يعيش الفكر السياسي العربي بعد احتلال العراق حال استقطاب حاد بين ثنائيات عدة أبرزها: الديموقراطية والاحتلال، والقومية والوطنية. وهي حال تتغذى على نمط من الشكية الجذرية المتنامية في الوجود العربي كله تجعل"أزمات الأمة"في معظم الأحوال كارثية إذ تثير الاسئلة الصعبة والمربكة التي تتجاوز فضاء السياسي/ العملي حول الوسائل والأدوات التي بها نتجاوز كبواتنا إلى الفضاء الحضاري / التاريخي حول موقعنا في الزمن ودورنا فيه؟ ولا شك في أهمية طرح اسئلة المصير والجدل حولها في كل ثقافة حية. ولكن المشكلة تكمن لدينا في"العجلة"التي تلبي مقتضيات رد الفعل من جهة، و"الجذرية"التي تكشف عن شك عميق في كل"الذات"من جهة أخرى، وهو ما يرجع في اعتقادنا الى خفوت ما نسميه بتيار"العقلانية التاريخية"في الثقافة العربية. والعقلانية التاريخية مفهوم يعكس نوعاً من الوعي بالتاريخ وحركته ومساراته وأنماط الفعل فيه، تتوافر له الأصالة والمرونة معاً. فهو أصيل لأنه ينطلق من أعمق مكونات الذات الواعية، تلك التي تجسد ثوابتها وتحوز من ثم مقومات استمرارها ونموها معاً، وهو مرن لأنه يتمتع عند تفاعله مع الوقائع المتغيرة بملكة التكيف الخلاق التي تمكنه من استحداث أفضل الصيغ الممكنة للدفاع عن الثوابت الراسخة. وفي الحال العربية تكاد تعني العقلانية التاريخية إرادتي التعقل والتكتل اللتين تكفلان التحرك الرشيد نحو المصالح العربية العليا وتفرضان مسؤولية تضامنية على الأمة كلها إزاء قضاياها الكبرى. هذه المسؤولية التضامنية هي الآلية العملية المعبرة عن الضمير التاريخي للعروبة، فلا يستطيع أي طرف"التحرر"منها إلا عاد هو أو أبناؤه أو حتى أحفاده ودفع ثمن تحرره الذي يؤول عند الحساب التاريخي باعتباره"تخاذلاً"، وذلك بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة للأحداث. والعقلانية التاريخية في هذا المعنى يواجهها بالتشويه مفهومان ينحاز كل منهما إلى أحد مقوميها سواء العقل أو التاريخ على حساب الآخر فيفقد الوعي الكامن في كل منهما إما أصالته وإما مرونته: الأول هو"السلفية التاريخية"الذي يمعن في الانحياز للتاريخ حتى يحيله إلى أسطورة متعالية على الواقع تماماً تملك قوة تفسير إيديولوجي حتى لأكثر الحوادث عملية ومباشرة، وهي بذلك تُعلي البعد الماضي في الزمن على حساب الحاضر والمستقبل معاً، ما يؤدي إلى تشوّه الروح التكاملية للحركة التاريخية ويفقد الوعي التاريخي مرونته مثلما حدث بعد العدوان العراقي على الكويت وملابساته في تسعينات القرن الماضي. اذ تحركت ملكة السؤال الوجودي فجاءت الاجتهادات العجلى بالعنف السياسي"المتأسلم"في الجزائر وتونس ومصر، ومن قبلهما في السودان، بحثاً عن أصالة مفتقدة بدت هي الحل السريع لدى الفصيل الأكثر تطرفاً من التيار السلفي على نحو أساء إلى عقيدة الأمة وعطل نهوضها الحضاري وتكتلها الاستراتيجي لنحو عقد، قبل أن يورطها في مستنقع 11 أيلول سبتمبر 2001 الذي وضعها بدوره في مهب رياح تيار اليمين الأميركي المحافظ. أما الثاني فهو"العقلانية البراغماتية"الذي يفرط في تسطيح العقل فيحيله من