الأردن تدين حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    البرلمان العربي يدين حرق كيان الاحتلال لمستشفى بقطاع غزة    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    رينارد: مباراة العراق حاسمة ومهمة للتقدم في البطولة    وزير المالية اليمني ل«عكاظ» الدعم السعودي يعزز الاستقرار المالي لبلادنا    التركي فاتح تريم يصل إلى الدوحة لبدء مهامه مع الشباب    "جلوب سوكر" .. رونالدو يحصد جائزة "الهداف التاريخي"    البيت الأبيض: المؤشرات تؤكد أن الطائرة الأذربيجانية سقطت بصاروخ روسي    القبض على أطراف مشاجرة جماعية في تبوك    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    «سلمان للإغاثة» يوزع 526 حقيبة إيوائية في أفغانستان    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مدرب اليمن يستهدف فوز أول على البحرين    الذهب يستقر وسط التوترات الجيوسياسية ويتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية    دار الملاحظة الأجتماعية بجازان تشارك في مبادرة "التنشئة التربويه بين الواقع والمأمول "    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يحاول اخراج المارد المذهبي من قمقمه ؟ . بين الكاظمية والأعظمية وبين "الثورة" والدورة ... قوى تسعى إلى فرز سكان بغداد في غيتوات طائفية
نشر في الحياة يوم 06 - 11 - 2005

يذهب الكثير من اهالي بغداد إلى ان مدينتهم العريقة تعيش اليوم اخطر مراحل تاريخها، ليس بسبب ما لحق بها من دمار، بل لأنها وللمرة الاولى تواجه تحديات تشرذم طائفي يتم تكريسه في احيائها بصورة يومية ويخشى ان يتحول ذات يوم إلى واقع يقطع اوصال مدينة يصعب على المرء ان يجد لها هوية على اسس مذهبية، مع التداخل العميق في مكوناتها الاجتماعية والدينية والطائفية.
ولكن في بغداد احياء يتجاور فيها السنة والشيعة ويعيشون منذ قرون طويلة. ووسط الفتنة الطائفية ثمة وقائع مختلفة، وحياة سائرة باتجاهات متعددة. ولعل من المفيد استعراض العلاقات البغدادية في ضوء ما يجري. ولعل استحضار المناطق التي تحتك فيها الجماعات العراقية وتتجاور وتتعايش يساهم في اعطاء فكرة عن انساق تعايش البغداديين في ظل الفتنة الكبرى التي يعيشونها.
بين الامامين...
لعل ما يتم تداوله تراثياً في تفاصيل العلاقة بين اهالي الكاظمية والاعظمية هو المؤشر الوحيد إلى تعامل مباشر مع مفردتي"السنة"وپ"الشيعة"في بغداد عموماً، لكن ما كان يدخل من باب الطرافة والمساجلات الضاحكة عن اؤلئك الزوار الشيعة الذين عبروا جسر الائمة من الاعظمية بقصد زيارة مرقد الامام موسى الكاظم مطلع الخمسينات من القرن الماضي، فمروا من امام مرقد الامام الاعظم ابو حنيفة النعمان هازجين"يتلفت حسبانة نزورة"فكان اهالي الاعظمية يجيبون بمطاردة الزائرين بالحجارة... صار يتجه لتحويله إلى واقع دموي يجري ترسيخه عبر مظاهر ذات منحى طائفي.
لكن"الاعظمية السنية"التي بنيت بالقرب من مرقد الإمام ابو حنيفة النعمان بن ثابت 80 -150ه لم تلتفت إلى هويتها تلك حتى بدأ الاعلام بمحاولة تصنيف مناطق بغداد طائفياً.
