدام كلمة العراق والإصرار على ذلك الجزء دليل واضح، إلى محاولة تغييب الجهود الإنسانية التي تمت في السابق والمساعدات العينية والمادية التي تم إرسالها بصفة رسمية التي تعرضت لمضايقات من مجموعات اقصائية في المواقع التي استهدفها العمل الإنساني، هذه الحقائق تعمدت هذه المجموعة عدم الحديث عنها ولا نقول ان هذه محاولة فاشلة للتأليب ولكنها محاولة لإلغاء الهدف الإنساني من حملة التبرعات. وفي مقابل ذلك نجد من يخاطب المشاعر النبيلة نحو جزء من الداخل الفقير والزعم بأولية هذا الجزء بمثل هذه الحملة، وهو زعم وان بدا في ظاهره الرحمة إلا انه يتعارض مع واقع الحكومات ولم يحدث في التاريخ مثل هذا الأمر إلا في حالات فردية معينة تمثل مشهداً استثنائياً لفرد ومجموعة صغيرة من المتبرعين، إضافة إلى أن تحقيق مثل هذا المطلب يعتبر إشارة إلى قصور الأجهزة المعنية بمتابعة حالات الفقر واتهامها مباشرة بعدم تحقيق مهامها وإقصاء وتغييب للجهد الحكومي لحل المشكلة، إذاًَ نحن أمام صورة من صور إلغاء كامل الجهد الإنساني النبيل وإفراغه من محتواه وتوجيه أهدافه إلى غير وجهتها وتأكيد صورة أن الآخر المعادي يلعب دوراً ما في رد الفعل الإنساني، دور يخفى على الجميع ولا يخفي على أصحاب هذا الفكر وهذا هو المضحك المبكي. ومهما تعددت الأمثلة من الساحة المجتمعية العامة فلا شك إنها جميعاً تتعامل بطريقة واحدة وهي مخاطبة العواطف ومحاولة التأثير عليها وإلغاء العقل تماماً، وقد يكون الوضع العربي الراهن أسهم في خلق الأرضية المناسبة لمخاطبة حماسة الشباب والمراهقين وعواطفهم ودغدغة مشاعرهم وإدخالهم في أجواء سهلت تمرير أدوات عمل كانت من اشد المحظورات لدى المسلمين عموماً، وأصبحت من أقدس الواجبات للمتآثرين هذا الفكر، وان القادة الفكريين لهذه المجموعات منحوا هذه المحظورات المخرج الديني والتأصيل الشرعي الذي تحتاجه فيما تولت القيادات الحركية منح"صكوك الغفران"وإلصاق الكرامات بالمنفذين لضمان استمرار تدفق المنتحرين. العمليات الانتحارية أحد الإفرازات التي أنتجها إقصاء المخالف وتشكل محور ارتكاز في العمل الحركي لأصحاب التفكير الأحادي ودعاته، وتمثل الوقود الذي يعطيها القدرة على التأثير في مساحة صغيرة هي كل ما تحتاجه في ارض الواقع، حيث يتم تضخيم هذه المساحة ومضاعفتها إعلاميا وفكرياً من خلال الدعم المباشر بالفتوى الصريحة أو بالبيانات التي يقدمون فيها الجنة إلى الغير ويحرمون أنفسهم وأبناءهم منها، في خطاب تحريضي يمكن اعتباره صورة من صور التشظي الفكري، وفي أحيان أخرى خطاباً تبريرياً يتم تقديمه لفئة أخرى يعتمد على توجيه العاطفة إلى حال الأمة وضرورة مواجهة وضعها الحالي وإلغاء مفهوم الوطن وتحويل مبدأ المواطنة إلى عقيدة وثنية، ويرى أن من ينادون بالمواطنة وضرورة تنمية مبدأ الولاء للأرض والانتماء للوطن مجموعة من المخذلين المتخاذلين ممن ارتموا في أحضان الغرب، هذا الغرب الذي يهرول إليه قادة هذا الفكر كابي قتادة وعمر عبد الرحمن وسعد الفقيه ومحمد المسعري، ويسعى إليه كل من اختلف مع حاكم أو حكومة، يستخدمون أدواته ويقاتلونه بها، ونجد قادة الفكر يستخدمون ديموقراطية الغرب لشتمه في عقر داره، ومن هناك أيضا يتآمرون على الغير كما على ذواتهم، فإذا طلق الشيخ محروس امرأته وجدنا بياناً عن دور الاستعمار البغيض في مؤامرة الطلاق، إنها علاقة غريبة لمجموعات لا ترى إلا من جهة واحدة وتعمل على إجبار الآخرين على تبني ما تطرح ليس لأنها تعتقد إنها على الحق فقط وانها وحدها من يحتكر الحقيقة بل لأنها ألغت الآخر تماماً، وإذا كان هناك ضوء في آخر النفق المظلم فهو لا شك أن حال التشظي والانقسام ستكون أكثر حدة بين المجموعات نفسها التي تحاول تصدير فكرها إلى الخارج. * إعلامي سعودي.