يعتبر الدكتور غازي القصيبي من أكفأ الوزراء وأكثرهم خبرة وحنكة، ولهذا اختير في الحكومة السعودية، ليكون رجل المهام الصعبة التي تتطلب إنجازاً كبيراً في وقت قياسي، أو حلاً لمشكلة يصعب حلها بسهولة. فحينما عاد من لندن كانت"المياه"في انتظاره، ونعلم ما هي المياه في بلد شحيح الأمطار والأنهار وذي مناخ قاري متطرف. وعلى رغم أنه لم يُمض وقتاً طويلاً في"المياه"إلا أن جهوداً أقل من عام أثمرت عن دمج"المياه"مع"الكهرباء"في وزارة واحدة، تمهيداً لتخصيص قطاع المياه في ما بعد، ثم انتقل رجل المهمات الصعبة إلى وزارة العمل بعد فصلها عن وزارة الشؤون الاجتماعية. واستبشر كثيرون بقدومه لحل معضلة البطالة بين الشباب السعودي، التي كانت تقدر بحسب الإحصاءات الرسمية ب 9.6 في المئة، في حين أوصلها بعض الأقلام إلى نحو 30 في المئة. وكان سبب التفاؤل أن ما من بيت سعودي إلا يعاني أحد أبنائه من معضلة البطالة. هذا من جانب المواطن العادي، أما قطاع الأعمال فقد أبدى تذمره وعبس في وجه القادم الجديد، من دون أن يعلق، ربما بانتظار ما سيأتي. طلبات الاستخدام واستهل القصيبي قراراته بجعل أي طلب للاستقدام يمر عبر مكتبه، ثم تراجع تحت وطأة الضغوط في وقت قصير. وما لبث أن طالب الشركات بتعديل أوضاعها وأصدر قراراً بذلك على أن يكون التعديل خلال ثلاثة شهور، فكشّر التجار عن أنيابهم، وعادوا إلى التلويح بتفكيك أعمالهم والانتقال إلى بلدان قريبة لا تطالبهم بالسعودة، ولا يوجد فيها ما يسمى بالقرار رقم"50". فكان رد القصيبي عليهم بارداً ومتحدياً وقال بالحرف الواحد إنه"سيحتفل مع من أراد الرحيل وإغلاق مصنعه أو شركته"، فزادهم ذلك غيظاً. ولكنهم أصبحوا كالذئب الذي ينام وعينه مفتوحة ترقباً وخوفاً من أي قرار وزاري جديد. وخلال الفترة الأولى من وزارة القصيبي، كان الإنجاز الوحيد الذي حُقق، هو انخفاض معدلات الاستقدام شهراً بعد آخر من دون توظيف للسعوديين. وجاء القصيبي ضيفاً على جمعية الاقتصاد السعودي، ليتحدث عن استمرار الاستراتيجية الجديدة في مركز الملك فهد الثقافي في الرياض. وعلى رغم الكاريزما الكبيرة والحضور المهيب وسحر البيان، إلا أن"الدكتور"لم يكن مقنعاً وهو يقول إنه"حسب أن الجميع سيقدم مصلحة الوطن، وأن الجميع سيكون معه لا ضده". وأضاف أنه"فوجئ بمن يتقمص المصلحة الوطنية لدى الحديث عن مصالحه الخاصة". والحقيقة أن مثل هذا الكلام من"حكيم الإدارة"مفاجئ، ولو سُئل أي شخص بسيط لا يفقه كثيراً في الإدارة، لقال إن صراع المصالح هو من طبيعة البشر. وبعد شهرين أو ثلاثة من اللقاء المذكور حلّ الدكتور غازي ضيفاً على منتدى جدة الاقتصادي، وهوجم هجوماً عنيفاً، حتى وصفه أحدهم بال"بعبع"، وهو ما أغضب الدكتور القصيبي ورد بقوله:"إن أردتني أن أجيبك فلا تصفني