سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يزوره 3،1 مليون سائح كل عام وحكايته الطويلة بدأت عند نبع مياه عذبة ."شونبرون" صرح تاريخي بناه الهابسبورغ لمنافسة فرساي وتحول إلى أحد أبرز المعالم السياحية في فيينا
في القرن السادس عشر توقف الامبراطور ماتياس، أحد أباطرة عائلة هابسبورغ التي طبعت التاريخ الأوروبي على مدى 640 عاماً، أثناء مزاولته الصيد في المنطقة التي تقع اليوم في الحي 13 من فيينا. وألمّ به العطش فبحث عن مياه جارية للشرب منها إلى أن عثر على نبع مياه باردة استعذب مذاقها فقال مستحسناً: "شونن برونن". واختصرت الكلمة لاحقاً لتصبح دليلاً منذ عام 1619على المكان وإسماً يعرف به لكل من قصده: "شونبرون". المنطقة كانت مكاناً تزدحم فيه الآجام والغابات ويقصدها النبلاء للصيد، قبل أن تشتريها عائلة الهابسبورغ لتدخلها في أملاكها. وأدى غزو العثمانين وحصارهم الثاني، الفاشل والأخير، لفيينا عام 1863، إلى إلحاق دمار كبير بالمدينة بسبب المعارك الحربية. لذلك قرر الامبراطور ليوبولد الأول 1658- 1701، الذي فر إلى صعيد النمسا خلال الحصار الذي استمر شهرين، أن يتخذ فيينا عاصمة له ومقراً لاقامة الأسرة المالكة. ولهذا الغرض اختار بناء مسكن صيفي للترويح عن النفس بعيداً عن تقاليد البلاط الجامدة وروتينه القاتل ووقع اخيتاره على منطقة "شونبرون" التي ينتصب فيها إلى اليوم صرح من أبرز المعالم التاريخية في أوروبا. وكان لويس الرابع عشر الذي حكم بين 1661-1715 انتقل عام 1682 إلى قصر فرساي، الذي يعد أحد أجمل وأبهى القصور الملكية في أوروبا. وبدأ البناء في فرساي في محيط عام 1625 واستمر حتى 1708. وشكل القصر صرحاً هندسياً وفنياً من الطراز الأول، وكان يتوسط مجموعة من الحدائق المزينة والمرسومة بدقة لجعلها تتقاطع في شكل عامودي. وشجعت السابقة بقية العائلات الملكية والامبراطورية في أوروبا، التي كانت تتنافس ما بينها على حب الظهور ومظاهر الترف، على تشييد ما هو أكبر وأهم من فرساي. وكان قصر "شونبرون" وليد هذه المنافسة والسعي إلى التباهي بين البلاطات الملكية، في وقت ازدهرت براعم الفنون الباروكية والأشغال الهندسية التي غيرت تدريجاً معالم فيينا العريقة، في وقت كانت تجهد فيه العاصمة الامبراطورية للتخلص من آثار الطاعون وماتبعها من حروب ومجاعة. وكانت نية ليوبولد الأول بناء صرح ضخم يبز قصر فرساي، لا بل يتفوق عليه عظمة وجمالاً. إلا أن نقص الأموال ما لبث أن حمل الامبراطور الجبان على تعديل مخطط البناء وتغيير التصاميم لتتناسب مع الإمكانات الحقيقية لخزينته. وابتداء من عام 1690 بدأ البناء ليتواصل على مدى 70 سنة. ووضعت الملكة ماريا تريزا اللمسة الأخيرة على الصرح الضخم، بعدما أصرت على إنجازه بسبب حجم أسرتها الكبير. وكانت الأمبراطورة الولود، التي حكمت بين عامي 1740 و1780، امبراطوريتها الواسعة التي كانت تضم قرابة خمسين مليون نسمة، تمسك بيد من حديد مقاليد السلطة على رغم انشغالاتها الكثيرة، وبينها حالات حملها المتكررة التي أوصلت عائلتها إلى حجم قياسي للغاية وذريتها إلى 16 طفلا ً: 11 فتاة وخمسة صبيان مات منهم واحد في اليوم التالي لولادته، وعاش البقية في شكل طبيعي ورزقوا 44 طفلاً. وفي القرن الثامن عشر كان القصر يقع خارج أسوار فيينا، وكان الوصول إليه يستغرق ساعة ونصف الساعة للانتقال من وسط العاصمة حيث يقوم قصر "هوفبورغ" أو قصر البلاط الملكي القصر الشتوى الذي يوصف بأنه "مدينة داخل المدينة" والذي