ويقول الحاج محمد سعدون الاعظمي من وجهاء المدينة ان من الغريب اضفاء سمة طائفية على الاعظمية التي تعد من بين اكثر مناطق بغداد تنوعاً، فالشيعة يتواجدون بكثافة في احياء الوزيرية والكسرة والكريعات فيما ينتشر مسيحيون واكراد في منطقة"الكم"وسط الاعظمية وحتى منطقة السفينة فهي الاخرى من المناطق المختلطة، واهالي الاعظمية دأبوا منذ عقود على عقد زواجات متبادلة مع جيرانهم من اهالي الكاظمية الشيعية حتى لا تجد اليوم بيتاً في الاعظمية يمكن ان يطلق عليه"سنّي"بالكامل.
ويضيف الحاج الاعظمي: كانت دوافع وضع الاعظمية في دائرة الضوء بعد سقوط النظام بعيدة من الاتجاه الطائفي، بل ان التصعيد الحكومي والاميركي ضد ابناء الاعظمية كان يبرر في الاشهر الاولى للاحتلال بأن الاعظمية"مدينة بعثية"دعمت النظام السابق - كما يقولون - واحتضنت رموزه بعد السقوط.
وكانت الساحة المجاورة لمرقد الامام"الاعظم"شهدت الظهور الرسمي الاخير لرئيس النظام السابق في 9 نيسان ابريل 2003 عندما حيّا جموعاً من اهالي الاعظمية قبل ان يختفي... والساحة نفسها شهدت المواجهات الفعلية الاخيرة بين القوات الاميركية والقوات النظامية العراقية ومجموعات من فدائيي صدام ومتطوعين عرب اختفوا لاحقاً وشاركوا في عمليات عسكرية على امتداد الاشهر اللاحقة.
ويروي اهالي الاعظمية عن اصول التصعيد الطائفي في تلك الايام، ويقول عبدالعزيز السامرائي من اهالي المنطقة:"ان ما حصل في الاشهر التي اعقبت الاحتلال اضطر الكثير من شباب الاعظمية للانخراط في مواجهات مسلحة"ويضيف"انطلقت منذ التاسع من نيسان ابريل حملة ضد الاعظمية من اتجاهين مختلفين الاول مثلته القوات الاميركية التي شرعت في حملات اعتقال واستفزاز واسعة النطاق استمرت شهوراً وطاولت المئات من الاهالي بتهمة دعم صدام حسين او اخفائه والثاني تمثل بعمليات اغتيال مركزة قادتها فرق قتل طافت شوارع المدينة وقتلت العشرات من الاهالي بدعوى انضمامهم إلى حزب البعث او الاجهزة الامنية".
لكن الحركة المسلحة التي انطلقت في الاعظمية كرد فعل على حال الاستهداف الجماعي استقطبت طائفياً في وقت لاحق لمصلحة مجموعات مسلحة بعضها ذو خلفيات اصولية كپ"قاعدة الجهاد"وپ"انصار السنة"بعد ان كانت حتى منتصف عام 2004 مقتصرة على انصار صدام والبعثيين وما تبقى من ميليشيا"فدائيو صدام".
ويفسر الاهالي الذين يخشون الافصاح عن اسمائهم هذه الظاهرة بتنامي الاستقطاب الاسلامي الذي اعقب اقتحام قوات اميركية وعراقية مرقد الامام ابو حنيفة وعبثهم بمحتوياته واعتقالهم عدداً من رجال الدين فيه بالتزامن مع الحملة الاميركية على الفلوجة في حينها، فصار توزيع بيانات لپ"قاعدة الجهاد"بقيادة الاردني ابو مصعب الزرقاوي او رفع شعارات الجماعة بعد اي استهداف للقوات الاميركية او العراقية او احتلال مركز للشرطة كما حدث في بداية العام الحالي امراً طبيعياً.