بالبعبع، والألفاظ العربية واسعة"، ثم هاجمته سيدة محامية من الحضور فرد ضاحكاً:"ان من الصعوبة أن تجادل امرأة،پومن الجنون أن تجادل محامية"، وخرج وانفض الحضور من دون أن يعرف شيئاً باستثناء تعهداته المستمرة بالقضاء على"لوبي التستر على العمالة الأجنبية". وحلت ساعة الصفر لسعودة وظائف سائقي"الليموزين"في اليوم الأول من العام الجاري، وللأسف أُجلت تحت وطأة الضغوط، ومثلها وظائف مكاتب السياحة والسفر، على رغم أن القرار كان صدر بسعودة 25 مهنة من بداية هذا العام، إلا أن التطبيق كان يخالف نص القرار في كل أحواله. السعودة وهنا عدّل القصيبي بوصلته، وذهب في اتجاه آخر يقضي بإلحاق السعوديين بالعمل من دون المس مباشرة بحجم العمالة الأجنبية، فرمى بإحصاءات مؤسسة الإحصاءات العامة جانباً، وأنشأ لجاناً خاصة بوزارته لمعرفة حجم البطالة الفعلية، فجاءت الأرقام تشير إلى 180 ألفاً فقط، الأمر الذي دفع كثيراً من الكتاب والأكاديميين إلى انتقاده.إلا أن القصيبيپ تمسك بهذا الرقم، لتبدأ حملات التوظيف في مختلف المدن بناء على هذا التعداد الجديد. العمالة المنزلية ثم عاد وزير العمل لينظم حجم العمالة المنزلية من خدم وسائقين. فبدا كمن يدخل يده في"جحر الحية"هذه المرة، فالقرار الذي نص على أن يكون الحد الأدنى لراتب كفيل العاملة المنزلية هو 3500 ريال، لقي هجوماً شعبياً واسعاً وتذمراً نقلته الصحف، وكتب أحدهم يهاجم القصيبي"بالبنط العريض":"غازي الذي أحببناه في30 عاماً كرهناه في ثلاثة أيام". فرد القصيبي بالقول:"إنما تبكي على البغض النساء"، وأعلن خلال رده أنه لن ينظر إلى الحب والبغض طالما أنه يطبق أنظمة تحقق مصلحة الوطن والمواطن في النهاية. ثم انتقده كاتب آخر وأشار إلى أن القصيبي اتخذ كتاب وكيله الدكتور عبدالواحد الحميد"السعودة أو الطوفان"نبراساً يهتدي به في كل قراراته. وعلى رغم أن القصيبي أعلن قبلها في لقاء مع جمعية الاقتصاد السعودية أنه سمح لنفسه بالتصرف في الكتاب، انطلاقاً من المبدأ الوزاري القائل:"إن الوكيل وما يملك لوزيره"، إلا أنه هوجم هذه المرة بأنه يطبق وصفات كتاب الوكيل. ثم تبدلت صيغة الهجوم على الوزير ذي المواهب المتعددة والتي من أبرزها الشعر، فجاءه الهجوم هذه المرة شعراً على صفحات جريدة"الجزيرة"قبل أيام، اذ كتب الشاعر عبدالعزيز الرويس شعراً موجهاً يطالب الوزير بألا يؤذي المواطن في بيته، ويذكره بحرمة المنازل ويوجهه في اتجاه العمالة السائبة. وعلى رغم أننا ما زلنا في انتظار الرد من الوزير المخضرم والشاعر الذي لا يعجزه الحرف، فإننا ندعو الله أن يرزقه الصبر ويعينه على أداء الرسالة العظيمة التي حُمّل أمانتها، ونقول له"يا أبا سهيل أحببناك 30 عاماً، وسنحبك 30 أخرى، فأنقذ شبابنا من البطالة وبلادنا من استنزاف خيراتها".