لم تلهب الانتخابات العراقية التي أجريت أول من أمس حماس البيت الأبيض والاعلام الأميركي فحسب، بل أيقظت آمال عدد كبير من المحللين في أن تُنعش أسواق المال، على اعتبار أنها تشكل بداية النهاية للاحتلال الأميركي الذي بلغت كلفته المباشرة 270 بليون دولار، وساهم في ارتفاع القيمة الاجمالية لعجز الموازنات المالية الأميركية، منذ بداية الغزو وحتى نهاية السنة المالية 2005، الى 1.217 تريليون دولار. ويرى المحللون أن الانتخابات العراقية لن تكون العامل الوحيد الذي سيحدد اتجاه حي المال في الفترة المقبلة، اذ تترقب الاسواق بشيء من الحذر الخطوة التالية التي ستتخذها لجنة سياسة السوق في مجلس الاحتياط الفيديرالي في شأن سعر الفائدة غداً، وكذلك أداء الاقتصاد الأميركي عبر تقرير سوق العمل المقرر أن تصدره وزارة العمل الجمعة المقبل، خصوصاً أن نتيجة أداء الناتج المحلي في الربع الأخير من العام الماضي 3.1 في المئة جاءت أقل من التوقعات، ما ادى الى تراجع المؤشرات في اول شهور السنة لتفقد معظم مكاسبها العام الماضي. هل يمكن أن تكون فرحة أسواق المال الأميركية بالانتخابات العراقية أكبر من فرحة العراقيين أنفسهم، أقله غالبيتهم العددية؟ بالتأكيد. هذا ما يعتقده عدد من المحللين الذين توقعوا بأن تتحرك مؤشرات الأسهم الأميركية في الفترة المقبلة بشيء من الحيوية، بعدما بدأت مرحلة التخلص من أحد أكبر همومها، والمتمثل بالنزيف البشري والمالي الذي شكله غزو العراق منذ بدايته في ربيع 2003، وانعكس في العجوزات المالية الضخمة لادارة الرئيس جورج بوش. ولا تبدو مؤشرات الأسهم الأميركية في حاجة الى الانتعاش أكثر مما هي عليه في نهاية الشهر الأول من السنة الجديدة، اذ ان غالبيتها خسرت كل المكاسب التي حققتها عام 2004، وعادت الى حيث كانت في نهاية 2003. بل ان أشهرها وأكثرها نفوذاً، وهو مؤشر "داو جونز" لأسهم النخبة من الشركات العملاقة، عجز حتى عن الاحتفاظ بالمستوى الذي بدأ به العام الماضي، وجاراه مؤشر "ناسداك" لشركات التكنولوجيا والاتصالات، وبدرجة أقل المؤشر العام لحي المال "ستاندرد أند بورز - 500" في أدائه الهزيل. ولن يكون تحقق الانتعاش المتوقع مفاجئاً، لا سيما أن المؤشرات الرئيسة الثلاثة، التي تحمل ما قيمته أكثر من 15 تريليون دولار من الأسهم الأميركية، لم تضع حداً للانهيار الذي بدأته مع انفجار فقاعة اسهم التكنولوجيا في ربيع عام 2000، ولم تشرع بتعويض الخسائر الهائلة التي لحقت بها على مدى ثلاثة أعوام متتالية الا قبل اسبوع واحد من اعلان الرئيس بوش انطلاق عملية غزو العراق في 20 آذار مارس سنة 2003. ومن المفارقة أن المؤشرات الأميركية استغلت تطورات الغزو ونجاحاته الأولية لتجني مكاسب ضخمة، عجزت عن تحقيقها منذ انفجار فقاعة التكنولوجيا. وفي الفترة من منتصف آذار الى نهاية كانون الثاني ديسمبر 2003، قفزت القيمة السوقية لأسهم مؤشر "ناسداك" بنسبة تزيد قليلاً على 50 في المئة، فيما راوحت مكاسب "داو جونز" و"ستاندرد أند بورز" بين 25 و26 في المئة، ما ترتب عليه ارتفاع اجمالي القيمة السوقية لحي المال الى أكثر من ثلاثة تريليونات من الدولارات، لتصل الى 16 تريليوناً. ومع انقلاب الأوضاع في العراق رأساً على عقب، وبدء مجلس الاحتياط الفيديرالي المصرف المركزي الأميركي بتحريك سعر الفائدة صعوداً من أقل مستوى تاريخي له، وتفاقم متاعب الدولار، عجزت المؤشرات الأميركية عن تكرار انجازها وخرجت من عام 2004 بمكاسب متواضعة، راوحت بين ستة وتسعة في المئة، اضافت معظمها بعد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية مطلع تشرين الأول نوفمبر، خصوصاً خروج بوش منتصراً على منافسه الذي أثار مخاوف حي المال بتصريحات قوية. بيد أن المكاسب المتواضعة التي حققتها المؤشرات في السنة الماضية تبخرت، أو كادت، في الشهر الأول من 2005. وبنهاية جلسة التداول قبل الأخيرة تجاوزت خسائر مؤشر أسهم التكنولوجيا ستة في المئة، واقتربت خسائر "داو جونز" من أربعة في المئة، فيما بلغ مقدار خسائر "ستاندرد أند بورز" 3.35 في المئة. وفي المحصلة كشف مؤشر "داو جونز ويلشاير 5000" أن نسبة خسائر حي المال في كانون الثاني يناير شارفت على 3.8 في المئة، اي ما يعادل نحو 600 بليون دولار من القيمة السوقية للأسهم الأميركية. وشملت خسائر الشهر الأول أسهم شركات كل القطاعات الرئيسة في الاقتصاد الأميركي، باستثناء أسهم شركات الطاقة، التي ارتفعت قيمتها السوقية بنسبة 1.65 في المئة، مستفيدة من انتعاش أسعار النفط، وكذلك أسهم شركات المواد الاستهلاكية الأساسية. وانفردت أسهم شركات الاتصالات بأكبر الخسائر 7.6 في المئة وتلتها شركات تقنية المعلومات 6.26 في المئة وبلغ متوسط خسائر أسهم شركات القطاعات الأخرى نحو 3.5 في المئة. وأثارت الخسائر مخاوف بعض المحللين المخضرمين من أن يكون أداء كانون الثاني نذير شؤم للسنة بأكملها، لا سيما أن تاريخ أسواق المال الأميركية يحفل بسوابق غير مريحة في هذا الشأن. وذهب كبير المحللين الاستراتيجيين في مؤسسة "ستاندرد أند بورز" مارك آربيتر الى حد التحذير من احتمال قوي بأن تسجل مؤشرات الأسهم المزيد من التراجع في شباط فبراير الجاري، مشيراً الى أن المؤسسات الكبرى الناشطة في أسواق المال، مثل صناديق المعاشات، تترقب أي حركة نشطة في حي المال "لاخلاء مواقعها". ولفت آربيتر في دراسة تحليلية نشرتها مؤسسته نهاية الاسبوع الماضي الى أن "مجموعة من المشاكل الجديدة - القديمة تضغط بثقلها على صدور المستثمرين، وربما تحول بين المؤشرات وتحقيق المكاسب لفترة من الوقت"، مشدداً على مخاوف المستثمرين من أسعار النفط وحرب العراق والدولار الهابط والعجزين الضخمين للحساب الجاري والموازنة المالية للولايات المتحدة. ولم يبد كبير المحللين في مؤسسة "ميريل لينش" بوب دول تفاؤلاً أكبر معتبراً الأداء الهزيل لكانون الثاني مؤشراً قوياً على أن 2005 سيكون عام "تخبط" لأسواق المال الأميركية.