وزير الدفاع يستعرض مع حاكم ولاية إنديانا الأمريكية علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين    رينارد يتحدث عن مانشيني ونقاط ضعف المنتخب السعودي    أمير الشرقية يطلق هوية مشروع برج المياه بالخبر    مستشفيات دله تحصد جائزة تقديم خدمات الرعاية الصحية المتكاملة في السعودية 2024    قسطرة قلبية نادرة تنقذ طفلًا يمنيًا بمركز الأمير سلطان بالقصيم    «التعليم»: إلغاء ربط العلاوة بالرخصة المهنية    القبض على باكستاني لترويجه 6.6 كلجم من الشبو بمنطقة الرياض    9300 مستفيد من صندوق النفقة خلال 2024    الكتابة على الجدران.. ظاهرة سلبية يدعو المختصون للبحث عن أسبابها وعلاجها    مهرجان وادي السلف يختتم فعالياته بأكثر من 150 ألف زائر    الملتقى البحري السعودي الدولي الثالث ينطلق غدًا    قمة مجموعة العشرين تنطلق نحو تدشين تحالف عالمي لمكافحة الفقر والجوع    القيادة تهنئ ملك المغرب بذكرى استقلال بلاده    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    45.1% من سكان المملكة يعانون من زيادة الوزن    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    حسابات ال «ثريد»    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    مكالمة السيتي    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    لغز البيتكوين!    الله عليه أخضر عنيد    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بغداد بعد سنة من الاحتلال بين الخوف والرجاء . العراق بين ان يكون منصة أميركية للاستحواذ على المنطقة أو شرفة على مستقبل عربي ديموقراطي
نشر في الحياة يوم 23 - 03 - 2004

كان هناك من خاف أن تستمر الدول العربية في تعاطيها مع العراق متجاهلة أهله، غير أن المواقف العربية المتقدمة على شيء من التردد، أسهمت في وضع عقدة العراقيين من العرب على طريق التراجع، فكان نصف الاعتراف نظرياً، مع التعاطي العملي مع مجلس الحكم الانتقالي، سبباً كافياً لسحب اللهجة المتوترة من خطاب كثير من المسؤولين العراقيين الجدد، ما يساعد الآن ومستقبلاً في تحويل الوطنية العراقية المستيقظة من كابوس ثقيل، عن خطها الشوفيني الانعزالي، وقد كان كلام السيد علي السيستاني لوفد الجامعة العربية تتويجاً لمسار الاندماج والتواصل مع العرب. وإن كانت قراءة الجامعة لحال العراق قراءة فوتوغرافية، صوّرت ما رأته العين وما سمعته الأذن، ولم تلامسه بشك أو تحليل، ما عزز بعض الظنون والرغبات في فتنة طائفية، لم تقدم الجامعة العربية أي مبادرة لتفاديها، بل ربما كانت مبشرة بها ليس إلا. على أن من يعرفون أعماق العراق في المستوى الطائفي والمذهبي، لا يفرطون في التفاؤل ولا التشاؤم، أي ان الأمل قائم على ذاكرة وحدوية حية، والحذر لازم لجهة ما تركه النظام من أعطاب وندوب في جسم الاجتماع العراقي. على أن ما يدعو الى العجب في الموقف العربي هو ما يشبه الانجرار الى موقف سلبي من المسألة الكردية كما تجلت في الدستور الموقت المادة 61 وعلى أن المسألة تحتاج الى عناية، فإن الاعتراف بالاشكالية الكردية هو التمهيد المنهجي لملامستها بحل معقول ومقبول وتاريخي من دون استعجال.