التطور الاخير ترافق مع حملات اغتيال استهدفت شرطة وموظفين حكوميين واعضاء مجلس بلدي ومترجمين ومتهمين بالتجسس لمصلحة القوات الاميركية نفذتها مجموعات مسلحة في المدينة اثارت بلبلة بين الناس وفسرت احياناً على انها اشبه بالتصفية الطائفية للاعظمية اعقبتها ظاهرة اغتيال عدد من السكان على يد دوريات مجهولة ترتدي زي الشرطة العراقية. وهذا ما قاد لاحقاً إلى تشكيل ميليشيات شعبية بالاتفاق مع القوات الاميركية وهذه المرة لحماية الاحياء في الاعظمية من حملات الاعتقال والقتل التي يتهم عناصر من الشرطة العراقية بتنفيذها.
"متارس ونقاط تفتيش اهلية ومسلحون لا تعرف انتماءاتهم وعوارض"كونكريتية"وجذوع اشجار رصفت في الشوارع الداخلية لعرقلة حركة السيارات"تلك هي صورة الاعظمية اليوم، يعزو الاهالي اسبابها الى استهدافهم من الشرطة ويقولون ان قوات الجيش العراقي المتمركزة على جسر الائمة ابلغتهم ان يطلقوا النار على اي موكب يسير في الاعظمية بعد الساعة الثامنة مساء.
لكن الصورة الاكثر غرابة يرويها الحاج مبدر الناصر - من وجهاء الاعظمية - فيقول:"الهدوء الذي تشهده الاعظمية أخيراً مرده الى اتفاق بين وجهائها والقوات الاميركية سمحت فيه الاخيرة بالاشتباك مع اي قوة مداهمة تدخل المدينة ولا ترافقها قوات اميركية"ويبرر الاتفاق الاخير بالقول:"القوات الاميركية قد تعتقل احد الاهالي لكننا في النهاية نعرف اين ذهب وندرك ان من الصعب ان يقوم الاميركيون بقتله بعد اعتقاله بصورة طبيعية، اما من يعتقل على يد الشرطة العراقية فأنه غالباً ما يقتل بعد تعذيبه وترمى جثته في العراء لتنهشها الكلاب فلا يستدل الى اي اشارة او علامة فيها".
محايدون..!!
الصورة الغريبة السابقة التي يمكن لمسها في الاعظمية وفي غالبية مناطق بغداد الاخرى يصفها مراقبون بالعبارة الآتية:"القوات الاميركية تحاول الانتقال من موقع المواجهة كعدو للمسلحين وللاهالي إلى موقع الحياد بين المسلحين والاجهزة الامنية وكعامل اطمئنان لدى الاهالي على ارواحهم!".
وقد تبدو تلك الصورة صادمة لمن لا يعيش في بغداد، لكنها واقعية ايضاً إلى حد بعيد ويشرحها احد قادة الجيش العراقي السابق المنخرط في العمل المسلح على هذا النحو:"تركت القوات الاميركية على غير عادة حرية التصرف للاجهزة الامنية في بغداد على رغم ادراكها ان تلك الاجهزة مخترقة من ميليشيات طائفية وعلى رغم علمها ان اجنحة ذات اجندة خارجية في الشرطة شكلت فرق قتل وتعذيب وفتحت سجوناً خاصة بها لهذا الغرض معظمها في ملاجئ منتشرة في احياء بغداد كانت في السابق تستخدم للحماية من القصف الجوي"، ويضيف:"ولاكمال الخطة، تخرج القوات الاميركية احياناً مع قوات الشرطة والمغاوير العراقية لمداهمة احياء سكنية واعتقال اشخاص يسأل عنهم اهلهم لاحقاً، فيجدون اسماءهم في سجون ابو غريب او بوكا او سواها وقد يطلق سراحهم بعد حين، لكن تلك القوات تعمد إلى ترك قوات مداهمة عراقية لاعتقال اشخاص بمفردها لا يستدل على اثر لهم وكثيراً ما تكتشف جثثهم وقد شوهت من التعذيب، حتى بدأ الاهالي يطالبون القوات الاميركية بالخروج مع قوات الشرطة". ويتابع:"تلك الاستراتيجية كانت ذكية جداً، لأنها تسمح بتقبل الجميع فكرة بقاء القوات الاميركية في العراق كعنصر حماية وحياد
دماء الضحايا
في الجهة الثانية من جسر الائمة حيث مدينة الكاظمية التي شيدت بالقرب من مرقد الامام موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر 128 - 183 ه ترتفع قباب المرقد ومنائره وترتفع معها اسئلة ما زالت محيرة بعد اكثر من عامين على استهداف زائرين شيعة بهجمات انتحارية اعقبتها عمليات مشابهة امتدت شهوراً لاحقاً بلغت اوجها باستهداف عمال بناء في الكاظمية بسيارة مفخخة اودت بحياة العشرات، سبقت مأساة جسر الائمة وسقوط المئآت من زائري المرقد إلى نهر دجلة بعد حال فزع وتدافع تشير التحقيقات الى انها نجمت عن تهديد احد الانتحاريين بتفجير حزام ناسف كان يرتديه.
