قبل أن يبدأ غسان تويني محاضرته في «مركز الدراسات اللبنانية» – أوكسفورد – قدمه للجمهور السفير البريطاني السابق بول رايت، بكلمات معبرة اختصرت سيرة المحاضر، فقال: «أنا محتار في اختيار الصورة الحقيقية التي تنطبق على مقاييس التعريف بغسان تويني، هل هي صورة الصحافي... أم صورة السياسي... أم صورة الديبلوماسي أم صورة الأديب؟ غسان في نظري، هو كل هذه الصور وأكثر!». ومثل هذه الصور الجامعة عدداً من الصفات والمواصفات، غير قابلة للدحض إلا في حال واحدة: أي عندما يحاول غسان السياسي أو الديبلوماسي منع غسان الصحافي من ممارسة التفكير والتعبير. عندئذ تتقدم «السلطة الرابعة» لتقوض السلطات الأخرى وتطردها من «دار النهار». ولكن «السلطة الرابعة» في لبنان لم تعد تملك ذلك النفوذ القاطع الذي مارسه غسان تويني عقب وفاة والده جبران سنة 1947. يومها اضطر للرجوع إلى لبنان من الولاياتالمتحدة كي يتولي مهمة رئاسة تحرير «النهار». ومن فوق منبر الصحافة قفز غسان بسرعة إلى منبر السياسة عندما اشترك في جبهة المعارضة التي أسقطت الرئيس بشارة الخوري صيف 1952. ومع أن تلك القفزة أعانته على فتح أبواب الوزارات، إلا أن نجله جبران وظف ذلك الماضي للاقتداء بوالده وتبرير جموحه الإعلامي. وكثيراً ما كان غسان ينصحه بضرورة استخدام كوابح الحذر، لأن السجن لم يعد وحده سلاح القصاص في لبنان. عندما اغتيل جبران تويني (كانون الأول ديسمبر 2005) توقع الناس من والده إصدار صيحة انتقامية تغذي الحقد لدى آلاف المشيعين الذين اعتبروا أن لبنان لن يخرج بسهولة من عصر الظلمات. ولكن الوالد المفجوع تعالى على الكارثة، وكتب افتتاحية قصيرة جداً عبر فيها عن روح التسامح والتسامي، جاء فيها: «أنا أدعو اليوم في هذه المناسبة لا إلى الانتقام ولا إلى الحقد ولا إلى الدم. أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء، يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها: أدعو اللبنانيين – مسيحيين ومسلمين – إلى أن يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم وفي خدمة قضيته العربية. وشكراً». كانت تلك الكلمة بمثابة نقطة انطلاق جديدة لحادث مأسوي ساعد على انتشار صحيفة «النهار» لا على وأدها، كما توقع القتلة. وللمرة الرابعة يخرج غسان تويني وهو أكثر عناداً وتصميماً على مواصلة مسيرته الصحافية. في المرة الأولى فقد ابنته نايلة وهي في السابعة من عمرها. وفي المرة الثانية فقد زوجته ناديا، شقيقة الوزير مروان حمادة، التي توفيت بعد صراع مع المرض استمر ثماني سنوات. وفي المرة الثالثة توفي نجله مكرم في باريس، إثر حادث سير مروع. وقد ترك ذلك الحادث المفجع في صدر غسان جرحاً لا يندمل، على اعتبار أن «مكرم» كان يمثل له صورة مطابقة لشخصية زوجته «ناديا» بوداعتها وحضورها الآسر وثقافتها الغزيرة. كما يمثل له أيضاً الأمل الملتصق بماضيه الأكاديمي في جامعة «هارفرد» قبل أن تخطفه الصحافة ليحل في موقع والده في «النهار». وعندما اغتيل ابنه الأكبر «جبران»، شعر غسان بأن تفريغ أحزانه بواسطة الكلمة، كان الدواء الأخير لمكافحة النسيان. لذلك، وصفت كتاباته بعد تلك الفواجع المتلاحقة، باللآلئ التي تتكون داخل المحارات بسبب جروح يحدثها تسلل الرمال. ولكنها لآلئ سوداء لكثرة ما لونها الموت بالضربات والأوجاع. إضافة إلى الكتابة، اكتشف غسان تويني أن عادة النوم أثناء النهار يمكن أن تعوض له عن سهره الدائم خلال الليل. وكثيراً ما تساعده على ممارسة هذه العادة الطارئة زوجته «شادية» التي اكتشفت أن قاعات المسارح وصالات السينما في بيروت وباريس، هي أفضل غرف نوم لعيونه الأرقة. ذلك أن الليل بالنسبة إليه، ليس أكثر من فرصة لإيقاظ الموتى وبعث الذكريات ومراجعة شريط الآلام. وقد يصدم الزائر بيتَه في «بيت مري» عندما يرى سريره الصغير في حجم سرير الجندي أو الكشاف. والسبب أنه لا يستمتع بدفء الأسرّة مقدار استمتاعه بصخب الأصوات التي تنسيه أشباح موتاه. وحدث أثناء زيارته الأخيرة الرياض أن استقبله العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، مع شلة من أصدقائه الصحافيين في مكتبه بالقصر. وراح الملك يشيد بكتابات غسان ويثني على مواقفه الوطنية ويمدح جرأته. وفجأة نظر إلى جانبه ليرى ضيفه وقد أغمض عينيه. وهز الملك رأسه كأنه أدرك نوعية المعاناة التي يشعرها شخص