صرخ الشاب الذي طالما ألفنا وجهه عند مدخل قصر قريطم، وهو يركض بين الجموع المحتشدة أمام القصر قائلاً: "افتحوا الطريق لموكب الرئيس". كان يعرف انه يقول جملته للمرة الأخيرة، لكنه بدا كمن لا يريد ان يصدق ذلك ولا الناس الذين وقفوا ينتظرون الموكب وهو يغادر القصر مودعاً. "افتحوا الطريق لموكب الرئيس". وكان دخل القصر باكراً آتياً من مستشفى الجامعة الأميركية من أجل نظرة الوداع الأخيرة ألقاها أفراد عائلة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري على جثمانه الذي لف النعش الذي حمله بالعلم اللبناني، وسجي في الصالون الكبير والى جانبه نعوش مرافقيه الذين قضوا معه. وقفت أرملته السيدة نازك وشقيقته النائبة بهية وابنتاه جمانة وهند حول نعش "حبيبهن" يلمسنه ويشهقن بالبكاء. وحينما نقل نعش الرئيس الحريري الى صالون آخر اجتمعت العائلة معه لمرة أخيرة وكانت تلاوة لآيات الذكر الحكيم وكلمات "الله معك يا حبيبي ويا أبي ويا أخي". والى القصر ومحيطه، كانت بيروت تزحف، رجال ونساء وصغار جاؤوا من كل الاحياء باكراً حاملين الأعلام اللبنانية وصور الرئيس الشهيد. صارت الشوارع المؤدية الى قريطم تضيق بالنهر الأسود المتدفق إليها كالسيل. وموكب الجنازة الذي كان موعد انطلاقه في العاشرة بدأ زحفه الى الطريق المرسومة قبل ذلك بكثير مخلياً المكان لدفق آخر من البشر لا ينتهي. "افتحوا الطريق لموكب الرئيس"، وكان نعش الرئيس الحريري آخر نعش يخرج من القصر بعدما سبقته نعوش مرافقيه محمولة على الاكتاف الى سيارات الاسعاف التي راحت تتقدم ببطء شديد على وقع اقدام المشيعين وهتافاتهم "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله". صرخ رجل بين الجموع المارة "لم يعد لنا أحد. الرسول مات والحريري مات، ولم يعد لنا إلا الله". ورددت الجموع "هزي هزي يا بيروت الحريري لا ما بيموت". كانت حبات الرز وماء الزهر وأوراق الزهور تتساقط على الموكب كالمطر، ترشها أيادي النساء اللواتي وقفن على شرفات منازلهن وهن في لباس الحداد، بعضهن كان يصرخ "الله معك" وأخريات كن ينتحبن غير مصدقات. بكى الرجال على جانبي الطريق من قريطم في اتجاه شارع الصنوبرة نزولاً الى شارع الاستقلال حيث دار الطائفة الدرزية. كان الحزن بقدر الغضب كبيراً والحناجر لم تكتف بهتافات التكبير بل كانت تصب غضبها على الطوافات التي كانت تحلق في الأجواء والتابعة للجيش اللبناني فتلعن من فيها. وبدت تلك الطوافات الوجود شبه الوحيد للدولة المواكب للجنازة، فعلى الأرض كان الموكب يتحرك بتنظيم ذاتي، فلا مواكبة من قوى الأمن الداخلي ولا من الجيش الذي اتخذ عناصره مواقع بعيدة من مسار الجنازة، بل في بعض الأحيان اكتفى بالتواجد على سطوح بعض الأبنية وليس على الأرض. قال أحدهم: "اليوم نريد أن نقول كل شيء، لم يعد ثمة ما نخسره" معلقاً على هتافات راح يرددها ابناء الطريق الجديدة: "يا سورية اسمعي منيح من لبنان فلّي مثل الريح"، و"إي ويللا سورية طلعي برا"، وهي هتافات ما كانت تسمع في بيروت إلا حينما كان يتظاهر شباب "التيار الوطني الحر" العونيون. ولم تخل الهتافات من عبارات قاسية واتهامية ضد اركان الحكمين اللبناني والسوري. وردد المشاركون هتافات ضد رئيس الحكومة الحالي عمر كرامي وطالبوه بالاستقالة. كان مكبر الصوت المثبت على سيارة الاسعاف التي تقدمت موكب التشييع يردد "هذا رفيق الحريري يا اخوان افتحوا الطريق". لكن الطريق كانت تضيق بمن عليها وكان صعباً على الموكب ان يشق طريقه عند وصوله الى جادة الاستقلال حيث يقع منزل رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص. فقد خرج الناس من الاحياء المجاورة الى هذا الشارع لوداع الرئيس الحريري. وقالت احدى السيدات من شرفة منزلها: "هذا زعيمنا، هذا حبيب القلب". فتيات وضعن على رؤوسهن عصبات طرزن عليها اسم الرئيس الحريري. فيما ربط الشبان شرائط سوداً الى سواعدهم وبدوا كأنهم يصنعون عاشوراهم. حتى السواعد راحت تعلو وتهبط وتخبط على الصدور في ايقاع متناسق فيما الحناجر تردد "يا رفيق لا تهتم نحن معك حتى الدم"، و"يا رفيق انت الروح دمك هدر ما بيروح". كانت الساعة قاربت الحادية عشرة والنصف حينما وصل الموكب الى محلة البسطة، هناك استقبل الناس النعوش بالزغاريد ونثر المزيد من الرز وأوراق الزهر، وحينما حثهم مكبر الصوت على إسراع الخطى "كي نلحق صلاة الظهر" راحت الناس تتوزع فوق الجسور وتحتها وبعضهم سلك طرقات فرعية، وعلى رغم ذلك لم يتمكن الموكب من التقدم إلا بصعوبة، فثمة عشرات الألوف من الناس كانت تنتظر عند تقاطع بشارة الخوري جاؤوا من مناطق بعيدة والرايات التي رفعت دلت الى انتماء أصحابها، فثمة من جاء من طرابلس وعكار شمالاً، ومن شبعا جنوباً ومن شعت بقاعاً ومن كترمايا في إقليم الخروب، انضموا الى الموكب فطافت الطرق بالبشر وكادت تختنق بهم. أحياء بيروت في تلك اللحظات هجرها اصحابها فبدت مقفرة حزينة، والناس الذين بقوا في منازلهم لم يخرجوا الى الشرفات إلا بلباس الحداد وكأن الفقيد في بيت كل واحد منهم. وإذا كانت المؤسسات التابعة للرئيس الحريري ك"أوجيه لبنان" وتلفزيون "المستقبل" زنرت بوشائح سود، فإن صوره كانت تلصق بعفوية على نوافذ البيوت وأوراق النعي الخاصة به على الأبواب الجرارة للمحلات والدكاكين. وحدها اللافتة التي علّقت عند تقاطع كورنيش المزرعة ? عين التينة باسم حركة "أمل" تعزي "لبنان بالفقيد الكبير" بدت كأنها أضاعت اتجاه الجنازة.