ذاكرة دامية إذاً يحملها الكاظميون يخشى البعض انها انعكست على شكل مخاوف من الآخر في الجهة الشرقية للجسر، لكن تلك الصورة ايضاً تبدو غير مكتملة.
ويقول عبدالستار الكاظمي من وجهاء المدينة ان العلاقة بين طرفي دجلة"الاعظمية"وپ"الكاظمية"عريقة ومتداخلة ولا يمكن ان تزلزلها الاحداث، ويرى ان تصنيف الكاظمية بكونها مدينة شيعية فيه الكثير من التحريف ايضاً بخاصة ان مناطق واسعة في الكاظمية يسكنها السنة منذ عقود طويلة كمنطقة المحيط المحاذية للنهر وان عائلات الكاظمية المعروفة تربطها بعائلات الاعظمية صلاة قرابة ونسب".
إلا ان راياً آخر جاء من حميد الموسوي وهو رجل دين من المدينة، يقول:"دعونا لا نسمي الاشياء بغير اسمائها.. فالشيعة في العراق عموماً وفي بغداد على وجه الخصوص مستهدفون لانهم شيعة".
والاصل في اختلاف الآراء في الكاظمية حول قضية الطائفية والتخندق الطائفي ان المدينة متنوعة في اساليب تشيعها وتتكاثر فيها المدارس والاتجاهات والاراء، وتنشط جماعات تدعو الى التحالف مع السنة مثل جماعة الخالصي او جماعة الصدر، وآخرون يدعون إلى التحسب منهم وعدم فتح المدينة امامهم خشية التعرض لعمليات جديدة مثل المجلس الاعلى وحزب الدعوة، فيما تدعو منظمات ذات منحى طائفي متشدد إلى الانتقام.
ويذهب مراقبون لتطور الاحداث إلى ان تنوع الاتجاهات الفكرية في الكاظمية يجعلها بمنأى عن التخندق الطائفي، ما يقود إلى تفجير مواجهة مسلحة مقارنة بمناطق اخرى في بغداد يظهر فيها التخندق بصورته الاوضح كمدينتي الثورة"الصدر"شرق بغداد والدورة إلى الجنوب منها.
مدينة... واسماء
منذ ان اسسها الزعيم العراقي الاسبق عبدالكريم قاسم مطلع السبعينات تبدلت اسماء"مدينة الثورة"بدلالة انظمة الحكم السائدة فيها في اشارة إلى القوة البشرية الهائلة التي تكتنف احياءها المعدمة وتهدد العاصمة في اي لحظة.
فتح عبدالكريم قاسم ابواب بغداد على مصراعيها للعائلات الفقيرة في جنوب العراق وشماله للسكن بطريقة الاحياء الفقيرة على غرار التجربة الستالينية في الاتحاد السوفياتي السابق.