وكان هناك خوف من أن تسعى إيران، لا الى تحقيق موقع طبيعي غير استيلائي، في حاضر العراق ومستقبله، بل من نزوع ايراني مفترض الى مصادرة القرار العراقي، أو معظمه، من خلال مصادرة أكثريته الشيعية. غير ان العقلانية الإيرانية أكدت هذه المرة أنها بحجم القضية وتعقيداتها، فمنذ البداية وصل الشهيد السيد محمد باقر الحكيم يمارس دوره المؤسس على تاريخ مرجعي وجهادي وعلى الشهادة المميزة عدداً ونوعاً، وعلى علاقته العضوية بالدولة الايرانية، وإذا به يقطع الطريق على الاحتمالات السلبية، ويعلن ان مطلبه ليس إقامة دولة اسلامية في العراق على غرار الدولة الايرانية، بل المطلب هو دولة تعددية ديموقراطية تحترم الإسلام، ما ظهر معه انه ليس في صدد مشروع خاص وانه اختار الاعتدال سبيلاً ومنهجاً، مقتنعاً بأن دولة اسلامية في العراق تعني دولة شيعية تقابلها دولة سنية، يعني تقسيم العراق وعدم استقلاله، وبالتالي تحويل الدولة الشيعية الى الحضن الإيراني، ما يعني امتداد إيران عملياً في المنطقة وإطلالتها على المواقع الخطرة من الخليج الى سورية والاردن حدود فلسطين، وهذا يشكل ذريعة لإدامة الاحتلال الذي يكون أصبح أشد سهولة من خلال التجزئة.
وعجلت ايران من جهتها بالاعتراف بمجلس الحكم لتؤكد أنها لا تحمل مشروعاً خاصاً للعراق... ويمكن القول ان إيران حتى الآن لم ترتكب في العراق أي سلوك أو موقف يسهم في زعزعة الوضع العراقي أو زيادة التوتر فيه. وكانت حركتها نحو تركيا وسورية تصب في هذا الاتجاه، ويمكن اعتبار موقفها المذعن، قبل التعقيدات الليبية في المسألة النووية، بتوقيع البروتوكول النووي، موقفاً محكوماً بالمستجد العراقي ويصب في مسار التهدئة والتفاهم. علماً أن إيران يمكن أن تستند الى موقف "حزب الله" في لبنان وتأييدها له قبل الحرب والاحتلال، والذي سعى الى مصالحة عراقية مع النظام لمواجهة احتمالات الحرب، ما رفضه النظام سراً وعلناً، وكان يعني في ما يعني مخاطبة ايرانية من لبنان المعني فيه "حزب الله" بالموقف الشعبي العربي والاسلامي السني، كان يعني حرص ايران على التفاهم مع الأنظمة والجمهور السني بصرف النظر عن صوابية الموقف التضامني مع النظام الصدامي.
وكان هناك خوف من أن يتحول موقف القبول الشيعي، من خلال الارتياح الى الاحتلال بلحاظ ما حققه لهم من تحرر وتحرير من ضغط النظام الصدامي، الى موقف نهائي وإجماعي، فيؤدي ذلك الى اختزال الشيعة في حال واحدة، علماً انهم لم يكونوا وحدهم في ذلك، لكن الظروف اقتضت ان يكونوا الأشد تعبيراً عن الحال. غير ان الموقف الشيعي الممانع بهدوء لدى المرجعية الدينية السيستاني والحكيم، لم يفتأ أن تحول الى معاندة ثم الى أطروحة معارضة في وجه الاحتلال ومشروعاته، وكان التعبير الأكثر دلالة هو الوصلة التي تمت مع الأمم المتحدة في مسألة الانتخابات، الى الموقف الاعتراضي على الدستور الموقت قبل التوقيع عليه وبعده، الى المجاهرة بتحميل الاحتلال مسؤولية الأحداث الأمنية في كربلاء وبغداد. وبذلك قدم الشيعة لوناً من المقاومة المفتوحة على كل الاحتمالات، من دون التسرع باختزالها في شكل عسكري غير مضمون النتائج. وانتهت المسألة الى مشهد يكاد يكون مقلوباً، فالمقاومة التي نشطت في المثلث السني لم تنعكس في الموقف السياسي، وخطب السيد عدنان الباجه جي بعد توقيع الدستور الموقت، منوهاً، شأن مسعود البارزاني، بالجهود الأميركية شاكراً الحاكم الاميركي بول بريمر وزميله البريطاني جيريمي غرينستوك، في حين خلا خطاب السيد محمد بحر العلوم من الكلام الصريح في الموضوع.
