لم يعد ثمة فسحة للتلعثم أو التردد في إعتبار ما يحدث في العراق من جرائم تحت مسمى المقاومة هزيمة إنسانية وسياسية وأخلاقية وعسكرية وقيمية لنا. ليس من المفيد لا لإنسانيتنا ولا لتسيسنا إن وجد التعذر بأن ذلك مرده وجود الإحتلال الأميركي البعيد عن الإنسانية والأخلاقية والقيم هو الآخر. الإحتلال الأميركي للعراق مرفوض عراقياً وعربياً وعالمياً. والحرب التي أدت إليه كانت إمبريالية ومسوغاتها تافهة. ولهذا فإن هذا الإحتلال يقف على أرضية هشّة وليس بين يديه أية قضية عادلة، وهو سيغادر العراق عاجلاً أم آجلاً. لا يريد أن يغادر قبل أن يحقق أهدافه ويبرمج عراقاً يظل يدور في الفلك الأميركي. المسألة إذن ليست في تقديم خروجه سنة أو سنتين بل في شكل العراق الذي سيخلفه وراءه. المعركة الحقيقية، للمقاومة وللسياسة معاً ولكل من يحرص على العراق، هي معركة شكل عراق ما بعد الإنسحاب الأميركين، وهو إنسحاب تحصيل حاصل، ليس بقدرة جماعات الخطف بل بسبب الضغط العالمي نفسه وعدم إمكان إستمرار الإحتلال الى ما لا نهاية. شكل عراق المستقبل هو المسألة المركزية وهي أكثر أهمية بأشواط من المقاومة غير المسيّسة لكنها آخر ما تفكر فيه ما تُسمى بالمقاومة في العراق. أي عراق مستقبلي تكون الفوضى هي سيدة الموقف فيه، ويكون العنف والصراع الفئوي هو الغالب على سياسته، سيكون فريسة سهلة لبقاء النفوذ الاميركي الذي سيخرج من الباب عسكرياً ويدخل من النافذة بأشكال أخرى. حتى لا تُتهم هذه السطور بالتعميم, هناك تفريق بين صنفين من أعمال المقاومة: الأول هو الأكثر ضجيجاً والمتضمن عمليات مجرمة ودموية ولا أخلاقية تحصر"مقاومتها"بخطف الأبرياء والصحفيين، ونحر الرقاب، والتباهي الفاجر بذلك أمام وسائل الإعلام وعلى مواقع الإنترنت. الثاني هو الموجه ضد جيش الإحتلال الأميركي مباشرة. لكن كلا الصنفين يشتركان في خلل كبير هو غياب البرنامج السياسي لهذه"المقاومة". أما ما يحدث بعد ذلك فهو متروك لمن يستثمر الوضع من قوى محلية دخيلة على العراق أو دولية أو إقليمية تستفيد من الفراغ البرامجي وتملأه بما تريد من غايات أو فوضى. الصنف الأول من"المقاومة"، أي الخطف والإجرام والولوغ في الدم بتلذذ، يستحق وقفة خاصة به. فهنا يتوجب إعادة التوكيد بأن الغايات لا تبرر الوسائل. وأيضاً، لأن ذلك الإجرام هو ضد إنسانيتنا وضدنا كبشر في المقام الأول، مهما كانت السياسة ومهما كانت القضية. فنحر رؤوس الرهائن وهم مقيدو الأيدي ونشر جثثهم مغطاة بالدماء ورؤوسهم مقطوعة ملقاة بجانبهم ليس مقاومة بل نذالة وصفاقة أخلاقية ليست موجودة في أي دين سماوي أو مبدأ أرضي. وإختطاف العزل من السائقين والصحافيين الذين لا يناصرون قضايانا على قدم المساواة مع الذين يناصرونها والنساء العاملات في هيئات الإغاثة هو إنحطاط قيمي بالغ من دون تسويغ أو تخفيف. وفيه إنعدام حتى لأخلاق"الجاهلية"ولمروءة كنا نفخر بأننا أصحابها سلماً وحرباً. والتلاعب بمصائر الأبرياء وشراؤهم وبيعهم بين عصابات الخاطفين لمن يدفع أكثر هو سفالة لا يحق لها أن تقترب بأي شكل ما من وصف"المقاومة". هناك تبريرات وتنظيرات يسوقها أنصار هذه"المقاومة"تبدأ ولا تنتهي. أهمها أن هناك إحتلالاً عسكرياً، وأن المعاملة بالمثل، وهذه في حد ذاتها فكرة غير أخلاقية وغير سياسية وغير مصلحية خاصة عندما يقوم بها الطرف الأضعف خصوصاً عندما يكون في إمكانه أن يمارس مقاومة أبلغ تأثيراً وأكثر أخلاقية وأنفع مصلحية. مشكلة الصنف الثاني من المقاومة، الذي يستهدف مظاهر الإحتلال