"رجل الذهب" عنوان المجموعة القصصية التي صدرت حديثاً عن دار الحوار اللاذقية للكاتب حسن صقر وضمّت ثلاث عشرة قصة قصيرة، يدفعها هاجس البحث في قتامة الواقع وفجائعيته، خصوصاً ما يتفجر نتيجة اصطدام الماضي والحاضر ذلك الاصطدام الإشكالي الذي لا يجد له حلاً، والذي يُعمل حسن صقر يد الفن في استكناهه. قصة"دفن الأب"، فاتحة القصص، هي بإيجاز، قصة أبناء تأخروا في دفن أبيهم الذي"سقط... من قائمة الحياة وانتهى الأمر". ولكن هل انتهى الأمر حقاً؟ هل مات الأب فعلاً هو"الذي عاش أكثر من اللازم"، كما ورد على لسان أبنائه الذين ساقوا السرد بضمير المتكلم الجماعي؟ ولماذا تأخروا إذاً في دفن أبيهم؟ لقد أداروا ظهورهم له، تركوه يموت وحيداً على كرسيه، وراحوا يتشاجرون ويهومون في دنيا المال والعمارات والمزارع والأرصدة في المصارف. فكل ما كان من أمر موت أبيهم انه توقف عن زجرهم! وفي لحظة شجار فظيع لاقتسام الغنائم، تخرج أمهم الميتة، بغتة، من المقبرة وتوبخهم على ترك أبيهم من دون دفن! ليعودوا أدراجهم ويجدوه على الحال التي تركوه عليها، حدقوا به من خلف النوافذ و:"صعقنا عندما رأيناه لا يزال يوجه أنظاره اليه بحنق، وكأن الشرر يتطاير من عينيه الميتتين. اقتحمنا الباب، واتخذ كل موقعه في مكان مخافة أن ينقض علينا". هذه المواجهة التي أرعبت الأبناء، وهذا الموت المتحرك، هو أول خطو الأبناء في دروب الضياع والتيه. وها هم الأبناء يحملون أباهم على أكتافهم، ويسيرون باتجاه المقبرة:"كان رأسه يتدلى مترجرجاً خلف أكتافنا لشدة ما كنا عصبيين، أما ساقاه فكانتا ثابتتين". على هذه الحال يصف الأبناء الذين يجسدون الحاضر، حال الأب الذي يجسد الماضي:"الرأس يتدلى مترجرجاً". أما"ساقاه فكانتا ثابتتين"! بينما الأبناء يلهثون وهم يصعدون التل باتجاه المقبرة. هذا الصعود اللاهث للأبناء/ الحاضر، لن يلبث ان ينكفئ الى هبوط ولهاث أشد، هو الضياع والتيه، لهاث من يحملون مرغمين عبئاً كريهاً، يلتصق على رقابهم ويتدلى على أكتافهم ويثقل ظهورهم"مثل لعنة لا شفاء منها"، هم الذين كانوا يسافرون وإياه في الزمان والمكان باتجاهين متعاكسين، على رغم انهم كانوا يجلسون معاً في حيز واحد. وحين قرر الأبناء دفن أبيهم، كانوا أضاعوا الزمان والمكان. فعند وصولهم الى المقبرة، كانت مغلقة، والحارس رفض توسلاتهم لدفن أبيهم. فموعد الدفن قد فات، والمقبرة لا تغير قوانينها إذعاناً لمن لا يراعون حرمة الموت! إزاء هذه الحال الفجائعية المباغتة للأبناء/ الحاضر، الذين لم يتمكنوا من دفن أبيهم/ الماضي، سيبقى الماضي معلقاً على الرقاب، يصرخ فيهم أن يواروه الثرى، بعد أن حال الحارس بينهم وبين دفنه، كأنه الزمن الذي لا يغفل عن ارتكاب الخطأ من دون دفع الضريبة! لم يتعامل الأبناء/ الحاضر مع الأب/ الماضي كما يليق به، والماضي/ الأب، بسطوته واستبداده، لم يكف عن قمعهم ودفعهم صوب الخراب. فهم مباغتون على الدوام. باغتهم موت ابيهم في البداية، ثم باغتتهم أمهم بأمر دفنه، وباغتتهم بعد ذلك حاله حين عادوا اليه، ثم باغتتهم المقبرة المقفلة، وباغتهم في النهاية التيه والضياع اللانهائي! الا تُذهب المباغتة بالعقل، بعد ان شتته الاستبداد والقمع؟ لننظر قليلاً في حال الأب/ الماضي لحظة احتضاره، ونتأمل هذه الصورة لغطرسته وغروره: فالأب المحتضر يعاند ويكابر، يرفض مساعدة الأبناء، على رغم ضعفه وترنحه يريد أن يمشي، أن يتحرك، أن يفعل! لنتأمل:"كان ملفوفاً برداء قرمزي مخطط باللون الأخضر، وعلى رأسه قلنسوة تميل الى الزرقة الداكنة، ولم يكن في قدميه حذاء". وقد ساء الأبناء/ الحاضر أن يجدوا أباهم/ الماضي حافي القدمين! فالحاضر هنا لا يجيد القراءة، لم يأخذ أمر قدمي الماضي الحافيتين على محمل الجد والبحث والاعتراف بشجاعة أن هذا الماضي قد أفلس، على رغم ألوان الحياة الضاجة ما بين اللون الأخضر واللون القرمزي، ألوان على اللباس/ القشور الذي يلف الجسد المحتضر. لم يتبصر الحاضر أو يمعن في التفكير لإيجاد عالم بديل جديد، بدل أن يستاء ويلوم الماضي: فالأب عنيد، صعب، شديد المراس لا يأبه لمشاعرهم! لم يفعل الحاضر في تلك اللحظة الحاسمة غير التشكي ثم اللامبالاة! حاضر طائش سيدفع ثمناً غالياً، فيظل يحمل الماضي على ظهره، ويركض هائماً على وجهه، لتتجلى حال رعب أخرى عبر صورة الأب الجثة ذلك الذي كان"رأسه يتدلى مترجرجاً"، فبعد قليل، سيتحول حال الترجرج الى فعل مضارع يترجرج، الى حركة حاضرة، فالرأس: العقل: الفكر: الماضي: الميت: يتحرك/ يفعل على ظهور الغافلين التائهين، لينطرح السؤال المخيف ازاء هذه الصورة وقد انقلبت: من منهم الحي؟ ومن منهم الميت حقاً؟ وفي نهاية القصة التي لم تتجاوز الصفحات الست من القطع الوسط ، يحدد الكاتب هوية الأب والأبناء: انهم جماعة محددة بعينها، تتكلم بضمير الجماعة المتكلم نحن، إنهم: نحن! لنقرأ:"... والناس الذين لا يعرفون شيئاً عن القصة يشيرون إلينا بالأنامل ويقولون: ما أغرب هؤلاء المجانين، لماذا لا يدفنون أباهم؟". تلك الپنحن ستسرد علينا قصة أخرى بعنوان"بيت العائلة"، اشكالية اصطدام الماضي والحاضر مرة أخرى. فالأب هنا مسكون بهاجس الموت، يجر عائلته: الزوجة، الابن والابنة، باستبدادية فظيعة وسط الأدغال والأهوال كي يصل الى مدخل البيت الموجود في أعلى قمة جبل بعيد، ليموت هناك ويحظى بالأبدية! أب يقود العائلة الى الخديعة، هو أيضاً:"خدعته قوى كامنة خلف الصخور". وبعد تعب وإرهاق، تصل العائلة الى سفح الجبل، مثل عائلات اخرى كثيرة، والأقوى بينها هو الذي سيفوز ببيت الجد الأكبر في أعلى القمة وتمكث العائلة في سفح الجبل، وسط العتمة، والعراء، والبرد وعواء الذئاب القادمة. بينما لم يبق للأبناء المقموعين، المستلَبين في عالم الخديعة المفضي الى الموت سوى التطلع الى نجوم السماء