وكان هناك خوف من أن تتحول المقاومة المتسمة بالغموض والفوضى عن شعاراتها المعلنة ضد الاحتلال الأميركي، الى مسار مذهبي حاد، متذرعة بممارسات طائفية يقوم بها فوضويون سنّة وشيعة في اطار ما تبقى من أجهزة النظام، من خلال تخريب المساجد واغتيال الأئمة من الطرفين، وقد تحقق هذا الخوف في النجف أولاً اغتيال الحكيم ثم في كربلاء وبغداد... واشتد الخوف من الاقتتال الطائفي، ولكن عقلانية رد الفعل الشيعي الشعبي والسياسي والمرجعي والتضامن السنّي الواعي فوتت الفرصة.
غير ان الأهم في نتائج هذه الحوادث هو الموقف الرسمي السياسي والديني على المدى العربي والاسلامي، حيث كانت الادانة واضحة واجماعية وبلغة جديدة تعاملت مع الشيعة هذه المرة بالإقرار صراحة بإسلاميتهم وحرمة دمهم لهذه الجهة، مع توكيد أن أهل البيت هم المشترك الأعظم بين المسلمين... وهنا انصب الخطاب الاسلامي العام - الشيعي والسنّي - على التطرف، أي التطرف الاسلامي، ما جعل الهمس الذي كان يدور حول تورط "القاعدة" أو امتداداتها العراقية بالشراكة مع بقايا البعث في العنف العراقي المتنقل، يتحول الى خطاب عام... وهنا تنبه المتطرفون الى ضرورة أن يكون برنامجهم العنفي أشد تركيباً وتنقلاً، من هنا عادوا وقد يعودون أكثر الى العمليات الأمنية التي تستهدف الرموز والمواقع الدينية في شكل يبدو أنه فعل ورد فعل... ولكن ذلك كله ترافق مع قناعة وإعلان عراقي عن مسؤولية قوات الاحتلال في إهمال الشأن الأمني وعدم تمكين العراقيين من ممارسة دورهم فيه. وانتهى الى استعداد عراقي سياسي وعشائري لتولي الأمن وتنظيمه، خصوصاً بعدما أرهقت قوات الشرطة المستجدة بسبب استهدافها اليومي.
وكان هناك خوف من أن يؤدي الارتباك المقصود أحياناً، في أداء قوات الاحتلال وانعكاسه على القوى السياسية والادارية العراقية، الى تعطيل حيويات المجتمع العراقي أو ما تبقى منها بعد سقوط النظام الذي عطلها، غير ان عملية البناء الاجتماعي والتربوي والاجتماعي والعمراني في سائر المحافظات، وفي الأكثر هدوءاً منها على وجه الخصوص، تواترت واستمرت وسبقت الدولة، التي ما زالت معنية بالتفاصيل من دون أن تكون لها رؤية تنموية شاملة، قد تكون صعبة التحقق في ظل الاحتلال، وقبل التكوين المتكامل لمؤسسات الدولة. الى ذلك، فإن الاحتلال يحكم قبضته على مسار التنمية وإعادة الإعمار والبنية التحتية، ليحقق أمراً واقعاً قد لا تقوى المرحلة المقبلة، ما بعد المرحلة الانتقالية، على تعديل وقائعه إلا بجهد طويل وكثيف وموحد ومساعدة عربية.