العسكري فحسب، هو في إختلاطه وتداخله مع الصنف الأول. إذ ليست هناك جماعة مقاومة أعلنت أنها لا تستهدف سوى الإحتلال الأميركي. فالجماعات التي تخطف وتقتل يميناً ويساراً هي نفسها التي تضرب الأميركيين والشرطة. المهم هنا هو أن ما تعلنه هذه الجماعات هو كشف ظهر الإحتلال الأميركي وضربه وضرب المتعاونين معه مثل الشركات المدنية، أوالشرطة العراقية. ومشكلة هذه المقاومة التي لا برنامج سياسي لها، أو تظن أنها تتبنى برنامج لطرد الإحتلال، أنها في واقع الأمر تقوي هذا الإحتلال وتطيل من عمره. فالمقاومة التي تقتل عشرة عراقيين أبرياء على الأقل مقابل كل جندي أميركي تصبح عدواً للعراق والعراقيين أكثر من كونها عدواً للإحتلال وللأميركيين. فهي بكل بساطة تعطي للأميركيين أكبر مسوغ لإطالة إحتلالهم هناك بدعوى فقدان الأمن وعدم الإستقرار وعدم إمكانية إنهاء الإحتلال قبل ضمان الأمن. وهي"مقاومة"تدفع الغالبية الصامتة من العراقيين أنفسهم الى تمني بقاء الإحتلال ريثما تتوضح الصورة وتظهر جماعات المقاومين على حقيقتها. فالمقاومة التي تستهدف الشرطة العراقيين وتقتل منهم المئات لا تحقق سوى هدفاً واحداً رئيسياً هو تأخير تمكين العراقيين من الحفاظ على أمنهم بنفسهم وإطالة الإحتياج إلى الجنود الأميركيين. والزعم بأن تكثيف المقاومة بهذه الطريقة سوف يسرّع خروج الأميركيين، إن صح، يحمل في طياته مخاطر أكثر مما يحمل بشائر. إذ كيف يكون عراق ما بعد الأمريكيين لو خرجوا على عجل وبتسرع وفي غياب هناك شرطة تدير أمن البلد، أو جيش يحميه، أو حكومة غير مطعونة الشرعية؟ أبعد من ذلك وأهم منه هو شكل العراق بعد إنتهاء الإحتلال. ففي كل حرب أو معركة، سواء مع إحتلال أو بين أطراف متصارعة، هناك سؤال مركزي ومهم عن: ماذا بعد المعركة؟ وكيف سيتم تقسيم"الكعكة"بين المنتصرين؟ الحرب بالتعريف تمنح شرعيات متفاوتة للأطراف المنخرطة فيها، والأطراف الظافرة وذات الشرعيات الجديدة والمكتسبة تبدأ بعيد إنتهاء الحرب بالسؤال عن حصتها في"النصر"أو شكل ما بعد المعركة. وإذا خرج الإحتلال الأميركي متسرعاً سنة أو سنتين بفعل"المقاومة"العشواء القائمة الآن. فمعنى هذا أن"جماعات المقاومة"، الزرقاوية والظواهرية والقاعدية، والتي لا تعرف سوى إستخدام السلاح وتتناسل كالفطر، كما تناسلت من قبل في أفغانستان، ستُطالب بحصتها من"الكعكة"و"النصر"، وستطالب بحصتها في حكم العراق والتأثير في شكله السياسي والإجتماعي والثقافي والديني. وهي الآن حين تستأسد أكثر وأكثر في قتل الشرطة العراقيين فإنها لا تبعثر البوصلة الوطنية الحالية فحسب، بل تنثر ألغاماً خطيرة في مستقبل العراق. وهي مع مرور الوقت وفي ظل غياب برنامج سياسي أو أفق أو حتى فهم لما يدور تزرع بذور أفغنة العراق. درس أفغانستان المرير والخطير يجب أن يظل في ذهن كل مخلص يريد للعراق أن لا يتمزق طائفياً وشعبوياً و"جهادياً". فالشرعيات المتنافسة والمتناحرة التي أكتسبتها فصائل "المجاهدين" خلال الحرب ضد الإحتلال السوفياتي كانت قد أسست لأفغانستان محررة لكنها ممزقة بالحرب الأهلية ومحطمة بالتناحرات الدموية التي إنتهت بطالبان وحكمها القروسطي المتخلف. لا نحتاج هنا إلى توقع مستقبلي لنستشرف ماذا يمكن أن يحدث في العراق بعد سنوات إن إستمر تجذر الزرقاوية والبنلادنية والصدرية في المشهد العراقي. هي ستراكم شرعيات عسكرية و"جهادية"تستخدمها للمطالبة بحصص سياسية. والأخبار التي تأتي من"أرض المعركة"لا تبخل بالإشارات المخيفة. فهي تفيد بأن هناك أراض"محررة"لهذه الجماعة