تركيب معقد للوعي الشامل إلى زاوية ضيقة على المصلحة المباشرة، ثم يصوغ سقفاً محدوداً لحساباته"العقلانية"يكاد يتحدد بالموقف الواحد منفصلاً عما قبله أو بعده، وبالمصلحة المادية العاجلة أو المباشرة ما يؤدي إلى تشويه تكاملية الحركة التاريخية بإعلاء البعد الحاضر في الزمن على حساب الماضي والمستقبل معاً، وهي انحيازات قد تحقق مكاسب عاجلة لكنها موقوتة سرعان ما تؤدي إلى خسائر في الأجل الطويل، ربما أهم وأعمق مما يفقد الوعي التاريخي أصالته على نحو ما يهب علينا الآن من رياح تيار"براغماتي"يشكك في كل محاولة للتأكيد على أصالة الأمة تحت وطأة اعتقاد بأنه لم يعد هناك وقت أو ضرورة للحديث عن"أمة"من الأساس إذا أردنا - كأوطان - اللحاق بالعصر. هذا التيار الذي يكتسي بثياب"الواقعية السياسية"ويتزايد نموه في أرجاء الوطن العربي إنما يقع في أسر لحظة قنوط تاريخي تشبه إلى حد كبير تلك اللحظة العدمية التي عاشتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حينما ازدهرت التيارات العبثية في الأدب، والفوضوية في الفن، والوجودية الملحدة في الفلسفة، لأن سؤال الهوية آنذاك كان مواجهاً دائماً بمركب من الشك الذي طاول كل المستويات وتخلل كل اليقينيات التي كانت قد وقرت في العقل الأوروبي وجعلته كذلك، فلم تكن هناك حاجة ولا حتى فرصة - تحت وطأة الانهيار الكبير - للحديث عن يقينيات تصعد من الأرض أو تهبط من السماء. تجاوزت أوروبا هذه اللحظة العدمية ليس فقط لأن الولاياتالمتحدة حيوية الغرب آنذاك أعادت إعمارها بمشروع مارشال، بل لكون أوروبا نفسها هي التي صاغت وجسّدت لقرون عدة سابقة تقاليد الغرب الكلاسيكية، المعرفية والسياسية، وتمكنت من خلالها أن تضع نفسها على قمة هرم القوة والثروة والمعرفة، وأن تصوغ مسميات حقب الزمن الثقافي المعتمدة في الفكر الإنساني كله تقريباً من عصر النهضة الى الإصلاح الديني والتنوير، وصولاً الى الحداثة، وذلك بعكس عالمنا العربي الآن الذي يعاني كله من فقدان الثقة والجدارة التاريخية ومن روح التشاؤم، وهي المعاناة التي يستغلها التيار البراغماتي في دعوته إلى الانفلات والخلاص بالذات القطرية من وطأة التغيرات العالمية وسذاجة المثاليات القومية. وربما كانت الأزمة العراقية منذ تفجرها عام 1990 الأكثر تعبيراً عن تهافت العقلانية التاريخية، إذ وقع العالم العربي، كله تقريباً، في أسر البراغماتية بالاختباء لأكثر من عقد خلف شعار استخدم آلية تبريرية وهو التمييز بين النظام والشعب. فالتعاطف"الأخلاقي"مع الشعب قائم في محنته، ولكن الحصار"الشامل"مضروب حوله عقاباً للنظام على خطيئته على رغم ادراك الجميع لوجود سيناريو خفي للولايات المتحدة في العراق يستهدف المنظومة العربية كلها من السودان الى ليبيا، ومن سورية الى لبنان. ومع الاحتلال الفعلي للعراق أخذت مكانة القوى المركزية وأهميتها في النظام العربي، وخصوصاً مصر والسعودية، في التدهور تعبيراً عن الحضور الجديد والمختلف للولايات المتحدة في المنطقة والذي صار ضاغطاً وغير قانع بأنماط التأثير السابقة فيها عبر التفاهمات مع دولها الكبرى