"أنا وردتكم الشامية يا أهل الشام، فمن وجدني منكم، فليضعني في أول مزهرية. انا شاعركم المجنون يا أهل الشام. فمن رآني منكم، فليلتقط لي صورة تذكارية. انا قمركم المشرد، يا أهل الشام، فمن رآني منكم، فليتبرع لي بفراش وبطانية صوف... لأنني لم أنم منذ قرون". تختصر هذه القصيدة الموكب الشعبي الكبير لتشييع الشاعر العربي نزار قباني يوم امس، اذ ان محبيه التقطوا له الصور التذكارية وتبرعوا له بفراش من حب ووضعوه في مزهرية شامية، ذلك ان شاعرهم عاد الى الشام... مثل "طفل يعود الى صدر امه" او "طائر يعود الى بيته" بين والديه وابنه وأسرته في الباب الصغير في حي الشاغور احد احياء الياسمين الدمشقي. كانت "آجندة" نزار يوم أمس مزدحمة بالمواعيد. لقاء مع زوجته بلقيس بعد 14 سنة من آخر لقاء لهما في بيروت قبل تفجير السفارة العراقية. لقاء مع ابناء حيه الدمشقي العتيق في الشاغور. موعد مع عبق الياسمين الذي ألقي في شارع "نزار قباني". وكان نزار ايضاً على موعد مع امير الشعراء عندما مر في هدوء بشارع احمد شوقي المتقاطع مع شارعه... وكان ايضاً على موعد مع غسيل الاوجاع لتصافي القلوب فعاد الى الدار الآخرة من منزل اخيه معتز "متناسياً" الماضي. ... بعد غياب لسنوات، التقى نزار بعد ظهر امس جمهوره الشعري في دمشق، وجال في شوارع "الرحم الذي علمني الشعر". رشّ "الشوام" الياسمين على نعش نزار في مسيرة دمشق "الرحم الذي أهداني الياسمين". اطعمت عصافير الدوري عصفور الشام الاخضر حبة القمح التي كان يشتهيها. انطلق موكب سيارة التشييع من منطقة المالكي الى جامع البدر حيث صلى عليه صلاة العصر. ثم حمله محبوه على الاكف مشياً على الاقدام في الشارع الذي يحمل اسمه، حيث تقدم الموكب عدد من المسؤولين الذين حضروا بشكل شخصي يينهم وزير الدفاع العماد أول مصطفى طلاس ووزير الصحة الدكتور محمد اياد الشطي والناطق الرئاسي السيد جبران كورية والدكتور أسعد كامل الياس والنائبة كوليت خوري. وحضر ايضاً وفد مثّل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري برئاسة النائبة بهية الحريري، والفنان كاظم الساهر والفنانة لطيفة التونسية وعدد كبير من المثقفين العرب واللبنانيين تحديداً، في حين ارسل المسؤولون الآخرون باقات الورود اليه. وخرجت الجنازة هن المخطط لها، اذ ان المشيعين داروا بالجثمان في شارع "نزار قباني" تحت انظار المطلين من النوافذ الذين امطروا الناس بالارز والياسمين... وبقي المشيعيون متمسكين بجثمانه الملفوف بعلم سورية بين ايديهم ولم يعيدوه الى السيارة الى ان وصلوا مقبرة الباب الصغير في حي الشاغور فهتفوا جميعاً "هوجي يا شاغور هوجي". مروراً في دمشق القديمة وحاراتها. وهتفوا ايضاً "ويل يلي ياحاكينا، نزار نازل اراضينا" و"ابك واذرفي الدمع يا عين، عل مفارق نور العين". "ما احلى الرجوع اليه". حضن الدار في حضن دمشق. يخالط الحزن فيها الزغاريد كعادة اهل الشرق حين يموت الحبيب في شرخ الشباب ويزف الى بلده... في موكب بين لندنودمشق مروراً ببودابست. بحنان استقبلت المآذن، وفي مقدمها مأذنة الشحم، ابن الشام المدلل. كبّرت في أذن طفلها العائد من غربته اليها وهدهدته... لينام هادئاً في ضجيجها. مرّ به اهل الشام في شارعه الذي فرح به فرح الاطفال... والتقطوا لنعشه الصور التذكارية في كل حالاته: محمولاً على الاكف، سيراً على الأقدام، ركوباً في السيارات في المسافة التي قطعها بين منزل اخيه معتز ومثوى ابنه توفيق حيث ووري الى جانبه. تفاهم يوم امس مع الشام وتفاهمت معه. وألقى نظرات اخيرة في الزواريب ليطمئن الى كنوزه التي طمرها فيها في مأذنة الشحم... الى جانب بلال الحبشي والمناضل ضد الفرنسيين حسن الخراط. انطلق موكب تشييع نزار من منزل اخيه في حي المالكي الراقي الى دمشق القديمة... الى تلك المقبرة الأقدم في دمشق والتي ما زالت على مدى القرون تستقبل الراحلين من احفاد المدينة.... في جنوب الشام حيث الاشجار مائلة شرقاً، حطّ الطير الذي أتبعته قرون من العشق لينام. وجاء في رسالة لوكالة "فرانس برس" "من غير النساء يمكن ان يرافق نزار قباني ؟". تساءلت احدى قريبات الشاعر السوري الراحل بينما كان نعشه يصل الى جامع البدر، حيث تليت الصلاة عن روحه. وقد شارك نحو عشرة آلاف سوري في تشييع الشاعر العربي. وكسرت قريبات "شاعر المرأة والحب" التقليد الذي يحظر على النساء المشاركة في التشييع ورافقن جثمانه الى المسجد. وذرفت نسوة منفعلات الدمع وصرخن بألم وهن يستقبلن النعش: "لا اله الا الله، نزار حبيب الله". وقالت رانيا سكر 54 عاما، وقد اخفت وراء نظارات قاتمة مقلتيها المحمرتين، "لقد ربينا على لحن قصائده. علمني نزار ان المرأة جديرة بالتقدير وان الحرية مطلب اساسي لها". أما ماجد، ذي الثمانية عشر عاما فقال بتأثر واضح "لقد فقدنا واحدا من كبار هذه الامة، انه ابن دمشق ونحن ابناء دمشق. وصرخت شقراء تقارب الثلاثين من العمر "انظروا كيف تجمع الناس بعفوية... ان الحزن يعتصرهم". تكريم لبناني وفي بيروت، استهل الرئيس اللبناني الياس الهراوي جلسة مجلس الوزراء امس بالقول "ان الموت غيّب قبل ايام شاعراً له الكثير الكثير على لبنانوبيروت، المغفور له نزار قباني، واذا كان دُفن جثمان الفقيد يصادف اليوم امس في دمشق فان حياته كانت دائماً في بيروت"، وتمنّى على الوزراء اصحاب الاختصاص "ان يعدّوا لاحتفال تأبيني يُدعى اليه كبار الشعراء لتكريم ذكرى هذا الشاعر العربي الكبير"، وتابع "باسمي الشخصي وباسم مجلس الوزراء نتقدّم بالتعازي من عائلة الفقيد ومن الحكومة السورية وسيادة الرئىس حافظ الاسد".