أو تلك، اذ تفرض كل جماعة ما تراه من"حكم الشريعة"على ما تسيطر عليه من أرض أو بشر، وهي جماعات في مجملها تنهل من الشكل الطالباني القبيح. معنى هذا أن ثمة بانتوستانات طالبانية قيد التشكل والتأسيس على أرض العراق, وهي بعض ما بشر به الزرقاوي الذي يهدد بأنه سيقيم حكم الله في العراق ومنه ينطلق إلى الدول المجاورة. وهكذا فالآلية التي تحدث الآن هي أن الشرعية المكتسبة ولو بصفاقة عن طريق ممارسات الخطف والقتل التي تسمى مقاومة يُصار إلى تحويلها إلى شكل من أشكال السلطة الأخلاقية والسياسية المبنية على زعم ووهم أن هؤلاء"المقاومين والمجاهدين"لهم علو الكعب الذي يمنحهم الحق في التحكم في حيوات الآخرين. علينا أن نتخيل فقط أن تستمر هذه الآلية لعدة سنوات في طول وعرض العراق كما أستمرت في أفغانستان. وعلينا أن نتوقع بالطبع, وإستناداً إلى التجربة التاريخية في الصراعات الحزبية الإسلامية وخاصة في الجناح المتطرف الطالباني والجهادي منها, تفاقم نزاعات وإنشقاقات ومعارك بينية تسبق الإنسحاب الأميركي من العراق وتعقبه. وعلينا أن نتوقع أيضاً أن كل فصيل أو جماعة"جهادية"مسيطرة على منطقة ما سوف تعتبر تلك المنطقة هي أرض الإسلام وما سواها أرض كافرة حلال غزوها وحربها وقتال من فيها كحال رباني، وحكمتيار، وغيرهم من أبوات الجهاد الأفغاني وتجربته المريرة. معنى هذا أن العراق سيدخل في مرحلة أسوأ من المرحلة التي هو فيها الآن، لأن أنصار الزرقاوي سيتحاربون مع أنصار الظواهري، وهؤلاء سيتحاربون مع جيش أبي فلان، وأولئك سيكفرون جيش أبي علان، ويختلط الحابل بالنابل - وهذا كله في الصف السني فقط. وإذا ما فلت الزمام أكثر وأرادت هذه"الجيوش"أن تحارب مجموعات الشيعة بأبواتها المخلتفة هي الأخرى والتي لا تُعتبر أصلاً من المسلمين، في نظر الجيوش الزرقاوية والبنلادنية, فلنا أن نتوقع أي عراق ممزق ومتناحر سيكون عراق ما بعد التحرير على أيدي هؤلاء. عراق يترحم على أيام صدام حسين بكل إجرامها ويترحم على أيام الإحتلال الأميركي من بعده بكل إجرامها هي الأخرى. قبل أن تتشكل في العراق شرعية عراقية وطنية قائمة على إنتخابات حرة تحظى بإجماع عراقي أو على الأقل بشبه إجماع, فإنه سيتضرر لو خرج الإحتلال الأمريكي متعجلاً ومرتبكاً. سيشفي ذلك غليل الأكثرية في العالم العربي والإسلامي بل والعالم برمته الحانق على الغطرسة الأميركية وعجرفتها. لكن العراق ومستقبله سيكون في مهب الريح. برنامج المقاومة الحقيقية هو في خلق ذلك الإجماع المذكور، وفي التوافق على شكل العراق الوطني ما بعد الإحتلال الأمريكي. لنتصور أن الإحتلال ينتهي اليوم قبل الغد فإنه سيترك العراق مشروع بلد ممزق ومقسم: حكومة موقتة متهمة في شرعيتها، جماعات سنية تتفاخر بأنها قاومت الإحتلال وحررت العراق، جماعات شيعية تتبادل الإتهامات بينها بالتواطوء مع الإحتلال وعينها على"شرعية التحرير"التي إكتسبها التيار الزرقاوي، وأكراد سينفصلون شمالاً ويحيطون بكركوك لضمها، وشرطة غير قادرة على حفظ أمن البلد، وجيش العراقي وليد وضعيف غير قادر على تأطير العراق وتعزيز الشعور الوطني فيه، ويتفتت من تلقاء نفسه في اليوم التالي للإنسحاب. هذا"الإنجاز التحريري"الفارغ من أي برنامج سياسي لما بعد الإنسحاب لا يمكن إعتباره إنتصاراً عظيماً ل"المقاومة". يمكن إعتباره شيئاً واحداً فقط: بداية لأفغنة عراقية تسود فيها التناحرات الطائفية والتقسيمية والجهادية يكون فيها العراق والعراقيون هم الخاسر الأكبر. * باحث أردني/ فلسطيني - كامبردج.