في ساحة النجمة، هناك، وقفنا وودّعنا جبران تويني وذرفنا دموعاً حارة مع"الاستاذ"غسان، هذا الرجل الجبّار الذي غدا قدره مأسوياً على غرار الاقدار الاغريقية، منذ ودّع زوجته ناديا وأولاده واحداً تلو الآخر، نايلة ومكرم وأخيراً جبران. غسان تويني انحنت قامته العالية أمس، خانته كبرياؤه الأليفة ولم يستطع ان يتعالى على الجرح، بل على الجروح التي لم تندمل في قلبه، ولن تندمل. غلب الأب على الصحافي والمفكر والمناضل، وسيطر الألم على العزّة، بينما كان النعش يرتفع على الأكف تتراقص به ملفوفاً بالعلم الذي طالما رفرف في عيني جبران وروحه... ودّعنا أمس جبران ومشينا وراء نعشه من الاشرفية الى ساحة الشهداء أو ساحة 14 آذار كما باتت تسمى، فالى باحة"النهار"وساحة النجمة أخيراً. هذه الساحات كانت في الآونة الاخيرة ساحات جبران، مناضلاً وخطيباً ونائباً، وقد اكتظت بجماهير لا تحصى، وفدت من كل المناطق، لا لتودّعه فقط وإنما لتهتف مع جريدة"النهار"ان جبران لم يمت. شبان وشابات على قدر كبير من الحماسة التي أوقدها جبران في نفوسهم، رجال ونسوة وأطفال، مسيحيين ومسلمين وعلمانيين، يمينيين ويساريين، جاؤوا جميعاً ليلقوا نظرة ولو من بعيد، على نعش شهيد الحرية ويواكبوه في رحلته الأخيرة. لم يتبق من دموع في العيون لكننا بكينا! في مثل هذه الساعة يستحيل عدم البكاء ولو بلا دموع او بدموع داخلية. القلب يبكي، الروح تبكي وترتفع الايدي ملوّحة بالوداع، وتعلو الهتافات من كل صوب وتتداخل، غاضبة وساخطة، أو راثية ومودّعة. أما لحظة الألم الشديد فهي اللحظة الاخيرة، عندما توجه حاملو النعش الى المثوى الأخير، هناك، حيث سيرقد جبران رقاده الأبدي، هو الذي لم يتسنَّ له ان يعيش حلمه كما ينبغي، صحافياً في مقتبل العمر ونائباً في أوج الشجاعة والجرأة. قتلوا جبران تويني، مزّقوا جسده وأحرقوه، لكنهم لم يستطيعوا ان يخمدوا صوته، فها هو صوته العالي تصدح به ألوف الحناجر، وها هي صوره تلوّح بها آلاف الأكف. ومثل"الاستاذ"غسان لن نصدّق ان جبران أصبح شهيداً، ومثله سنظل نقنع أنفسنا ان هذا الصحافي الكبير لم يسقط مثل سائر الضحايا. لن نصدّق حكاية الشهادة هذه، وإن ذرفنا الدموع وأطلقنا الحسرات حزناً وأسى. أمس، بينما كنا نودع جبران تويني، ودّعنا مرة اخرى شهداءنا الجدد، شهداء الحرّية: رفيق وباسل وسمير وجورج. ما أصعب القول إن جبران غدر بپ"جماهير"14 آذار وغادر باكراً، فهذه"الجماهير"ستفتقده كثيراً... لكنّ صوته سيظل يتردد في ساحة 14 آذار، وپ"قسمه"الوطني الذي ألقاه قرب تمثال الشهداء ستحفظه الاجيال الجديدة وتطلقه مثلما أطلقه هو، بصوت عالٍ وحماسة وقوّة.