"آخر المنفيين"هي على الأرجح آخر رواية عراقية صدرت قبل سقوط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان ابريل عام 2003 . المؤلف سامي جمعة، ناقد صحافي معروف في العراق، دفع بها الى الطبع في شهر شباط فبراير من العام نفسه، بعد ان ظل يعيد كتابتها اكثر من عشر سنوات. كان مفترضاً ان تصدر الرواية في 20 آذار مارس 2003، في اليوم الذي قبله تسلم المؤلف نسخه العشرين الاولى التي وزع اكثرها وفي المساء ذاته، على اصدقائه النقاد وزوجته وصديقه الشاعر الذي سيبقى مجهولاً. لحظتها لم يكن العراقيون قراء ونقاداً وكتاباً منشغلين بالادب، وهمومهم كانت تحصين بيوتهم والبحث عن ملاجئ بعيدة من بغداد. وللبعض الآخر كان الاهم عيش الايام الاخيرة من حياة بدت لجميع العراقيين انها ستكون قصيرة في قصف لا يرحم. في حينها، كان البغداديون يتحدثون، متأثرين بوكالات الانباء وتصريحات لجان السلام العالمية في اوروبا، عن قصف نووي متوقع، وذكرياتهم عن حرب الخليج قبل دزينة من السنوات كانت لا تزال قريبة. الرواية لم يقرأها احد، باستثناء زوجة الكاتب وصديق شاعر لم يشأ الكاتب ان يصرح باسمه - فهما فحصا فصول الرواية فصلاً فصلاً، وبامعان، مضيفين ومنقحين هنا وهناك بين العبارات، متربصين بكل زلة قلم ممكن ان تثير غضب الرقيب. كان ذلك سنوات كتابة الرواية بين 1993 و2002 . في فجر اليوم المفترض لصدورها انهالت على بغداد اثقال اربعين صاروخاً ثم بدأت الحرب التي صارت جزءاً من ذاكرة الانسانية اليوم. لم ينتبه احد من الاصدقاء والقراء والنقاد الى النسخ العشر التي وزعها الكاتب قبل يوم من بدء الحرب. كان عذر الجميع مقبولاً، فالكل كان في قلق ساعات ما قبل الحرب ولم تكن رواية سامي جمعة الصادرة تواً لتغير مجرى هواجسهم تلك الليلة. كانت"آخر المنفيين"الرواية الصادرة بحق في"ساعة النحس"باستعارة عنوان رواية ماركيز. بعد 19 يوماً من تاريخ صدور الرواية، وتحديداً في التاسع من نيسان، كانت المشاهد الجهنمية للعراقيين وتحطيم تمثال الديكتاتور في ساحة الفردوس، بعد اخطاء كثيرة في اعداد مسرحي اثار العالم يومها. ثم كانت ايام النهب والسلب والحرق. بغداد عاشت اسبوع رماد ودم وتكسير للتماثيل القديمة والحديثة، سيان في ذهن الدهماء، التي كانت تنتقم من تاريخها الذاتي بتحطيمه. وبين ما اتت النار عليه كان مبنى دار الحرية للطباعة، اكبر مطابع العراق. هناك كانت ترقد ألفا نسخة الاّ عشرين من رواية"آخر المنفيين"التي التهمتها النيران. حين عدت الى بغداد بعد 27 عاماً في المنفى التقيت بسامي جمعة الذي هرم كثيراً وصار عمره 63 عاماً. التقيته صدفة في مقهى - كاليري. قدمه لي احد الاصدقاء الذي عرفني وعرفته صدفة ايضاً. في جلسة تحت ظلال سعف النخيل في كاليري"حوار"في حي الوزيرية سلمني سامي جمعة نسخة من النسخ العشر التي بقيت لديه بعدما كتب عليها بعجالة اهداء حيادياً من نمط"الصديق الكاتب المبدع....". الحقيقة اننا لم نعد نعرف بعضنا منذ لحظة افتراقنا عام 1976، ولم اكن اعرف ان سامي جمعة، الصحافي الاكثر لمعاناً في سنوات السبعينات، يملك حساً روائياً وهو الذي لم يكتب غير مقالات قصيرة. ولولا النكات العراقية الصارمة لقاسم سبتي، مالك الكاليري وملكه معاً، لصار لقاؤنا الاول حديثاً في مآسٍ سمعت الكثير منها في ايام قليلة. اخذت الكتاب وتصفحته خجلاً. كانت طباعته ونوعية ورقه وبعض صفحاته غير الكاملة الطباعة، اضافة الى غلافه الاحمر والاسود، تجعل منه نصف كتاب ونصف مخطوط، من زمن آخر لم اعشه، ولكاتب هاوٍ في بلاد ليس لها تقاليد الكتاب. على كل حال لم يكن كتاباً يشجعني على قراءته، انا الذي اعتدت سنوات طويلة على رهافة الكتاب الاوروبي ورونقه، وعلى البعض من الكتب العربية الصادرة في بيروت او القاهرة او بغداد السبعينات. في تلك الجلسة روى لي سامي جمعة نصف حياته التي لا اعرفها والتي تحاول روايته ان تحكيها ب"رمزية سرية". عرفت ان الصحافي اللامع تحول بعد مغادرتي العراق وتحت تهديدات كثيرة الى محرر مقالات في القيم الفنية للوحات الطاغية وجدارياته ولوحات الحرب والتحدي. اللوحات والتماثيل التي كان يرسمها وينحتها فنانون اكثرهم كان مجبراً على ذلك، كما قالوا لي."