أما الإنجاز الأبرز فهو الدستور الموقت الاشكالي، بسبب اشكالية الشيعة والسنّة، والعرب والأكراد والتركمان، والمسلمين والمسيحيين والصابئة الى آخر منظومة التعدد العراقي. غير أن الموقع الديني الشيعي بامتياز، والمفروض أنه أبعد من غيره عن الشأن السياسي، أعني السيد علي السيستاني، كان الأكثر سياسة في فهم الأمور، عندما أكد لمبعوث الأمم المتحدة الأخضر الابراهيمي أن الغالبية الشيعية ليس بالضرورة أن تنعكس في غالبية سياسية بسبب التعدد القومي والعلماني والماركسي والاختلاف الواضح بين التيارات الدينية الشيعية، ما يعني ان تنشيط العملية السياسية يمكن أن يجعل العراق في منأى عن مسألة المحاصصة المذهبية، ولو على المدى الطويل.
هناك، في العراق، الاشكالي والمعقد والمحتاج الى ضمانات عربية لمستقبله العربي، عدد من الحيويات لا يجوز إهمالها أو التقليل من أهميتها مع ضرورة الاحتياط حتى لا تتحول الى فوضى تقضي على كل شيء... ويبدو أن العراق مرشح لأحد أمرين، فإما أن يكون منصة أميركية للاستحواذ على المنطقة، وإما أن يكون شرفة على مستقبل عربي ديموقراطي مع كل الاشكالات والتعقيدات التي تحملها عملية التحول من الاستبداد التاريخي الى الديموقراطية المعاصرة... خصوصاً اذا ما سيطرت حال الفصال الداخلي على العراق لتتيح للاحتلال أن يقدم اطروحته في الديموقراطية التي لن تعني في النهاية سوى تحرير الاحتلال من تبعاته لتضعها على عاتق العراق والمنطقة... إذاً فمن العراق، الذي كان مصدراً للظلم والظلام، يمكن أن ينبلج فجر المعاصرة التي لا تقطع مع الجذور والأصول... في الاجتماع وفي الدولة، على أساس نظام معرفي جديد أصيل ومعاصر يثمر نظاماً اجتماعياً وسياسياً جديداً، تأخذ الدولة فيه دورها والاجتماع دوره مختلفين متكاملين شأن كل الدول والمجتمعات الحرة والمتقدمة في العالم.
إن إحدى أهم الضمانات لمستقبل العراق هذه الخبرة الغنية والمتنوعة التي حملها العراقيون من منافيهم، حيث تعلموا واختبروا وحاوروا وتحاوروا واعترفوا بالآخر ووجدوا فيه شرطاً لذاتهم ولوعيهم بها، واكتشفوا كيف تتحرك أنظمة المصالح والعلائق بعيداً عن الاستبداد والاختزال. وهذه الأجيال من الكفاءات العلمية والأدبية التي نمت في العراق في ظل الاستبداد الذي كثيراً ما يغذي من دون أن يقصد، ارادة تحقيق الذات بالمعرفة والعلم.
أخبار العراق تقول ان شارع المتنبي في بغداد - شارع المكتبات هو الأكثر ازدهاراً وازدحاماً وحركة وحيوية، يزدحم بالكفاءات ويعجّ ليل نهار بالحوارات والنقاشات الحامية التي تبحث عن عراق جديد يساوق عراق التاريخ في انتاجيته العلمية والابداعية في مختلف الحقول. وعلى ما يمثل مجلس الحكم الانتقالي، وعلى الضعف البيّن في كثير من أعضائه، فإنه لم يشكل حتى الآن إلا صيغة الضرورة في تأسيس العراق الذي يمتلك أقوى مواد البناء الحضاري المميز وأجملها وأمتنها.
في الختام ينبغي أن يحصل توافق، أبعد من سياسي مباشر، على أن ما تحقق من حرية عراقية ملغَّمة بالنيات الأميركية، أدى الى بروز خبايا كريمة لم يعرف بها إلا القريبون جداً من مخابئها، التي دفعها اليها قسراً نظام سياسي أمني يكره الشمس والنهار، ولا يعمل إلا في الليالي التي يغيب أو يتأخر فيها القمر، لأنه نظام خفافيش مدرعة ومدربة على الفتك.