يؤوي اليوم مجموعة من المتاحف ومقرات الجمعيات بالاضافة إلى وزارة الخارجية والرئاسة الفيديرالية النمسوية ويعمل فيه أكثر من خمسة آلاف موظف، جلّهم من القطاع العام. ويزور 3،1 مليون زائر اليوم قصر "شونبرون" كل سنة، ليطلعوا على التحف الكثيرة والإنجاز الهندسي العملاق الذي شكله هذا الصرح الذي يحمل سمات تراكمت فوقه على مدى أكثر من ثلاثمئة عام وأمامه مجموعة من الحدائق الزاهية التي صممت وفق الطراز الباروكي. ويتفوق هذا القصر بضخامته على قصر آخر وسط فيينا يعتبر آية في الجمال الهندسي في أوروبا هو قصر "البلفيدير" أو المنظر الجميل. وبناه الأمير أوجين دو سافوا الذي يخلده النمسويون كأحد أبطالهم التاريخيين بعدما تصدى، على رأس عشرة آلاف من المدافعين عن فيينا، للعثمانيين عام 1683 . وطلب دو سافوا الذي يعتبر المنقذ الحقيقي للعاصمة والامبراطورية أن يكون قصره مشابهاً لقصر فرساي فأتى بناؤه، على رغم أن حجمه أصغر من "النسخة" الأصلية، روعة في الاتقان الهندسي والفني. ويبدو قصر "شونبرون" وكأنه بُني ليكون محطة رئيسة في تاريخ النمسا والتحولات البارزة التي عاشتها منذ الشروع في إنشائه قبل أكثر من ثلاثة قرون، إذ شهدت صالاته توقيع اتفاقات فاصلة غيرت وجه النمسا وارتبطت بالتغيرات اللافتة التي شهدتها أوروبا. وكان دوق النمسا 1282-1308 ابن الملك رودلف تولى عرش ألمانيا عام 1298، ما سمح للنمسا بأن تتولى للمرة الأولى عرش ألمانيا وتاجها. واستمرت الحال على ما هي عليه حتى مطلع القرن التاسع عشر، عندما انتفضت النمسا على القوات الفرنسية التي احتلتها تحدوها في هذه المحاولة الرغبة في تقليد الانتفاضة الاسبانية ضد حكم نابليون. ودارت معركة آسبرن على أبواب فيينا عام 1809 بين المحتلين الفرنسيين والمنتفضين النمسويين. وكانت هذه المواجهة جزءاً من مسلسل الحروب النابليونية الكبيرة التي دارت رحاها فوق مساحة القارة القديمة وغيرت معالمها إلى الأبد. وأدت هذه المعركة إلى هزيمة الفرنسيين. إلا أن نابليون عاد وشن هجوماً جريئاً بعد ستة أسابيع سمح له، في معركة فاغرام، بتسجيل انتصار استطاع بموجبه أن يملي على النمسا التخلي نهائياً عن التاج الامبراطوري الألماني وفقدت فيينا بذلك دورها كعاصمة ل"الامبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية". وشهد قصر "شونبرون"، على الإثر، توقيع اتفاق سمي باسمه قضى بعزل النمسا عن البحر وتخليها عن مزيد من أراضيها. وشكل هذا الاتفاق هزيمة جارحة أخرى للنمسا بعدما كانت تنازلت، بموجب اتفاق برسبورغ عام 1805، عن البندقية ودلماسيا تغطي نحو 1200 كلم من الساحل الكرواتي وسواحل مونتينغرو لصالح جمهورية إيطاليا. وكما ولدت مآسٍ سياسية بين جدرانه، ولد فيه أيضاً الكثير من الطموحات الامبراطورية داخل هذا القصرالذي ربطته منذ البداية علاقة خاصة بماريا تريزا التي كان يطلق عليها "حماة أوروبا" والتي زوجت أبناءها إلى بقية العائلات الملكية في أوروبا. وعندما مات الملك شارل السادس والد ماريا تريزا كان القصر شاهداً على مساعيها لاستعادة المجد الضائع للامبراطورية النمسوية بعدما كان والدها وضع حداً لحكم عائلة هابسبورغ في اسبانيا، عندما اضطر للعودة منها عام 1613 عقب وفاة أخيه الذي كان يحكم الامبراطورية النمسوية. ويبدو أن هذا الهاجس نفسه انتقل اليها من والدها الذي عمد إلى تغيير قوانين الخلافة السائدة من أجل السماح لإحدى ابنتيه بأن ترث التاج بعدما مات ابنه وهو رضيع في الشهر السادس من العمر. وخصصت ماريا تريزا الطابق الأعلى للأطفال الذين كان كل منهم يتمتع بقطاع كامل للإقامة مع حاشية من 15 شخصاً كانوا يقفون على العناية به. وكان هناك مكان مخصص لإقامة عائلات الخدم الخمسة عشر داخل القصر ومبانيه الملحقة. