نشرت وكالة الطاقة الدولية في الأسبوع الماضي واحدة من أهم وأشمل الدراسات عن واقع حال الصناعة البترولية الشرق أوسطية وآفاقها المستقبلية حتى عام 2030. والكتاب آفاق الطاقة العالمية 2005، نظرة على الشرق الاوسط وشمال افريقيا هو جزء من سلسلة آفاق الطاقة التي تصدرها الوكالة وهدفها بث التوعية لدى الحكومات والشركات للمساعدة في اتخاذ القرار الطاقوي المناسب. وطرحت الدراسة، ضمن الكثير من الأمور التي عالجتها في الكتاب الذي يزيد عدد صفحاته على 600، التصورات حول دور الصناعة البترولية الشرق أوسطية في مستقبل الاقتصاد العالمي. وتتميز الدراسة بأمرين مهمين: الأول، هو إعدادها والانتهاء منها في وقت ارتفعت فيه أسعار النفط الخفيف إلى مستويات قياسية تعدت 70 دولاراً للبرميل. وعلى رغم هبوط الأسعار في الأيام الأخيرة، حيث انخفض سعر النفط الأميركي الخفيف عند انتهاء التعاملات مساء الجمعة إلى 57.53 دولار، إلا أن هذا السعر لا يزال مرتفعاً مقارنة بالمستويات التاريخية. وتميزت الدراسة، على رغم الأجواء الشائعة هذه الأيام حول احتمال نقص في الإمدادات، بنظرة بعيدة المدى متجاوزة في تحليلها المخاوف الآنية. والثاني، هو أن الدراسة صادرة عن وكالة الطاقة الدولية، المنظمة المسؤولة عن مصالح الدول المستهلكة للنفط. والجديد هنا هو المدى الذي ذهبت إليه الوكالة في موضوعيتها في البحث، وشموليتها في الأخذ في الاعتبار مصالح الدول المنتجة والمستهلكة. وهذا المنطلق البحثي هو جزء من التغير الهيكلي الذي طرأ على الصناعة البترولية في السنوات الأخيرة، المتمثل بالاجتماعات والندوات المشتركة للمنتجين والمستهلكين. وخير مثال على ذلك مساهمة مجموعة من خبراء الدول المنتجة في إعداد الدراسة، والمؤتمر العالمي الذي سيعقد في الرياض بداية الأسبوع المقبل والذي سيضم كبار المسؤولين عن الطاقة في الدول النفطية والصناعية. تؤكد الدراسة ما هو معروف، وهو أن الاحتياطات النفطية والغازية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"ستكون حاسمة لمواجهة الطلب العالمي المتزايد على الطاقة". وتضيف أن"الجزء الأكبر من الاحتياطي المتبقي يكمن في هذه المنطقة". وهو يكفي لمواجهة الطلب العالمي المتصاعد خلال ربع القرن المقبل وما بعده. لكن، تحذر الدراسة، أن توافر الاحتياطي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليس كافياً لطمأنة العالم إلى مستقبل الإمدادات النفطية، إذا لم يتم استثماره في الوقت المناسب والسرعة الكافية لتلبية الطلب العالمي والإقليمي المتزايد على النفط. وتذكر الدراسة بهذا الصدد أن"الغموض يبقى هو السائد سواء حول الوتيرة التي بها سيتم في المنطقة الاستثمار في صناعة إنتاج النفط وتكريره، أو حول السرعة التي بها ستتسع القدرة الإنتاجية، أو حول الكمية التي ستبقى متاحة للتصدير من الإنتاج المتوقع ازدياده، مقارنة بما هو متوقع أيضاً من ازدياد الحاجات إلى الطاقة على الصعيد المحلي". وتتوقع الدراسة أن يستمر ازدياد احتياجات العالم من الطاقة الهيدروكربونية لعقدين ونصف من الزمن، على الأقل. إذ"ستكون الاحتياجات العالمية من الطاقة سنة 2030 أكبر ب 50 في المئة مما هي عليه اليوم. وسيكون أكثر من 60 في المئة من هذه الزيادة قوامه النفط والغاز الطبيعي"، وستزداد حصة بترول الشرق الأوسط من الأسواق العالمية، شرط"أن توظف البلدان المعنية كفاية في البنية التحتية للإنتاج والنقل". والسؤال المطروح بقوة هذه الأيام، والذي هو محور الكثير من النقاش بين المنتجين والمستهلكين، هو: هل هناك نقص حقيقي في إمدادات النفط والغاز، وهل أخفقت الدول المنتجة في تلبية الطلب العالمي، أم أن النقص هو في بناء المصافي ووسائل نقل كافية للمنتجات البترولية؟ ومن يتحمل مسؤولية هذا النقص، الدول المنتجة أم المستهلكة؟ كما تتوقع الدراسة أن يرتفع إنتاج النفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 29 مليون برميل يومياً سنة 2004 إلى 33 مليون في 2010 و50 مليوناً 2030، على رغم النضوب المتوقع في الحقول العملاقة والاضطرابات السياسية في المنطقة. وهنا تقترح الدراسة فتح مجال الاستثمار أمام الشركات الأجنبية للمساهمة في زيادة الإنتاج، كما يبرز خلاف آخر بين المنتجين والمستهلكين. هل هناك حاجة للشركات الأجنبية في جميع الدول النفطية؟ وفي أي مرحلة صناعية؟ وما هي شروط التعاقد؟ وتشير الدراسة الى أنه حتى في حال قيام الدول المستهلكة بكبح ازدياد الطلب في بلادها نتيجة استمرار ارتفاع الأسعار والخوف من تفاقم المشكلات البيئوية، فإن الطلب العالمي على الطاقة سيبقى عالياً وسيرتفع الاستهلاك في عام 2030 بنسبة 37 في المئة عما هو عليه اليوم، كما ستبقى الصادرات من الشرق الأوسط على ازدياد ملحوظ. ولكن، تضيف الوكالة، أن هذا السيناريو يمكن أن يتغير في حال حصول اختراقات تكنولوجية تغني الاعتماد على النفط. وبالفعل هناك البلايين من الدولارات تصرف سنوياً لتطوير بدائل للطاقة غير معتمدة على المصادر الأحفورية. والسؤال هنا: ما هو الضمان للدول المنتجة في استثمار المزيد من الأموال لتطوير حقول جديدة تفي بالطلب في العقود المقبلة إذا كان هناك خطر حقيقي على مستقبل النفط والغاز؟ وتتوقع الدراسة، على ضوء تنبؤاتها بحجم الصادرات النفطية والغازية من الشرق الأوسط، أن يرتفع المدخول المالي لدول المنطقة نتيجة لهذه الصادرات من نحو 310 بلايين دولار في 2004 إلى 360 بليوناً في 2010 إلى 635 بليوناً في 2030. وأن دول المنطقة ستصرف حوالي تريليون دولار ألف بليون دولار على القطاع النفطي والغازي بين 2004 و2030 بقيمة دولار 2004، أو ما متوسطه 39 بليون دولار سنوياً، أي حوالى 8 في المئة من دخل 2004. والسؤال هنا هو: هل أن دول المنطقة مستعدة لصرف هذه الكمية الهائلة من الأموال على قطاع الطاقة سنوياً، ومن يضمن مستوى الصادرات؟ "انها أسئلة من الصعب الإجابة عنها بسهولة. لكن ميزة هذا الكتاب الوثائقي والتحليلي أنه يشرح بإسهاب وضع الصناعة النفطية والغازية في دول المنطقة ويساعد على إغناء الحوار الدائر حالياً من أجل الحصول على أجوبة أكثر دقة وواقعية.