ليستدلوا بها على موقع تيههم! سنجد أيضاً تيهاً آخر للحاضر، ازاء استبدادية ماض ثابت وراسخ، مثل ثبات ساقي الأب في القصة الأولى، وذلك في قصة"الجنرال". هنا أيضاً سيكون هبوط من أعلى الى أسفل، الى قبو"الفيللا"، الذي نزل اليه الاستاذ الجامعي المحاضر في الأدب الحديث/ الحاضر، وقد أنزلته سيدة البيت التي لا تزال تستجدي عراقة ارستقراطية آفلة، وبهرجة مزيفة، وإلا فلماذا تبغي أن تؤجر غرفة في قبو"الفيللا"لولا الحاجة والعوز؟ لولا الإفلاس/ إفلاس الماضي. وفي القبو، سيواجه الاستاذ الزوج/ الجنرال الذي يعيش في عتمة القبو وعتمة ماض مجيد أمضاه في حروب مستنقعات فاشلة، لا يزال يصر في حال من الجنون على استمرار مجده المزيف الماضي. وهنا أسقط في يد الزوجة التي حاولت منذ البداية لملمة جمالية صورة آفلة في بيت فخم مؤلف من ثلاثة طوابق: في القبو/ أساس المبنى يمكث الجنرال المجنون/ الماضي، وفي الطابق الأرضي نلتقي البنت الدلوعة والسخيفة التي لا يسعها الاستمرار في علاقة غرامية لأكثر من يوم واحد، لتعكس صورة حاضر مائع، غير مستقر، لا يعرف الحب. في هذا الطابق نلتقي أيضاً بشخصية الخادمة الكاريكاتورية، التي تضيف الى الصورة بلاهة وسخرية بل وتزيد فتعمل على فضح زيف الصورة وكشف سر الطابق الثالث حيث يمكث الابن الشاب المدمن الذي يعيش على الحقن! وإن كان الأستاذ المحاضر في الادب الحديث يجسد حالاً مشرقة من الوعي، بيد أنها تظل حالاً مفلسة، هي الأخرى، في واقع يعج بمرارة ساخرة قاتمة، فها هو يبحث عن استئجار غرفة، يقوده اليها السماسرة الثرثارون! فأي واقع بائس ينقب فيه الأديب حسن صقر، فيفسد علينا وهم اننا محكومون بالأمل؟! أي واقع مرير يعمل على تكريسه أمثال رجال الذهب وبعض رجال الدين من أمثال ذلك الذي كان في خدمة السيد في قصة"رجل الذهب"، هذا السيد الذي لم يتوان عن قتل رجل الدين، الذي خذله بدل أن يتوسط السماء من أجله. فرجل الذهب في ساعة أشبه بالاحتضار، ساعة ابتلعته البشاعة وفقد أي ملمح إنساني وقد بات وجهه ذئبياً، أراد أن يشتري بخمسة صناديق من الذهب وجه إنسان حقيقي، اختاره من أولئك البشر المهمشين والمظلومين، الذين رزحوا تحت وطأة ظلمه واستبداديته، ويتركنا حسن صقر في النهاية مع الصوت الإنساني وقد رفض عقد الصفقة مع البشاعة الذئبية:"- اقتلني أيها السيد، فأنا لا أطيق الذهب!". وإن كانت هذه الصرخة هي الصوت المقاوم الوحيد في القصص كلها، إلا ان شرط مقاومتها وظرفها يثيران الكثير من الشجن! قصص، ساقها الكاتب عبر رمزية آسرة، ولغة شفيفة مقتصدة ومركزة، لونتها الحوارات الغنية المقتضبة، والتأملات الفلسفية الرشيقة التي أضافت الى المضامين أبعاداً عميقة من دون أن يخلّ ذلك ببناء القصة المحكم. قصص حسن صقر شديدة الواقعية، لكنها واقعية خاصة به، قصص حلّق الكاتب، من خلالها، بالواقع على أجنحة سريالية، ليطلقها في فضاء الفن.