كنت اكتب وأشتم نفسي وقدري بصوت عال فتسمعني زوجتي. احياناً كانت ابنتي تستيقظ من نومها، كم هي جميلة ورقيقة لو تراها؟ بعد ان تسمع صرخات احتجاجي التي لم تكن تفهمها كانت تعتقد انني اصرخ على امها فترجوني ان اتوقف عن ذلك. كانت تتوسل وأنا ازداد غضباً. هستيريا حقيقية ولسنوات. لم اعتد على وضعي هذا شأن آخرين اعتادوا ونالوا هدايا سيحارون بها ذات يوم". قال لي هذا وصدقته لحظتها، فلم يكن لي الا ان اصدق وانا احدق فيه بعد هذه السنوات. اليوم ايضاً ما زلت اصدقه حتى لو كان يمثل ذلك امامي، فقد كان اكثر الممثلين صدقاً، وذلك يكفي بعد ان عرفت العراق اكثر في زيارات اخرى. قال لي ايضاً:"لم اكن قادراً على الاحتجاج امام احد آخر غير زوجتي التي اعرفها قبل ان يعرف العراقيون صدام. كان علي ان اكتب، وبأوامر من رجال يعتبرون التردد خيانة، مقالات عن جمالية الحرب على الجبهة الايرانية وطوال 8 سنوات. احياناً كان لساني يخرج اصواتاً ورذاذاً كأنني اجيب نفسي عما اكتب من هراء، لا يمكن ان تحتقر نصوصك اكثر من هذا. كيف تستطيع كتابة أمر حقيقي بعد ذلك؟ ربما تستطيع ان تكتب وصية، وعدا ذلك هراء!". كان مظهر سامي جمعة الذي عرفته في شبابي، قبل اكثر من ثلاثين عاماً، قد تغير كثيراً. فهو شيخ غير انيق، تساقط شعر رأسه من دون انتظام، مصاب بربو من نوع خاص يسمى سباسموفيليا، وينسى حاجياته اينما جلس. لم يعد ذلك البرجوازي الصغير، اليساري، الذي كان يفتخر بأنه من اب مسلم وأم صابئية. كان ابوه من شيوعيي"العهد القديم"ومن الذين اسسوا الحزب الشيوعي العراقي في اواسط الثلاثينات. اما امه فكانت كذلك شيوعية معروفة، دخلت السجن اكثر من مرة في السنوات البعيدة الآن، حينما كان ترف السجناء توسيع مكتبات السجن. رأيت سامي جمعة مرات اخرى بعد تلك الظهيرة في بغداد. موضوع صداقتنا الجديدة صار روايته. كنا نتعرف إلى بعضنا بعضاً عبر رواية"آخر المنفيين"التي لم اكن قد قرأتها بعد. حاول مرة ان يسرد لي فيها قصة روايته، فاعترضت. وعدته ان اقرأها بهدوء حينما اعود الى ريف فرنسا، هناك استطيع القراءة والتفكير. في نهاية صباح من شهر حزيران يونيو التقيته في جريدة"رقعة الشطرنج"الاسبوعية التي يعمل في تحريرها. دعاني الى الغداء كي يقص لي بقية من قصة لن تنتهي. قال لي على المائدة:"لا بد من ان تقرأ روايتي يوماً. انها رواية للمستقبل اشبه بوصية. بعد كل ما حدث وبعد كارثة حرب الخليج والعطالة عن العمل والفقر الذي نزل ضيفاً دائماً في بيوتنا، ادمنت السهر. عشر سنوات من الارق خلفت فيّ هذا الربو الغريب وهذه الرواية. كتبتها وصية للأصدقاء الذين سيعودون يوماً من المنافي. كنت اخشى ان اموت ويجد الاصدقاء تلك المقالات الرديئة التي حررتها خلال الحرب كإرث وحيد. الرواية هي قصتي التي كنت اتوقع ان يكتشفها الاصدقاء سنوات بعد موتي. أميركا غيرت خططي كلها! جاؤوا في الوقت غير المناسب لهذه الرواية. انت اول من جاء بعد ذلك بعد ان كنت اول من غادر". حين تركنا المطعم اكتشف سامي انه نسي هاتفه النقال هناك. عاد ليسترجعه فلم يجد احداً في المطعم الذي فرغ من زبائنه القليلين فجأة. ودعته على الرصيف ليس بعيداً من نهر دجلة الذي ضاق مجراه كثيراً في صيف ذلك العام 2003. في فرنسا، قرأت"آخر المنفيين"، بعد ان اخفيت غلافها القبيح بغلاف لكتاب آخر، كما في المخطوطة التي يجدها الراوي في رواية سامي