قطعة ارض بمساحة 144 متراً وقرض طويل الامد كانا يكفيان لبناء منزل مدينة الثورة التي تضم ما يقدر اليوم بمليون ونصف المليون من سكان بغداد، جاء غالبيتهم من محافظات العراق الجنوبية وخصوصاً الناصرية والعمارة التي هاجرت عائلات وقبائل كاملة منها باتجاه بغداد، مثلما سكنها اكراد وسنة قدموا من اربيل ودهوك والانبار وديالى لتتشكل في غضون خمسة اعوام مدينة اطلق عليها اسم"مدينة الثورة"نسبة إلى ثورة تموز يوليو 1958 على النظام الملكي في العراق. وظل الاسم مقترناً بالمدينة على رغم المحاولات اللاحقة لتغييره، فقد حاول الرئيس عبدالسلام عارف تغيير الاسم إلى"مدينة الرافدين"منتصف الستينات واطلق عليها صدام حسين اسم"مدينة صدام"اوائل الثمانينات ثم سميت بعد سقوطه"مدينة الصدر"نسبة إلى الامام محمد صادق الصدر الذي اغتاله النظام السابق ويحظى بشعبية واسعة بين الاهالي من الذين استمروا في تقليده حتى بعد وفاته في تغيير هو الاول لفلسفة التقليد الشيعية التي لا تسمح بتقليد المرجع بعد وفاته.
ويؤكد عضو الجمعية الوطنية وأحد ابناء المدينة فتاح الشيخ ان"مدينة الصدر هي مدينة مقاومة منذ تأسيسها وربما فرض الواقع الاقتصادي المتردي فيها مثل هذا الموقف، خصوصاً انها تقع في بغداد وتضم النسبة الاكبر من سكانها لكنها ما زالت تعاني الفاقة والتخلف مقارنة باحياء بغداد الاخرى".
ويضيف:"كان صدام يحاول تجنب خطر المدينة على حكمه من خلال بعض الاجراءات ومنها تسمية المدينة باسمه لكنه في الوقت نفسه فرض اجراءات اشبه بالحصار على اهاليها حتى ان بعض اهالي بغداد كان ينظر اليهم كمواطنين درجة ثانية في قلب العاصمة، ولعل الاهمال الحكومي لكل شؤون الحياة في"مدينة الصدر"واعتقال وقتل العشرات من ابنائها وقتلهم على يد النظام السابق يبرر مقدار الكراهية التي يكنها الاهالي له ولنظام حكمه".
ولا يعتقد الشيخ ان في"مدينة الثورة الصدر تخندقاً طائفياً اليوم خصوصاً ان تيار مقتدى الصدر هو الغالب فيها وهو تيار معروف باعتداله وانفتاحه على السنة في العراق".
والصورة السابقة ليست متكاملة بالطبع، فمظاهر الاصطفاف والتحزب موجودة في"الثورة"بشكل واضح، والصراعات الداخلية تجاوزت البعد الطائفي إلى صراعات بين التيارات الشيعية نفسها. كما يؤكد سليم الخفاجي من اهالي المدينة.
ويضيف:"سقوط النظام انعكس على مدينة"الثورة"بسيطرة ميليشيات جيش المهدي التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر على كل مقاليد الامور، وفرض نظام حياة متشدداً دينياً على مرافق الحياة، فهنا محاكم لما يسمى"التسفيه"وهنا اغتيالات مستمرة لبعثيين سابقين وسنة وصدامات مسلحة بين ميليشيا متناحرة وعصابات جريمة، لذلك فالصورة اكثر قتامة مما تبدو للوهلة الاولى خصوصاً في ضوء حال الاغلاق التام التي تفرضها الميليشيا بالتهديد على الناس".
