استلمت كوندوليزا رايس عملها وزيرة لخارجية الولاياتالمتحدة الأميركية وفي نيتها، كما أعلنت، زيادة الاعتماد على الديبلوماسية في تحقيق أهداف الولاياتالمتحدة، ومنحها الأولوية على ما عداها من أدوات العمل الدولي الأميركي وخصوصاً الأدوات العسكرية والاستخباراتية. وقد اجتمعت اعتبارات، لا تجتمع عادة، لتجعل من اختيار السيدة رايس وزيرة للخارجية عملاً كثير التداعيات. أول هذه الاعتبارات أن الرئيس الحالي للجمهورية شديد الاختلاف عن جميع من سبقوه في عدد من السمات الشخصية والأيديولوجية والقيادية، وثانيها أن المرحلة التي تمر بها الولاياتالمتحدة داخلياً وخارجياً ثورية بكل المعاني، وثالثها أننا أمام شخصية بمواصفات غير مألوفة وبعلاقات فوق العادية بالنسبة لامرأة من أصول أفروأميركية. أما العنصر الأول الذي يتعلق برئيس الدولة فقد تثبت الأيام المقبلة أنه الأهم بين كل العناصر. فالرجل الذي اختار كوندوليزا لتكون وزيرة للخارجية، وضع لها أهدافاً، يقول عنها محللون أميركيون أنها أهداف تقع في مكان ما بين أقصى أنواع الطموح وأحد أنواع الجنون. وأينما كان موقعها فهي إن لم تكن مستحيلة التنفيذ فستظل بالغة الصعوبة وباهظة التكلفة الديبلوماسية. فقد أعلن الرئيس في خطابه الذي ألقاه يوم تجديد عهده في ولاية ثانية، أنه مكلف بنشر الحرية والديموقراطية في أرجاء العالم. لم يؤكد بوش أنها لخير البشر عامة بقدر ما أكد أنها لخير أميركا أولاً لأن الطغيان"يهدد الأمن القومي الأميركي". وبالتالي تصبح الحرب الاستباقية ضد أي طغيان قائم أو قادم مشروعة أميركياً وأخلاقياً ودينياً. وقد اضطر بوش الأب إلى التدخل بعد أسبوع لينفي أن نجله بهذا التصريح ينوي أن تكون الأولوية للعمل العسكري أو أن تتحول أميركا إلى مجتمع متعسكر. ليس صحيحاً تماماً أن استخدام بوش للدين بدعة. هكذا استخدمه ريغان ثم بوش الأب، ولكن الجديد عند بوش الابن إلحاحه إنه ناقل لرسالة إلهية أتته لشخصه وليس لأميركا. على ضوء هذا التوجه لن تكون مهمة رايس سهلة. فالرئيس أعلن أنه سينشر - ولو بالقوة إن احتاج الأمر - رسالة ذات صبغة دينية وسيعبئ إمكانات أميركا لذلك. وجاءت مؤشرات القلق سريعة، فقد نهض زعماء تيارات دينية في الولاياتالمتحدة يحتجون على هذا التوجه من الرئيس"الذي يبشر برسالة طائفية وليست دينية". أما وأن رد الفعل في أميركا جاء على هذا النحو يصبح متوقعاً أن يأتي رد فعل مماثل أو أشد من جانب ممثلي عشرات الأديان التي يعتنقها بلايين البشر في كافة أنحاء العالم. وأمام السيدة رايس عقبة أخرى. فالرئيس رغم فوزه في الانتخابات، لا يزال الرئيس الأميركي الأقل شعبية في الولاياتالمتحدة على امتداد سبعين عاماً. وهذه عقبة، فبعض قوة الديبلوماسية مستمد من صدقية الرئيس وشعبيته في الداخل. العقبة الأكبر، على كل حال، هي حين يكون رئيس الدولة سبباً في تقهقر شعبية أميركا، ولا أقول سبباً وحيداً للكراهية المتفاقمة في الخارج. أما وشعبية أميركا متدنية إلى هذا الحد، الحد الذي كشف عنه استقصاء الرأي الذي أجرته BBC في 21 دولة، فلن يكون صعباً تصور حجم المشكلة التي تنتظر الوزيرة الجديدة. إذ قد تستطيع كوندوليزا - نظرياً على الأقل - إدخال تغييرات أو تحسينات على سياسات أميركية بعينها، ولكنها لن تستطيع، ولن تجرؤ على، إدخال تغييرات أو تحسينات على رئيس الدولة رغم أنه، عن حق أو بمبالغة، متهم في نظر قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي بالمسؤولية عن تدهور الأمن في العالم وعزل أميركا. هذا عن الرئيس، أما المرحلة فهي بالفعل ثورية. إن التحولات التي جرت في منظومة السياسة الخارجية وتلك التي حدثت في المنظومة الأمنية والتشريعات المقيدة للحريات الفردية وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي والضريبي لصالح الفئة الأقل عدداً والزيادة المروعة في نفوذ الشركات وتدخلها في صنع السياسة، كلها مجتمعة تجسد حالة ثورة يمينية متطرفة تعيد أميركا حسب رأي المحافظين الجدد، إلى مسارها الطبيعي وينهي فترة"الانحرافات الليبرالية". إلا أن أهم ما يميز هذه العودة اليمينية نزعاتها الإمبراطورية والدينية وارتباطها بالصهيونية متزامنة مع، وربما متسببة في، تغيرات في توازن القوى الدولي. ففي الغرب يتعرض الحلف لهزات مع استمرار صعود الاتحاد الأوروبي متدرجاً ولكن حثيثاً، ومع استمرار تباعد المواقف حول الحملة العراقية. ستحاول رايس تحقيق توافق أوروبي - أميركي رغم أنها، لا هي ولا رئيسها، مستعدان للاعتراف أمام الأوروبيين بأن الحملة العراقية كانت خطأ. ولعلها أشد عناداً في هذه النقطة من رئيسها أو هكذا بدت عند استجوابها من جانب لجنة الشؤون الخارجية. وسيكون بين أولويات اهتمامها، إلى جانب معالجة آثار الصعود الأوروبي الساعي الى الاستقلال النسبي عن الهيمنة الأميركية، التعامل مع صعود الصين. وغير مستبعد أن يكون اختيارها زولليك مساعداً لها من أجل أن يتفرغ للعلاقات مع الصين، وأغلبها يدور حول التجارة. وبالخبرة الأكاديمية والتجربة تدرك رايس أن روسيا نحو انحدار، ولذلك فالاستثمار الديبلوماسي في العلاقة معها عائده سيظل منخفضاً لمدة غير قصيرة، بينما الاستثمار الديبلوماسي والتجاري في العلاقة مع الصين سيكون عائده الأعلى بين كل عوائد السياسة الخارجية الأميركية في العقدين المقبلين، سواء نجحت أميركا في إبطاء الصعود الصيني أم التأقلم معه. وترث كوندوليزا عن جميع الإدارات الأميركية السابقة الثقة العمياء في أن أميركا اللاتينية مجتمعة أو دولاً منفردة لن تخرج عن طاعة الشقيقة الأعظم. غاضبون أهل أميركا اللاتينية، ولا من مهتم في أميركا الشمالية بهذا الغضب. الإشارة الوحيدة التي صدرت عن كوندوليزا خلال الأيام الأخيرة متعلقة بأميركا اللاتينية كانت للإعراب عن اشمئزازها من هوغو شافيز رئيس فنزويلا لأنه"يتعامل بفظاظة مع أجهزة الإعلام والمعارضة". وحين طولبت بأن تجد شيئاً إيجابياً واحداً في فنزويلا، قالت"صعب جداً أن أجد شيئاً إيجابياً". وكانت إجابة مهينة للشعب الفنزويلي الذي اختار شافيز رئيساً له في انتخابات أكد المراقبون وبينهم الرئيس الأسبق جيمي كارتر أنها كانت ديموقراطية حرة. يبقى الصراع العربي - الإسرائيلي، أو بتعبير يتناسب مع ما حققته السياسة الأميركية في عهد الرئيس بوش، النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، ويتفاخرون في واشنطن بأنه صار خلافاً على الحدود ليس أكثر، تتحدث كوندوليزا عن الدولة الفلسطينية فتقول إنها"يجب أن تقوم على مساحة من الأراضي تسمح لها بأن تكون دولة قابلة للاستمرار، ولا تكون ممزقة أو مقسمة بما يجعل من الصعب عليها أن تعمل كدولة". بمعنى آخر، لا تعترف كوندوليزا، أو لن تهتم، بقرارات شرعية دولية، أو بحدود 1967، أو بأي حدود قريبة من هذه الحدود. هنا يكمن الخطر، لأن