وقد نجح السفير الاخضر الابراهيمي في تنشيط حركة التواصل بين علماء السنّة والمرجعية في النجف وفي العمق، إن اشكالية الدستور الموقت تأتي من مسألة الفيتو التي يمكن أن يستفيد منها الأكراد، غير ان هناك وعياً، حتى لدى المعترضين، بأن ذلك يشكل نوعاً من الطمأنة للأكراد وإقراراً بما أنجزوه خلال الحكم الذاتي الطويل، تمهيداً للتفاهم على العيش المشترك وعلى نصاب المواطنة الجامع لكل مكونات الاجتماع العراقي... والجميع مطمئن الى أن الأكراد الذين قد يكونون ميالين الى كيانهم الخاص المنفصل في النهاية، إلا ان هناك عوائق تمنع ذلك تركيا تحديداً ومن خلفها أميركا ما يعني أن هناك فرصة لتحقيق وحدة عراقية على المدى الطويل من خلال تجربة مشتركة يغلب فيها الحوار على السجال. أما المعترضون على نصيب المرأة في الدستور 25 في المئة من الجمعية الوطنية المنتخبة لاحقاً فهم هامشيون وقد تعود العراقيون على سماع ألحان مختلفة ومضطربة في خطابهم السياسي بسبب تهميشهم المقصود والمتأتي من قناعة بعدم أهليتهم للقيادة الفعلية للشأن العراقي.
كما ان هناك أصواتاً غامضة النبرة والمصدر حول الاسلام كمصدر من مصادر التشريع أو مصدر وحيد. غير أن القوى الإسلامية الفاعلة ومعها المرجعية، لم يكن لديها وهم بإمكان تحقيق أكثر مما تحقق. وان الأكثر ربما كان مدخلاً لتقويض المسيرة الوطنية في العراق التعددي الذي يمكن أن يجمع على احترام الاسلام ولكنه لا يُجمع على دولة اسلامية، متمثلاً في ذلك بأكثر الدول العربية والاسلامية.
الى ذلك، فإن الوظيفة الأساس لهذا الدستور هي القول بأن النظام السابق انتهى وانه لم يعد هناك داعٍ للالتفات الى الوراء، بل لا بد من تركيز البصر والبصيرة على المستقبل، الذي يعتبر الدستور الموقت شروعاً فيه، لن يكون نهائياً بحال من الأحوال، ومن هنا تأكيد السيستاني على إحالته الى جمعية وطنية منتخبة لاحقاً، خصوصاً ان مقداراً من الحرية قد تحقق في العراق، يشجع على حياة ديموقراطية حقيقية، تحول الدستور والاستقلال والسيادة والنمو والنهوض الوطني الى مشروع في حالة انجاز دائم. وقد تمثلت هذه الحرية في مظاهر عدة، منها التظاهر المفتوح من دون قمع، ومنها احترام حق الاختلاف والنقد والاعتراض، ومنها هذه الحرية الإعلامية الواصلة الى حد الفوضى، مع الاطمئنان الى ان الحرية كفيلة بتصحيح مسارها بذاتها.
من بين هذه الخبايا طلع وجه السيد السيستاني الذي آثر الحضور على الظهور، والخمول على الاستعراض، وكان إذا ما ظهر، في زمن الظلم والظلام، لا يظهر إلا حيث يمسي الظهور علامة حياة واحتجاجاً على القتل والموت المجاني، ويصبح هذا الظهور واجباً شرعياً وطنياً وحضارياً، يصوب ويسدد ويرشد ويعلم، من دون أن يقصي أو يستأثر، يمارس حريته في تعزيز حرية الآخرين، وبسرعة وحيث يمسي الصمت ذهباً خالصاً، واحتياطاً للدين والعقل والوطن، يعود الى صمته الذهبي، احتياطاً لحاضر العراق ووحدته ومستقبله.