المعتدلة، ونازعاً الى حصارها عبر الأدوات والأدوار والدول الصغرى التي باتت تحتل أهمية استثنائية معوقة لتماسك النظام العربي من داخل العباءة الأميركية عندما أخذ صوتها يعلو نشازاً ضد التوجهات العامة التي طالما صاغتها الدول العربية المحورية. وبعد فترة لم تطل أخذت الدول الكبرى نفسها تتحرك نحو الموقف الأميركي لتلعب هي الأخرى أدواراً صغرى ربما خوفاً من التهميش على المسرح الإقليمي، أو من تحلل نظمها الراكدة بفعل الضغط الأميركي السافر، أو ربما رغبة في الفوز بمغانم من نوع ما يتباين في كل حالة عن الأخرى، حيث سهلت البراغماتية العربية مهمة المشروع الأميركي للاحتلال فتمكنت الولاياتالمتحدة من خطف القضية العراقية برمتها وعزلها عن المجتمع الدولي والتغطية على جرائمها هناك. وفي المقابل وقع المشروع العراقي للتحرير أسيراً لنزعة سلفية استلهمتها المقاومة العراقية من الأنموذج"الطالباني"على أصعدة أدوات العمل وضيق الأفق السياسي وغياب الخيال الفكري ما يبديها كمشروع عدمي يشرع للموت والدمار بأكثر مما ينشغل بإعادة تنظيم الحياة. وعلى رغم احتمال اختراق المقاومة نفسها وخطفها من تيارات عنف دخلت الى العراق في ظل الاحتلال الأميركي لمواجهة أميركا، إلا أن المقاومة لم تبذل الجهد الكافي لتمييز نفسها عن تلك التيارات خصوصاً عندما كان ذلك واجباً بل وضرورياً إبان خطف الرهينتين الفرنسيتين في أحد السلوكيات الأكثر غباء من الوجهتين الإنسانية والسياسية معاً ضد رعايا إحدى أبرز الدول في معارضة الحرب ثم رفض الاحتلال. وتكرر ذلك على نحو مشابه مع موظفين في الأممالمتحدة أو وكالات الإغاثة، أو إعلاميين وناشطي السلام، وهو ما تستغله النظم العربية مبرراً أخلاقياً للنأي بنفسها عنها تعويلاً على فهم قاصر وهو أن أخطاء المقاومة انما تعفيها من مسؤولياتها التضامنية ولا تضعها موضع الاختبار العملي الجاد وإلى الدرجة التي تسمح معها لنفسها بممارسة الصمت المريب ضد جرائم الحرب الأميركية. وما بين براغماتية النظم العربية، وسلفية المشروع العراقي للمقاومة، يتقدم المشروع الأميركي للاحتلال خطوة مهمة، حالة إجراء الانتخابات من دون مشاركة أطياف المقاومة السنية، وبعض الأطياف الشيعية، وهو الأمر الذي سيؤدي، في مثل هذه الأجواء المحتقنة، الى تصدير الأزمة الى الداخل، وذلك بإعادة صوغ التناقض العراقي على نحو زائف بين سلطة تحوز شرعية ولو منقوصة وجماعات فوضى غير شرعية، بدل صياغتها الموضوعية الراهنة بين قوة احتلال ومقاومة وطنية، وهو تحول مرغوب من الطرف الأميركي اذ يعطيه فرصة قمع المقاومة بحجة مواجهة الفوضى، وتكريس الاحتلال بدعوى الحفاظ على الشرعية، ما يزيد من احتمالات الحرب الأهلية ومن جاذبية سيناريو التقسيم الذي يصبح آنذاك أمرًا واقعيًَا، ويجعل من العراق جرحاً جديداً مزمناً في قلب الأمة، على منوال القضية الفلسطينية التي أورثتنا المرارة في الحلوق، والمسؤولية المتجددة عن تصحيح الأوضاع، وهي مسؤولية تتوارثها الأجيال وتسفك من أجلها الدماء لأكثر من خمسة عقود، وخمس حروب... ولا يزال التاريخ مستمراً. كاتب مصري.