استعادت بيروت جموعها امس، لكنها بقيت ناقصة. فالهتاف الذي ردده عشرات الآلاف من الشبان والشابات والرجال والنساء بأن"جبران حي فينا"بدا غير كاف لتعويض ذلك الغياب الذي خلفه اغتيال النائب والصحافي الزميل الشهيد جبران تويني ولا الفراغ الذي احدثه قبله الكاتب والصحافي الزميل الشهيد سمير قصير وهما من صانعي"تظاهرة 14 آذارمارس التي استعادت بالأمس قسماً مهماً من حجمها لكن مع اضعاف مضاعفة من غضبها مشيعة الشهيد تويني ومرافقيه نقولا فلوطي واندريه مراد اللذين استشهدا معه في انفجار السيارة المفخخة التي استهدفتهم الاثنين الماضي. لبس لبنان ثوب الحداد من جديد. فتوقفت الحركة في مناطقه بما فيها ضاحية بيروت الجنوبية، وقصد الناس، ممن ينتمون الى قوى 14 آذار أو يناصرونها، بيروت وتحديداً ساحات ساسين في الاشرفية وتقاطع بشارة الخوري والشهداء والنجمة والساحة المقابلة لمبنى جريدة"النهار"التي يترأس الشهيد تويني مجلس ادارتها، وذلك لوداع جثامين الشهداء الثلاثة التي كان مقرراً تشييعها من مستشفى مار جاورجيوس في الاشرفية الى كنيسة مار جاورجيوس في ساحة النجمة ثم الى مدافن مار متر في الاشرفية مجدداً. الطرقات كانت مفتوحة أمام الجميع على عكس ما حصل في آذار الماضي. وكان التعميم على المشيعين ألا يرفعوا علماً غير العلم اللبناني فاستعاض كثر عن راياتهم الحزبية بصور شهدائهم الرؤساء: بشير الجميل ورينيه معوض ورفيق الحريري، وكمال جنبلاط وجورج حاوي وسمير قصير الى جانب صور أُلصقت على الصدور وعلى الاعلام للشهيد تويني. وبرزت اعلام الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية واكتفى مناصرو"التيار الوطني الحر"بارتداء اللون البرتقالي. كثيرة كانت اللافتات التي حملها المشيعون الذين راحوا مع تقدم ساعات الصباح يتكاثرون في الساحات المحيطة لمبنى"النهار"، أما الاشرفية فكانت في هذه الاثناء تودع ابنها الشهيد على طريقتها. فما ان أُخرجت نعوش الشهداء الثلاثة من المستشفى وخلفها سار حشد من الاقارب والزملاء في"النهار"حتى خرج الناس بدورهم الى الطرقات واصروا على حمل النعوش فوق الأكف، وكلما تقدمت النعوش في الاحياء علا التصفيق ونثر الرز والورود من على واطلقت حناجر نساء الاشرفية الزغاريد. والغضب الذي عجز اهالي الاشرفية عن التعبير عنه بصوت عال، ربما لغلبة الحزن على احوالهم، عبرت عنه جموع ساحات وسط بيروت، فاطلق انصار"القوات"و"المستقبل"و"التقدمي"، وهم الكتلة المحركة للمشيعين، عشرات الهتافات التي تتضمن حملة عنيفة على النظام في سورية وعلى الرئيس بشار الأسد والرئيس اللبناني اميل لحود الذي طالبته الهتافات ايضاً بالتخلي عن منصبه. وألهبت فتيات محجبات آتين من الضنية ? عكار مشاعر المتجمعين باطلاقهن صفة الجبن على من اغتال تويني الذي حملن صورته عالياً ووصفن قاتليه ايضاً بالضعفاء، وطالبن لحود بالمحافظة"على شرفه من خلال الاستقالة". كانت الساعة قاربت العاشرة والنصف حين وصل رئيس"اللقاء الديموقراطي"اللبناني وليد جنبلاط الى المكان قاصداً مبنى"النهار"لتقديم التعازي، وكان وصوله، الذي اعتبره المشيعون تحدياً للقتلة، كافياً للهتاف بحياة"ابو تيمور"واطلاق الهتافات مجدداً ضد النظام السوري. وبينها"يا بشار طل وشوف شو بيعمل زعيم الشوف". وكان جنبلاط وصل على رأس مسيرة شعبية ضخمة ضمت آلاف المواطنين وبينهم وزراء ونواب اللقاء وفاعليات ورجال دين وقياديو الحزب التقدمي من مناطق الجبل والشوف واقليم الخروب والجنوب وتحديداً حاصبيا وراشيا. وضاقت الساحات بالمشيعين الذين اتوا من بعلبك والبقاع الغربي ومن طرابلس ومن احياء بيروت وجبل لبنان، حملوا أكاليل من الزهور لوضعها امام باب الكنيسة اثناء الجناز لراحة نفوس الشهداء. وبين الاكاليل التي تراكمت امام مبنى"النهار"لنقلها الى المكان واحد حمل توقيع"تلفزيون المنار"التابع ل"حزب الله". كانت الساعة قاربت الثانية عشرة حين بدأت النعوش تشق طريقها بصعوبة في اتجاه مبنى"النهار"فاكتفت الحناجر بهتاف"الله معك يا جبران"وآخر تضمن حملة على سورية وما عدا ذلك تصفيق متواصل للنعوش التي راحت الأكف تراقصها امام المبنى في لحظة وداع مؤثرة انهمرت لها دموع كثر اطلوا من وراء زجاج نوافد المبنى وممن انتظروها على الارض. طالت المسافة بين"النهار"وساحة النجمة على رغم قصرها، اغمي على كثر حشرتهم الاجساد المتلاصقة في المكان. لكن النعوش تقدمت في اتجاه درج البرلمان وجرى ترقيصها من جديد ومن هناك استدار المشيعون في اتجاه الكنيسة وارتفع هتاف آخر:"هزي هزي يا بيروت دم الشهيد ما بيموت". كان نعش تويني يسنده رجل دين مسيحي وآخر مسلم ومعهم العشرات من المقربين ومحبي الشهيد. في تلك اللحظات تداخلت صلوات رجال الدين بقسم تويني الذي رددته الجموع وبينهم الشيخ المسلم، وخرج العونيون عن صمتهم الذي رافق حضورهم الى الجنازة وهو الاول لهم بعدما غابوا عن تشييع قصير وحاوي فرددوا هتافاً من نوع العرفان بالجميل للشهيد الذي حمل لواء قضيتهم سنوات:"يا جبران ما مننساك، العونيين كلهم فداك".