مرة أخرى، على الحداثيين، أن يعيدوا تقويمهم للتقليديين الكلاسيك على أساس النسبية، بخاصة في مثال المرجعية السيستانية الذي يرقى الى مستوى الضرورة في سياق المعاصرة المتوازنة، بعيداً عن الشكلانية التي تأكل الوطن والاجتماع والدين والمعرفة، وتعرقل مسيرة النهضة وتحولها الى اعاقة بنيوية... هذا الأمر، أعني وزن وتوازن السيستاني، هو من محصلات الوضع العراقي الجديد، الشديد المرارة والحاشد بالالتباسات، وهو يشكل مصدراً اساساً في انتاج المضادات الحيوية اللازمة للحد من الفساد والاستبداد، وأهم ضمانة لذلك هو أن يتحول المسلك الشخصي الى ظاهرة، الى قدوة، متفق على سلامتها بعيداً من الحساسيات والخلافات المذهبية أو السياسية أو الفئوية.
ويبدو أن أحد مصادر الحيوية والحكمة في سلوك السيد السيستاني هو أنه استفاد من مسافة موضوعية بينه وبين المشهد العراقي في الماضي القريب، أمكنته من أن يتعامل مع الأحداث والوقائع والمؤشرات والتحديات بعقلانية وواقعية مرجعية، محصناً من أي تهمة، من كونه لا رهط له ولا عشيرة ولا حزب ولا عصبية ولا مشروعات خاصة في السياسة والادارة العراقية، وما تبقى من عمره لا يتحمل أي مشروع خاص، بل يقتضي أن تكون له خصوصية تميزه كقائد وطني على قاعدة القيم والعلوم الاسلامية، بعيداً عن الزعامة التي تغري بتوظيف العام الوطني او القومي في المشروعات الخاصة أو الشخصية... ان السيستاني في سلوكه وادائه يرسم الفارق الطبيعي بين الدين والسياسة، بين الثقافة والسياسة، ويرسم الحيز المشترك للقائهما في النتائج، ويدعو علماء الاسلام الى التوازن الضروري والمجدي بين الديني والسياسي حفظاً للدين والعلم الديني والقيم الدينية بالسياسة الرشيدة وحفظاً للسياسة والدولة بالتدين الحيوي الذي يستمد حيويته من المعرفة الدينية والمدنية معضودة بالإيمان العميق وإملاءات التقوى.
واستطراداً لا بأس من التساؤل عن رد الفعل المتوقع من السيستاني على احتمالات الفتنة المذهبية التي لا يُستبعد الشغل عليها. اذ كان واضحاً عندما خاطب عدداً من المواقع المهمة والفاعلة والمقربة اليه بالقول "لنفترض ان مدينة شيعية تعرضت للإبادة أو انني شخصياً قتلت، فإنني أحرم أي رد فعل مذهبي تحت أي ذريعة".
وعن السيد السيستاني والأمم المتحدة فلا بد من التوقف عند خبر الرسالة المزعومة من السيد الى الأمين العام كوفي أنان والتي نفى علمه بها نهائياً. والمتابعون عن كثب يقولون بأن قوات التحالف أو الاحتلال مالت الى استخدام الولايات المتحدة بعدما كان ذلك مطلباً للمرجعية، وهذا التحول يأتي بعد إقرار الدستور الموقت ولغته التي تدل على ان العراق قادم تحت غطاء هذا الدستور على الدخول في توافقات وتعهدات وقوانين يحتاج تمريرها الى مظلة دولية تمكن السلطة الموقتة من انجازات دائمة لصالح الولايات المتحدة، في حين ان الأمم المتحدة لم تحسم الأمر الذي كان مطلوباً منها في أمور عدة خصوصاً تحديد موعد الانتخابات العامة. وهناك فارق بين ما كان يطالب به السيستاني من وجوب اعطاء الأمم المتحدة دورها وبين ما تقوله الرسالة المزعومة من انه لا يمانع في ذلك، ما يعني ان الأمم المتحدة قد تحولت عن سياقها الى نقيض.
* كاتب ورجل دين لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.