السيدة كوندي غير معنية في ما يبدو إلا بوثيقتين اثنتين لا ثالثة لهما، الأولى خطاب الرئيس بوش يوم 21 حزيران يونيو 2002 ، والثانية التزام بوش لشارون يوم 14 نيسان أبريل 2004، تاركة"خريطة الطريق"لتزويق خطب المسؤولين العرب وتصريحاتهم. أما الاعتبار الثالث فيتعلق بشخصية كوندي. لقد نجحت كوندي في إقامة علاقة شخصية مع بوش وعائلته. كانت هذه العلاقة الدرع الذي احتمت به طوال مدة رئاستها لمجلس الأمن القومي ضد تجاوزات قادة البنتاجون واليمين الجديد، هذه العلاقة كانت أيضاً، وقد تستمر، أحد أسباب دماثة أعضاء الكونغرس حين يتعاملون معها. إلا أن هناك سبباً أهم يفسر هذه الدماثة غير المسبوقة من جانب لجنة تمتحن مرشحاً رئاسياً لوظيفة عامة كبرى. لقد برعت كوندوليزا رايس خلال السنوات الماضية في تقديم نفسها كأستاذة متميزة في العلوم السياسية تمتلك موهبة تخطيط أوراق سياسية وكتابتها لإرشاد صانع القرار. ثم إنها اشتهرت بذاكرتها القوية وشخصيتها النافذة ووفرة مبهرة في المعلومات. قيل لي إنها لا تتورع عن تصحيح معلومات الرسميين الأجانب عن بلادهم واطلاعهم على أمور تتداولها حكوماتهم ولا يعرفون الكثير منها أو عنها. هذه الخبرة أو سمعة هذه الخبرة، كانت كافية لأن يلتزم أعضاء لجنة الشؤون الخارجية موقع الدفاع عند استجوابها، حتى أن كوندوليزا بدت في أحيان كما لو كانت تلقن درساً في السياسة الخارجية لأعضاء اللجنة. وقد علقت صحيفة"نيويورك تايمز"على هذا الاجتماع فقالت إنه كان"كمسرح سياسي، تصرفت رايس كما لو كان كل شيء في السياسة الأميركية يسير وفق الخطط الموضوعة، فلا أخطاء ولا قصور، وتصرف أعضاء اللجنة كما لو أن رايس ليست طرفاً في مسلسل كوارث السياسة الخارجية". ولم تسمح لأعصابها بالفلتان ولم ترد بعنف إلا مرة واحدة حين اتهمتها عضو في اللجنة بأن ولاءها"للسلطة طغى على احترامها للحقيقة". ورغم إنكارها تجاهلها للحقيقة فقد تجاهلتها فعلاً في حضور اللجنة حين قالت كذباً إنه تدرب في العراق 120.000 رجل أمن عراقي، بينما أصر السناتور بايدن على أنه اكتشف بنفسه خلال زيارته للعراق أنه لم يتدرب أكثر من 4000. نجحت كوندوليزا في إحاطة نفسها بهالة من الرهبة وفرضت على الطرف الآخر شعوراً بالنقص تجاهها، وهو الأمر الذي يوفر لها رصيداً وخطوات متقدمة تسبق بها الخصم والند معاً حتى قبل أن تبدأ حوارها أو تفاوضها معهما. ويقول من يعرفها إنه يتوقع مشاهد تستحق التسجيل في محادثاتها المقبلة مع وزراء خارجية دول كثيرة ستتعامل معهم خلال السنوات الأربع المقبلة وستتعمد خلالها إبراز مهاراتها في التحليل واستعادة المعلومات. واستثمار شعور النقص أو الدونية لديهم. ورغم ذلك فستواجه كوندوليزا رايس صعوبات موضوعية، خارجية وداخلية، أكثرها شديد التعقيد، وبخاصة تلك المتعلقة بطموحات الرئيس بوش الشخصية وتصوره لدور تاريخي اختارته للقيام به حسب قوله قوى من بعيد..."من وراء النجوم". ولكن يحسب لهذا الرئيس أنه اختار لأهم منصب في إدارته من اجتمعت فيه الكفاءة والولاء والخبرة والعلاقات الوثيقة بأطراف تحالف القوى الذي يحكم أميركا في الوقت الراهن ويسعى إلى حكم العالم ويضع ثقته في أن تحقق له كوندي هذا الهدف. يبقى لنا أن نعترف أن هذا الاختيار أثار فضول الكثيرين ورفع توقعاتهم بأمل أن يكون قد حفز المسؤولين عن صنع السياسات الخارجية العربية على تقديم أداء أفضل. كاتب مصري.