تعرضت حياته لسباق محموم مع الموت. من بين وسائل الهروب من جحيم الذكريات المنفرة، اكتشف غسان تويني أن السيكارة تعينه على نفث دخان أحزانه. لذلك، رفض نصح الأطباء بحجة أنه لا يخاف من الموت، وأنه لن يتخلى عن السيكارة من أجل كسب عافية مصطعنة. وحدث مرة أن صدف جلوسه في مقصورة طائرة يحظر التدخين فيها. وطلب من المضيفة أن تسمح له بدخول غرفة القيادة. ولما فعلت، وضع الطيار أمام خيارين: إما أن تقوم بهبوط اضطراري لأن قلبي الخافق لن تهدأ سرعته إلا إذا عالجته بالنيكوتين... وأما أن تسمح لي بالتدخين. وانتقى قائد الطائرة الحل الثاني. كان الرئيس الياس سركيس يردد أمام النواب قوله إن في لبنان شخصيتين تشعران دائماً بأنهما أكبر من النظام، أو ان النظام لم ينصفهما، هما: كمال جنبلاط وغسان تويني. والاثنان ينتميان إلى الأقليات (درزي وأرثوذكسي)، الأمر الذي كان يزيد من حدة معارضتهما نظاماً لا يؤمن لهما مبدأ المساواة في المواطنية وشروط تحقيق الطموحات السياسية. ومن أجل ردم هوة الفوارق، ظل غسان تويني ينتقد النظام دفاعاً عن الحرية والمساواة، وإنقاذاً للمواطن من حال الإجحاف والانزواء. وقد كرس وقته منذ اغتيال نجله جبران، للمساهمة في إنتاج أكبر كمية من كتب التراث. ويعود له الفضل في إبقاء دور «السلطة الرابعة» قائماً في وقت زال دور السلطات الثلاث. يقول غسان تويني إن الموت – موت نجله جبران – منعه من التقاعد والاستمتاع بنعمة الراحة. وكان قد قرر اعتزال «مهنة البحث عن المتاعب» عقب انتهاء مهمته كسفير في الأممالمتحدة. ولكن انشغاله لمدة سنتين في رئاسة جامعة البلمند، عرقل برنامجه الخاص ووضعه مرة ثانية في لجة المتاعب. ولكن اغتيال نجله الأكبر والأخير جبران، أعاده إلى دار «النهار» ليؤسس صحافة مقاومة الأحزان، ويندفع للكتابة بالقلم الغاضب الذي استخدمه جبران في نضاله ضد مكسري أقلام الحرية! منتصف شهر تموز (يوليو) سنة 2008 زار الزميل خالد قطمة، المدير الأدبي ل «دار سعاد الصباح للنشر» منزل الأستاذ غسان، ليخبره أنه اختير رمزاً للكلمة المقاتلة في سبيل الحق والمعرفة والإنسان. وبعد تردد طويل، وافق على أن تكون سيرته عنواناً لمجلد ضخم، ساهم عدد من أصدقائه ومعارفه في رسم خطوطه العريضة. ولما انتهت عملية الطباعة، فجعت «دار سعاد الصباح» بوفاة مديرها خالد قطمة. ولما قررت صاحبة الدار إقامة حفلة تكريم للأستاذ غسان في بيروت بمناسبة توزيع النسخ مجاناً على المشاركين في الاحتفال، تبلغت أن المحتفى به نقل إلى غرفة العناية الفائقة في مستشفى الجامعة الأميركية. وكان لا بد من إلغاء حفلة التكريم... أذكر جيداً يوم زرته في «بيت مري» لتقديم واجب التعزية بنجله جبران، أنه أصرّ على الانتقال إلى المنحدر الترابي الملاصق للمنزل من الجهة الشرقية حيث مدفن ناديا. وراح يردد طلبها الأخير بضرورة نقل رفاة ابنتهما نايلة من مقبرة العائلة في «مار متر» إلى جوارها في «بيت مري». وبعد أن أخذ «مجة» عميقة من سيكارته، أقسم بأنه سيحقق أمنيتها الأخيرة. ولاحظت أن ضجيج الصمت في هذا المكان، يقلقه ويزيد من انفعاله كلما تأخر الخادم في تلبية حاجته إلى السكاير. وكانت زوجته شادية قد بررت توتر أعصابه، بالقول إن حزنه في هذا اليوم ليس له حدود، لأن أحدهم نقل إليه بعض الأشلاء التي تناثرت بعيداً من مكان وقوع جريمة اغتيال جبران. أثناء تجوالنا في أرجاء المنزل، كان غسان يقف أمام كل خشبة وكل حجر وكل لوحة ليحدثنا عن مصدرها وأهميتها: هذا الدرج الصخري المؤدي إلى غرفة الطعام، نقلناه من منزل الصديق المرحوم سليم لحود... وهذه الجذوع الخشبية الضخمة هدية من تاجر أخشاب... وتلك المكتبة التي تضم أكثر من سبعة آلاف كتاب، إضافة إلى الأيقونات والقطع الأثرية النادرة، تنازلت عنها شرط أن تتحول إلى متحف يحمل اسمي واسم ذريتي من بعدي. كان يتحدث بأسلوب مؤثر مؤكداً أن كل مقتنياته أصبحت من الذكريات، وأنه حالياً ينتظر ساعة الرحيل حيث لا ألم ولا حزن ولا خوف. ويبدو أن انتظاره طال أكثر من ست سنوات، أمضى نصفها الأخير في صومعة العزلة والتأمل. ولما أدركه الموت، كان مستعداً للدخول في ظلماته فجر يوم الجمعة 8 حزيران 2012. ألف رحمات الله على روحه، وعلى العصر الذهبي الذي اختتمه برحيله. والعزاء لحاملي رسالته الصحافية والسياسية، ولعموم أفراد أسرة «لنهار». * كاتب وصحافي لبناني