يقولون إن ارتفاع حدة النزعة العنصرية مرجعها اتجاه البعض للبحث عن ملاجئ جديدة، عن أوطان جديدة، وبناء عليه ترى الفرد يتقوقع وراء القبيلة تارة، وتارة أخرى يتخذ من العقيدة ملاذاً داخل وطن كبير لم يحقق له الأمان والاحترام. هل أتخذ من قبيلتي وطناً بديلاً عن الوطن الكبير؟ كثيراً ما وجهت لي عبارات سطحية لكنها عميقة المدلول، نلتها كغيري من الكتّاب، نحن الذين تمادينا بوصف الحرية. قالوا «هي ليست سعودية الأصل»، ولم أفكر يوماً بالرد، فمجرد الرد يعني أن العنصرية تتملكني، وتتملكني فكرة ساذجة ملخصها أن القبيلة سيكون لها دورها الرسمي مستقبلاً، لكني الآن أفكر وأتخيل... تعود جذوري لقبيلة عريقة، فهل يمكن لجذور أجدادي تعويضي عن هذا الوطن الكبير؟ بصوت عالٍ أقول: مستحيل أن تفعل. ولا أريد لها هذا الدور السياسي المهم. يحكي المحللون كثيراً عن انتماءات تتنازعنا... انتماءات قبلية وأخرى عقائدية تجذبنا لنتخذ منها درعاً يقينا خطر المجهول، لكننا لا نحكي كثيراً عن الانتماء للوطن. تلك تنشئتنا. تأسسنا رسمياً على توجيه الانتماء للعقيدة أولاً، أما ثانياً فتخضعك التقاليد على الانتماء لجهات عدة، للقبيلة وللمنطقة وللطائفة والمذهب والعائلة... إلخ. الانتماءات المتعددة داخل الأرض الواحدة تخيفنا بالتأكيد، وبسببها نخشى من أي حراك سياسي كي لا يتزعزع هذا الركود الهادئ الصارخ. هذا سؤالي أوجهه للحكومة وللشعب في عيد وطني السعيد... هل أنتم سعداء بهذه النتيجة؟ هل هذا ما أراده الموحد الأول الملك عبدالعزيز آل سعود، أن تتوحد القبائل والمناطق سياسيا فقط؟ كيف تتحقق الوحدة من دون الروح والوحدة؟ وأنتقل لسؤالي الأهم: متى نتوقف عن المطالبة الرسمية بمفهوم الانتماء لشيء على حساب شيء؟ رافضين بسذاجة مبرحة وجهل تاريخي وحضاري استيعاب وتقبل مفهوم المواطنة والوطنية؟ بعد دروس دينية طويلة في المدرسة لا تزال ترن بأذني هذه العبارات... من يقول بالقومية مستغرب... بعد سنوات وسنوات من اتهام مصطلح «الوطنية» بالتغريب، ما الوطن؟ ومن المواطن؟ وكيف شكل وطني؟ هناك أطياف داخل الوطن متهمة بولائها لدول إسلامية أخرى. متى نتوقف عن المطالبة بمفهوم الانتماء لشيء على حساب تغييب مفهوم الوطنية؟ حسبما أفهم، ذلك يعني أن أي مواطن ينتمي لفكر مذهبي خارج حدود السعودية فإن انتماءه يجب أن يسير باتجاه المنطقة التي ينتمي إليها أو يقطنها شيخ المذهب المقصود. إن كانت تلك مبالغة فاشرحوا لي حدود وطني، إن كان وطني مجرد إيديولوجيا فما المكان الذي أقف عند حدوده لأدافع عنه بكل شراسة وجبروت؟ نتيجة ذلك التلقين القاصر أننا في المكان الوحيد الذي لا قيمة فعلية كبيرة داخل نفوس أفراده لكلمة وطن، اسأل أي طالب مدرسة: ما وطنك؟ لن يجيبك. اسأل نفسك: ما وطني؟ وسجل إجابتك وأرجوك أرسلها لي. هل وطنك مجموعة حقوق وبيانات تطالب بها حكومتك كل عام؟ هل تخلط بين الوطن ومفهوم النظام؟ هل الوطن مجموعة واجبات؟ فواتير، تسديد قروض، أسرة، امتحانات دراسية، وظيفة رسمية. هل تربطك علاقة حب بوطنك؟ أم علاقة مصالح؟ مررنا بأزمات عدة، كان وطناً صلباً لم يترنح أو يهتز، فهل بلغنا نضجاً كافياً لأن نعيد صياغة مفهومه في قلوبنا قبل أذهاننا؟ ماذا لو نصنع لأجله أسهل المعجزات. لو يطغى حبه الكبير على أجزائنا الصغيرة وعلى مناطقنا وعقائدنا. نعلم أن منابر عدة تحكي عن الدين، وقنوات كثيرة تبسط الأشعار. ماذا لو نصنع منابر تهتف للوطن. لو نرفع العلم كل صباح بكل ساحة مدرسية. ماذا لو نتغنى بأناشيده بالمدارس والجامعات. أم أن لحن الوطنية محرم أيضاً؟ وماذا لو نتمرن يومياً على دروس الذود عن الوطن؟ نجتمع كل عام وطني، وأنا أطرح الأسئلة. ويجيب. نتخاصم حد البكاء. كلانا لا يجد ملاذاً عند الآخر لأفكاره وأسئلته. ولا أكتب في اليوم الوطني، ولم يحدث أن كتبت. كل مقال كتبته عن الأوطان كان بحثاً عن وطن جديد، رجل كان أو أرض. وطن يحتويني. يستوعب جنوني وكل شيء، تماماً كالبحث عن الرجل الحلم. كنت أسافر كثيراً وأتعرف على كثيرين وأقول لنفسي: الأرض كلها وطني. كتبت مرة: «ما زلت أفكر بمفهوم الوطن. أقف عند الحدود متمردة على عطائي اللامحدود... أتمرد مع علمي بأني لن أحصد شيئاً منه لسبب بسيط، أنه لم يكن أبداً هناك لأجلي. أو أنه غير موجود. كيف أحاكم متهماً غير موجود؟»، وكتبت مرة «إذا صادفنا في حياتنا أرضاً غير الأرض التي فرضها علينا الجد الأكبر، لا نرتبط معها بتاريخ أو لغة أو عرق أو أي قومية، لكنها فتحت لنا أذرعها ومدت لنا كل العون، وهبنا أناسها الكثير ومازالوا يعطوننا الأكثر. ارتباطنا بهم روحياً حقيقياً لا قومياً خيالياً. فما اسم هذا المكان الجديد؟ هل نملك الشجاعة للاعتراف بأننا أخيراً وجدنا وطن روحنا ونصفنا الآخر؟ منحى العلاقة بين أي فرد عربي ووطنه يسير باتجاه واحد. حب من طرف واحد. أخذ من دون عطاء. إلى أن وجدتني ذات مرة أكتب على صفحتي في «فيسبوك» الآتي: ابتعدت كثيراً، اقتربت قليلاً... جئت أشتم رائحتك، أجهل ما يشدني لخليط عطرك، لكني لا أجد له شبيهاً. ذرات البحر مخلوطة بالرمل بطلع النخل، بجلودنا التي تنافرت طويلاً. هذا ما بقي بيننا. مجرد رذاذ. كيف تجرأ القدر على جمعنا؟ ابتعد أكثر. أكاد أنفصل. أتذكر تعبي ونظرتك الساخرة. كلما ابتعدت كثيراً، اقتربت قليلاً. جئت أشتم رائحتك. وأتوعد أن أكتب عنك وعن حزني كثيراً. ولا أكتب. فأنا كلما فكرت أن أفعلها أرسم التوقيع الآتي: أحبك... أحبك كثيراً! وحين تعلن غضبك وتثور على أحدهم. عادل كنت أم ظالم. سأموت لأجلك ليس مثلك أحد يتحمل غيبتي وعودتي. يا وطن. علاقتنا ليس لها اسم. كيف أسميها؟ سمعت مرة من يقول «وطني أضعه في حقيبة وأتنقل معه بالأصقاع» لا يعحبني هذا الوهم. «فوطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرة». اليوم وجدت ضالتي واقتربت منها... صرت أعرف ملامح ذاك الوطن الذي بحثت عنه طويلاً، تلك الكثبان الرملية الممتدة عبر صحراء الجزيرة العربية. أقول لمن لا يعرف شكل تلك الصحراء المهيبة: حين تشرق الشمس على رمل بلادي ستتوهم لبرهة أنها تركت أهل الأرض جميعاً وجاءت لتسكن هنا. وطني تسكنه جبال شاهقة لم تمل من سكونها في حضنه، على رغم قسوته وحرارته، وطني حيث سيوف أهالي الصحراء تغني في السماء لحناً رومانسياً عنيفاً. وجميلات وطني يضاهين أشهر ملكات الجمال... ومفكروه وشعراؤه سيرغمونك على التوقف لسنوات عند وحيهم وقداسة إبداعهم. وتلك التقاليد التي أبغض بعضها وأحب بعضها، ورائحة البحر قرب بيتي في جدة. ومشكلات الوطن التي لا تنتهي. وصراع التيارات. والعائلة والشارع أول حلم تشكل في مخيلتي كان هناك. وأول مرة فكرت أن أنشر كلماتي كانت داخل ذاك الوطن ولأجله. لا شيء مثل هناك ولا شيء أقسى من أن تحتفل بعيده وتكتب عنه وأنت بعيد. كل الأفراح والأخطاء... وكل التطرف والتحرر والاعتدال. حتى انتقاص الحقوق. حتى فقدان الحريات. حتى التشجيع وكل نقد لكتابات قصدت منها التحرير. كل ذلك أخيراً وجدته. بمره وحلوه... بعدله وظلمه... أحبه. * إعلامية سعودية. [email protected]