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد أدت إلى اقتحام الثوار قصر فرساي وإتلاف وسرقة وتحطيم الكنوز والتحف الفنية التي كان يحويها فإن قصر "شونبرون" لم يتعرض إلى أي ضرر ماثل، لا خلال ثورة 1848 ولا خلال الثورة التي أدت مطلع القرن الجاري إلي تنحي الامبراطور كارل الأول وتوقيعه، في "شونبرون" في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1918، وثيقة يلتزم فيها "الامتناع عن التعاطي في شؤون الدولة" ليكون القصر شاهداً على ارتقاء أسرة هابسبورغ وشاهداً أيضاً على أفول نجمها بقدر ما كان شاهداً على تفاصيل وأحداث بالغة الأهمية، كما هو الحال مع أي قصر كان محور الحياة السياسية في امبراطورية مترامية الأرجاء. وبين أبرز المعالم، التي تميز قصر "شونبرون"، اللون الأصفر الرصين الذي كانت تفضله ماريا تريزا والذي يدعى الأصفر الامبراطوري وكان لون القصر في البداية قرمزياً ورمادياً إلا أن الامبراطورة ارتأت تغييره إلى الأصفر. ومنذ ذلك التاريخ بات اللون المفضل للادارة والدور الفخمة في مدن وحاضرات الامبراطورية النمسوية. ولا يزال هذا اللون مستخدماً بكثرة في المجر وتشيخيا وسلوفاكيا وجمهوريات يوغسلافيا السابقة حيث يفضل أصحاب الدارات الفخمة طلاؤها به. والأمر نفسه ينطبق على المباني الحكومية في هذه الدول، كما استعارته دول أوروبية كثيرة، عممته في مستعمراتها حيث لا يزال قيد الاستخدام، وإن كان استخدامه في البلدان الأوروبية نفسها قد تراجع. ويضم القصر 1440 غرفة. وكان عدد الخدم فيه يصل إلى ثلاثة آلاف شخص حينما كانت الأسرة المالكة تنتقل من قصر "هوفبورغ" الشتوي خلال الفترة من نهاية نيسان ابريل وحتى نهاية أيلول سبتمبر كل عام. وكانت تواكب عملية التحول من قصر إلى قصر جهود كبيرة لنقل كل شيء من أثاث ومتاع وأشخاص وإدارات. وليس هناك حالياً أكثر من 38 غرفة مفتوحة للجمهور وللزوار الذين يرغبون في الجولة على الأقدام والتنقل في الأماكن نفسها التي عاش فيها أفراد العائلة لامبراطورية على مدى نحو قرن ونصف القرن من الزمن. وقد يبدو "شونبرون" بهندسته الباروكية وخطوطه المتسقة أشبه بمنزل ريفي إذا قورن بينه وبين قصر فرساي. إلا أن الثاني فقد كل أثاثه إبان الثورة أما "شونبرون" فالوضع فيه مختلف لأن شيئاً من الأثاث أو أرض الغرف أو الثريات الكريستالية لم يقرب إليه أحد مما سمح للقصر بالمحافظة على طابعه القديم إلى حد يخيل معه للزوار أن الباب سيفتح عليهم لتدخل ماريا تريزا التي تملأ بصماتها كامل المكان. وتحتاج الجولة بين هذه الغرف إلى أربع ساعات على الأقل للاستماع إلى شروحات المرشدين السياحيين ولإلقاء نظرة شبه عاجلة على المحتويات والتمتع بمنظر الألوان القرمزية والبيضاء والزرقاء التي يعج بها المكان بالاضافة إلى التحف، وكثير منها محطات تستحق الوقوف عندها لأن لها علاقة بشخصيات وأحداث لم نعرفها إلا من خلال كتب التاريخ، وبقيت في بالنا مجرد خواطر وأرقام مجردة تخص ماضياً غابراً لا نحيط بتفاصيله إلا لماماً. الطفلان العاشقان فرقهما الموت وبين هذه الأحداث قصة العازف الصغير ولفغانغ آماديوس موتسارت الذي عاش في فيينا وترك فيها آثاره ومعالم إبداعه. وهو شخصية مشهورة لا بد للسائح من تذكرها