لكن مثل هذا الرأي لا يمكن لأحد في مدينة"الثورة"المجاهرة به علناً ويبدو ان هنالك رأياً آخر يفند قضية انفتاح التيار الصدري على سنة العراق تدعمه اتهامات لاعضاء في هذا التيار بتنفيذ عمليات اغتيال وخوضه مواجهات مع سنة في حي الشعب إلى الشمال من المدينة، اضافة إلى احداث مدينة بعقوبة القريبة التي انفجرت فيها مواجهات قبل ايام بين انصار الصدر ومجموعات مسلحة سنية ويؤطر كل ذلك بالتحالف الانتخابي الاخير بين التيار الصدري والائتلاف الشيعي وهو ما اعتبرته اطراف سنية بينها"هيئة علماء المسلمين""مفاجئاً"ولا يصب في مصلحة الابتعاد من الاستقطاب الطائفي.
لكن تيار الصدر الذي اكسبته مدينة الثورة قوة ميدانية كبيرة بتطوع الآلاف من شبابها لتشكيل"جيش المهدي"لا يترك مثل هذا الانطباع من دون تفسير، ويؤكد على لسان قادة فيه ان التحالف الانتخابي لا يعني التخلي عن الثوابت وان العلاقات مع العرب السنة في بغداد وسواها لن تتأثر سلباً بل انه قد يقود حركة لتصحيح التخندقات الطائفية السابقة لمصلحة عراق موحد هو غاية طموح زعيم التيار السيد مقتدى الصدر الذي تربطه بالتيارات السنية السياسية والمقاتلة علاقات توصف ب"الوثيقة".
والتطمينات الاخيرة لا ترضي تماماً المتخوفين على مستقبل العاصمة من قوة شبابية متفجرة تكمن في مدينة الصدر وان كان الجميع يسعى الى استثمارها كعامل حماية لبغداد من تدهورات لاحقة.
"ارحلوا من حينا"
تلخص جملة"ارحلوا من حينا"ظاهرة يعدها البغداديون الاخطر على مدينتهم. فهي ستهيئ لعملية تطهير مذهبي يفتح المجال لمواجهات طائفية في بغداد. ويقول محمد سوادي الذي غادر مدينة الدورة جنوبي بغداد بعد تلقيه رسالة مشابهة ان"عملية تطهير طائفي شهدتها الدورة"لكن جماعات مسلحة في الدورة تؤكد ان هذا الاجراء جاء على خلفية تعرض السنة فيها إلى حملات قتل واعتقال اتهم بالتحريض عليها"شيعة".
هذا الخطاب الطائفي الصريح ينسجم مع خطوات مشابهة جرت في مناطق الشعب وحي اور شرق بغداد عندما وجهت رسائل مشابهة تهدد السنة بمغادرة المنطقة.
ويرى استاذ التاريخ الحديث د. ياسين العزاوي ان قراءة ذات منحى تاريخي لهذه الظاهرة قد تكون مفزعة إلى حد ما، لأن تتبع مسيرتها سيقود إلى دلالات واضحة تشير إلى محاولات لتهيئة الساحة البغدادية لصراع طائفي، ويضيف:"اعتقد ان ما يجري مخطط له بعمق، فمحاولة اضفاء سمة طائفية محددة على مناطق في بغداد مثل الدورة والخضراء والعامرية من الجانب السني، والكاظمية والثورة والشعب من الجانب الشيعي والعمل على ترحيل كل من ينتمي إلى طائفة اخرى منها، هو اتجاه واضح نحو خلق مقومات الصراع الطائفي المباشر بين احياء بغداد".
ويتابع:"الملاحظ ان مقومات منع الصراع الطائفي في بغداد ترتكز الى التداخل بين احيائها ما لا يترك المجال للحديث عن حرب كتلك التي جرت في لبنان مثلاً، لكن محاولة تطهير تلك المناطق طائفياً ربما تضرب تلك المقومات وتفتح باب الاحتمالات على مصراعيه".
