لم يكن المرحوم غازي القصيبي مسؤولاً عادياً، بل إن الرجل كان استثناءً في كل منصب تسلمه، وكان يحدث ما يشبه «الثورة» في المكان الذي يعمل فيه. وإن كانت «الكاريزما» والحضور الطاغي لغازي هما شهادة مروره نحو المناصب، إلا أن الكفاءة والإنتاجية والنزاهة ونظافة اليد كانت الثمن الذي دفعه غازي لكل الكراسي التي جلس عليها. وأنعم به من ثمن. فلم يذكر أن غازي سعى لمصلحة شخصية من وراء المناصب التي تسنمها، أو وظف قريباً شهادته القرابة فقط، أو أعطى مشروعاً لجهة اعتماداً على معايير الصداقة والمحسوبية، بل كان شعاره النزاهة ونظافة اليد وتحقيق مصلحة العمل من دون أي اعتبارات أخرى، وهذا ما شهد به أعداء غازي قبل أصدقائه، واعترف له به مناوئوه قبل محبيه. وعلى المستوى الإداري، كان غازي رحمه الله رجلاً يعشق تحقيق الإنجازات، وكان متخذ قرار من الطراز الأول. فمما يذكره لي أحد كبار السن ممن عاصروا تولي غازي لوزارة الصناعة والكهرباء، أن كثيراً من حارات الرياض كانت موصولة بسلك كهربائي واحد يخرج من منزل إلى آخر. وكانت الكهرباء كثيراً ما تنطفئ نتيجة للتحميل الزائد، وبعد مجيء غازي بخمسة أشهر، تم حفر الكيابل ووصلت الكهرباء إلى كل بيت، وما زالت كثير من الكيابل الأرضية تعمل منذ عهد غازي إلى اليوم، ومما يذكر عنه أنه كان يرافق العمال في أعالي جبال الجنوب ومنحدراتها، حتى استبدلت ربات البيوت الطينية السرج والفوانيس بمصباح أديسون، وقلوبهن تلهج بالدعاء لغازي. وعلى رغم قصر مدته التي قضاها في وزارة الصحة، إلا أنه أول إداري سعودي يقوم بجولات فجائية متنكراً، ليرى استقبال الأطباء وعنايتهم، ومما يذكره أحد أقربائي أنه زار مستشفى شقراء متنكراً في زي رجل كبير السن رث الثياب، ولم يجد في الطوارئ طبيباً مناوباً ولا إدارياً مشرفاً، فأصدر قراراً بفصل ومعاقبة كثير من الأطباء والطاقم الإداري في المستشفى. وأما عن قراءته للمستقبل، فلعل في قصة إنشاء «سابك» ما يثبت بعد نظر الرجل وتخطيطه للزمن المقبل وعشقه للتحدي. يقول في «حياة في الإدارة»: «كل الكيانات التي عاصرتها قريبة من قلبي، ولكن سابك تحتل موقعاً خاصاً لا ينافسها فيه منافس. من ناحية بدأت سابك معي ولم تكن قبلي، ومن ناحية ثانية عاصرت ولادة سابك ثانية فثانية. كتبت المسودة الأولى لنظامها بخط يدي، وراجعت المسودة النهائية مع رئيس شعبة الخبراء الصديق الدكتور مطلب النفيسة كلمة كلمة. ومن ناحية ثالثة لم تعكس أية مؤسسة فلسفتي في الإدارة كما عكستها سابك». ويقول عن رؤيته الإدارية لسابك: «لم أرد لسابك أن تكون كياناً متضخماً مترهلاً يعج بالمئات ثم بالآلاف. كل من رأى حجم المشاريع الكبير وعدد الموظفين الصغير كان يصاب بالذهول. وكان القرار أن سابك شركة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يجب أن تتصرف كما تتصرف الشركات، ويجب أن يفكر كل من فيها كما يفكر أصحاب الشركات. لم يكن هدفي إنشاء مؤسسة حكومية تتهرب من الأنظمة مستترة باسم الشركة. كان هدفي إنشاء شركة تجارية لا توجد بينها وبين مؤسسات الحكومة أي شبه. كنت عندما أدخل مبنى سابك - وكنت أدخله مرة في الأسبوع على الأقل - أذكر نفسي بأنني لا أدخله وزيراً ولكن رئيس لمجلس إدارة شركة تجارية». والأكيد أنه لولا رؤية غازي هذه، لما كانت سابك قائدة ورائدة شركات البتروكيماويات في المنطقة، ولخسرناها كما خسرنا غيرها. وسأتجاوز مرحلة غازي السفير إلى مرحلة وزارة غازي الرابعة في وزارة العمل. فعلى رغم التحدي وصراع لوبي التأشيرات والتهديد بنقل المشاريع إلى دبي والدول المجاورة، إلا أن رد القصيبي عليهم كان بارداً ومتحدياً وقال بالحرف الواحد إنه «سيحتفل مع من أراد الرحيل وأغلق مصنعه أو شركته». والإنجاز الوحيد الذي حُقق هو انخفاض معدلات الاستقدام شهراً بعد آخر من دون توظيف للسعوديين خلال وزارة القصيبي للعمل. ومما أذكره أن غازي هوجم هجوماً عنيفاً بعد كلمته في منتدى جدة الاقتصادي، ووصفه أحدهم بال«بعبع» وهو ما أغضبه، ليرد بقوله: «إن أردتني أن أجيبك فلا تصفني بالبعبع، والألفاظ العربية واسعة»، ثم هاجمته سيدة محامية من الحضور فرد ضاحكاً: «إنه من الصعوبة أن تجادل امرأة، ومن الجنون أن تجادل محامية». وسأله أحد الشباب إن كان هناك من يقبل ان يزوج أخته سباكاً، فرد غازي إنه شخصياً يقبل أن يزوّج أخته سباكاً «بشرط يشوفها أولاً»، وضحك الجميع ودوت القاعة بالتصفيق لحضور وبديهة غازي. رحم الله غازي، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه ومحبيه العزاء والسلوان، فسيظل فصلاً ناصع البياض في صفحات كتاب التنمية السعودية، يرويه الجيل الحالي للأجيال المقبلة. اقتصادي سعودي www.rubbian.com