جمعة. تبدأ"آخر المنفيين"بهذه الفقرة:"مع طلوع الشمس بدأ فريق التنقيب العمل. تقدم بلدوزر احمر وبدأ في شق خندق بعمق متر وصولاً الى اسس القصر العباسي الجاثم في الصحراء منذ قرون. كان ضابط امن البعثة من اعطى الاشارة. مع انتصاف النهار وصلت شاحنة عسكرية ونزل منها جنود جمعوا الآجر المتساقط وحمّلوا به الشاحنة التي انطلقت مخلفة وراءها غباراً متعرجاً يرسم طريقها...". الرواية تسرد قصة بعثة آثار عراقية تنقب في اطلال قصر عباسي وسط الصحراء بحثاً عن كنز اخفاه محيي الدين زنكي الذي حارب الصليبيين، عند اسس القصر الذي كان في يوم ما قلعة تموين. وبدل الكنز، يجد ثلاثة من المنقبين، وبالصدفة، مخطوطة مخفية بعناية ومجلدة بجلاد آخر يخفي عنوانها الحقيقي، في شق جدار. يخفي الثلاثة الامر عن ضابط امن البعثة ويحاولون قراءة المخطوطة في شكل سري في ليال كثيرة. المخطوطة هي كتاب معروف لكاتب عاش في بغداد في العصر العباسي المتأخر اسمه جعفر بن ضرار ابن السكنجبيلي وعنوانها الحقيقي"انفاس الزعفران"الذي يحكي احوال اهل بغداد في ذلك العصر. لكن محتوى المخطوطة يختلف عن الكتاب المعروف والمنشور منذ اكثر من قرن في مطابع بولاق في مصر وأعيد طبعه في بغداد مراراً. اذ ان المخطوطة التي يعثر عليها المنقبون الثلاثة تحكي يوميات رعب كاتب من ذلك الزمان وتتناول اساليب البطش والتعذيب التي مارسها الخلفاء والولاة على اهل العلم. عبارة"النطع رف الكتاب"تفتتح فصول الكتاب ال13 . ويبدو ان الكاتب او الناسخ اضاف عبارات خارج المتن يتوجه بها الى قارئ قادم في المستقبل وعذره"ان الكتاب صالح لكل مكان وزمان بينما اللسان لا يصل الا لسامعه"او"تتغير الحروف والكلمات في عصركم لكن المعاني ما نريد ان تفهموها بعد ان نزعتم العمائم وتركتم ركوب الخيل". وفي ختام المخطوطة يتوجه المؤلف الى من سيعثر يوماً على مخطوطة"ما اسعدنا لو اكتشفتم هذا الكتاب وأعرتموه الى صديق وتشاورتم معه بشأن ما في هذا الكتاب من غرائب وعجائب". تتحول المخطوطة بعد قراءتها الى هاجس بين الثلاثة. فلا احد بينهم يجرؤ على تفسير اقوال الكاتب القرسطوي بوضوح. الراوي يحاول ان يفهمهم ان الامر ينطبق على احوالهم اليوم، لكن الاثنين بين الثلاثة يخشون الورطة. يصبح الكتاب سر الثلاثة وورطتهم. فهم لا يستطيعون ابلاغ ضابط امن البعثة الأثرية باكتشافه بعد ان قرأوه، ولا يجرؤ احد منهم على نقله الى بيته في بغداد. بسبب الخوف من اكتشاف بقية اعضاء البعثة للمخطوطة تتوتر العلاقات بين الثلاثة وتبقى المخطوطة في خيمة الراوي حتى انتهاء التنقيبات التي لا تثمر الا عن تهديم المزيد من القصر وجمع آجره في شاحنات عسكرية تنقله الى مكان يجهله الراوي نفسه. في اليوم قبل الاخير من انتهاء اعمال بعثة التنقيب يعيد الراوي المخطوطة الى مكانها في شق الجدار، خلال وقت تناول الغداء. وحينما يخبر صديقه بذلك ينقطع حبل الصمت بينهم. في اليوم التالي ترفع الخيام ويعود الجميع الى بغداد وقد تحرروا من خوف كاد ان يقضي عليهم. تنتهي الرواية بالموت، شأن كل روايات هذا النوع، وبالمرض والعزلة للراوي الذي يعترف بأسف انه اخفى المخطوطة لأنه أيقن انها وصلت اليهم متأخرة الف عام. حين انهيت قراءة الرواية، ادركت الجهد الضائع لصديقي سامي جمعة، الذي اعاد كتابة الرواية عشر مرات في عشر سنين كي يتجنب الموت. ادركت ايضاً الجهد الضائع لزوجته وصديقه الشاعر المجهول في عملهما الرقابي خلال كتابة الرواية. فالرواية وصلت اخيراً ومخطوطتها المخفية ظهرت للعلن، الف عام ربما قبل ما افترضه الراوي في الصفحة الاخيرة، لقارئ واحد على الاقل. وكقارئ ساذج وفق حكاية برنارد شو سأفقد النسخة الوحيدة بين يدي لأنني سأعيرها لأصدقاء كثرٍ ليعرفوا كيف كان السيف مصلتاً على رؤوس الكتاب في العراق لأكثر من ربع قرن.