وتسكن مدينة الدورة عائلات سنية وشيعية ومسيحية ايضاً، لكن انتقال مجموعات مسلحة اليها فتح الباب لتوتر دائم يتجسد باستمرار مواجهات مسلحة وعمليات تصفية تستثمر في العموم الطبيعة الجغرافية المفتوحة لحدودها باتجاه ضواحي بغداد الجنوبية ومنها مثلث الموت الشهير جنوب.
خريطة للقوة...
ولا يمكن بأي حال ايجاد ميزان للقوى في بغداد بسبب كل ما ذكر عن عوامل التداخل ولا يمكن ايضاً ايجاد نسب يمكن من خلالها ان تحدد هوية المدينة الطائفية، وان كان ما يجري من تصعيد على صعيد مناطقي فيها يشير إلى محاولات لاضفاء مثل هذه السمة. البعض يضع مقاييس مرتبطة بالاحداث الآنية في بغداد، فيؤكد ان تصويت اكثر من 79 في المئة لمصلحة الدستور في بغداد يعني بالضرورة ان النسبة الاكبر من سكان بغداد من الشيعة، فيما يذهب آخرون إلى عدم دقة مثل هذا القياس بسبب امتناع نسبة كبيرة من السكان عن التصويت. لكن الباحث السياسي سعيد الزامل يمنح بغداد تقسيماً جغرافياً ? سياسياً بالاستناد إلى الجهات التي تنشط فيها، باستثناء القوات الاميركية والقوى الامنية العراقية. فيرى ان ميليشيا"جيش المهدي"تنشط في مدن"الثورة"شرقاً والطوبجي غرباً وابو دشير جنوباً فيما ينشط تنظيم"قاعدة الجهاد"في الدورة جنوباً وتنظيم"الجيش الاسلامي"في العامرية والخضراء غرباً وپ"جيش محمد"في الاعظمية شمالاً وتجد ميليشيا"فيلق بدر"موطئاً لها في حي العامل والوشاش وبغداد الجديدة.
ومثل هذا التصنيف تعوزه الدقة ايضاً بسبب انتشار خلايا لكل التنظيمات السابقة في معظم احياء بغداد حتى تلك المغلقة نسبياً مثل الثورة والاعظمية والكاظمية.
المراهنة على التداخل
امام التصعيد الطائفي الذي يتجسد باشكال شتى في بغداد سواء باعتبارها مركزاً سياسياً وعاصمة للبلاد وموطن القوة الاقتصادية فيها ام بسبب تنوعها الاصيل والعريق يقف البغداديون امام اسئلة قد تبدو طريفة بعض الاحيان.
ففي حال بروز صراع على هذا المستوى، ستواجه البغداديون اسئلة صعبة. يقول محمد ناصر موظف هل يعني ذلك ان اصطدم مع زوجتي مثلاً وهي سنية وانا شيعي؟"بل ان التساؤل في بعض العائلات البغدادية يمضي إلى ابعد من ذلك. فيقول عبدالكريم الجنابي:"نحن عائلة كبيرة مكونة من تسعة اخوة اربعة منهم اختاروا ان يكونوا شيعة تأثراً بوالدتي التي تعود إلى اصول نجفية وخمسة آخرون ذهبوا مع والدي فصاروا سنة"ويتابع"نصلي احياناً مجتمعين فيسبل بعضنا يديه والبقية يضمها، فماذا نفعل؟!"
تلك الحال وسواها ليست نادرة في بغداد، بل تكاد تكون الاكثر حضوراً، وتعود اسبابها بحسب باحثين في علم الاجتماع إلى ان تركيبة بغداد يغلب عليها الطابع الحضري الذي سمح بالتداخل بين المكونات ما جعل الانتماء الطائفي في آخر سلم الاولويات حتى برز إلى السطح اخيراً على هامش شعارات صارت متداولة فقط بعد الاحتلال الاميركي للعراق ولم تكن ممنوعة بقوة السلاح وانما بقوة المنطق والعقلانية التي قدمت ولاءات الوطن على الولاء المذهبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.