ومعه بقية الموسيقيين الموهوبين الذين تتحدث عنهم اللوحات التذكارية الكثيرة التي ألصقت في أماكن لا تحصى في فيينا وضواحيها عاش أو أقام فيها هؤلاء الموسيقيون أو استخدموها لغرض أو لآخر في حياتهم. وكان العازف الصغير، الذي قدم فيلم "آماديوس" الحائز على جائزة أوسكار لميلوس فورمان صورة بائسة ومغايرة عنه وعن حياته، قد دُعي عام 1762 إلى "شونبرون" ليقدم أداء ثنائياً مع أخته البكر نانيرل في حضرة الامبراطورة ماريا تريزا وعائلتها في صالة الزجاج شبيغلسال. وروى والده بعد ذلك أن العازف الصغير الذي انصرف لكتابة الأوبرا في فترة لاحقة من حياته جلس في حضن الأمبراطورة ووضع يديه حول عنقها وقبلها وهو ما كان تقديراً بالغاً من الملكة. ويقال أيضاً إن موتسارت ذهب أبعد من ذلك مع ماري أنطوانيت التي كانت تقرب من عمره البالغ آنذاك سبع سنوات، وإنه قبلها بحرارة وطلب منها حينما أقالته من عثرة عرضت له عندما كان يلعب معها أن تنتظره حتى يكبر ليتزوجها. وكما لم يكن مقدراً لهذا "الزواج" أن يتم فإن عمر موتسارت المدفون في مقبرة جماعية عام 1791 خارج فيينا والذي لا يمكن العثور على مكان دفنه الحقيقي، كان أقصر من عمر الأميرة الصغيرة التي جمعه بها لقاء وجيز وعابث يمكن للمخيلة أن تحيط بملامحه في الصالة الزجاجية حيث كانا يتقافزان. أما ماري انطوانيت، التي زوجتها والدتها الملكة ماريا تريزا إلى الملك لويس السادس عشر، فانفصل رأسها عن جسدها تحت حد المقصلة في باريس عام 1793. ويمكن رؤية لوحة تمثلها في غرفة الأطفال، وهي قطعة الأثاث الوحيدة التي أعادتها الثورة الفرنسية إلى أهلها في قصر "شونبرون". وهناك الكثير الذي يمكن رؤيته في الغرف المفتوحة للجمهور، وهي بتنوعها تعطي فكرة عن تفاصيل حياة الأباطرة الذين كانت امبراطوريتهم تتوسط أوربا، قبل أن يأفل نجمها. وبين أبرز الغرف غرفة نوم الامبراطور فرانسيس جوزيف، الذي حكم لفترة طويلة من عام 1848 إلى عام 1916، والذي كان يحب زوجته الأمبراطورة الحسناء اليزابيث تعرف باسم سيسي في شكل كبير. إلا أنها هجرته وأصيبت بعصاب نفسي حملها على الترحال المستمر بعدما نقل اليها زوجها مرضاً تناسلياً لا يمكن الشفاء منه. وتبدو غرفة الامبراطور متواضعة مقارنة بفخامة القصر. وكان فرانسيس جوزيف الذي حوى اسمه 21 لقباً ملكياً وامبراطورياً يشغل منصب قائد الجيش، وكان لذلك يعتبر نفسه جندياً في المقام الأول. واعتاد لهذا الغرض أن يبرر الطابع البسيط لغرفته بالقول: "إذا كان التقشف صالحاً لجنودي فهو إذاً صالح لي". نهاية سياحية ومذ تنحى الامبراطور كارل الأول وغادرت العائلة المالكة إلى المنفى أصبح القصر مداراً من قبل الدولة. وكما هي الحال مع كل إدارة حكومية أصيبت إدارته بالافلاس مما حمل السلطات على تكليف شركة متخصصة من القطاع الخاص لإدارته. وجرت عملية إعادة إصلاح للمداخل لصيانة المكان الذي يدار اليوم بطريقة نصف خاصة ونصف حكومية. ولجأت الشركة إلى فتح مقهى ومخزن للموسيقى ومركز للمعارض ومكان للبيع وقامت بعمليات تغيير لتقسيم بعض المواضع عند مدخل القصر من أجل إضفاء إطلالة شابة واعتماد الأنشطة المجدية سياحياً في مكان له شهرة عالمية ويستقطب عدداً ضخماً من الزوار كل عام. لكن السياحة الفنية ليست كل شيء، إذ تقدم كل صيف في شهري تموز يوليو وآب أغسطس حفلات أوبرالية، نظراً إلى أن دار الأوبرا في فيينا تقفل أبوابها خلال هذين الشهرين، وكان الحل الوحيد هو تقديم العروض في جناح المسرح المكيف في قصر "شونبرون".