تشاهد التلفزيون فتحدث لديك حالة يصفها علم النفس ب"محو العالم الحقيقي والدخول في حالة عقلية ايجابية او سلبية". وفي مصر اقتحم التلفزيون منذ زمن بيوت الاغنياء جداً والاغنياء ومتوسطي الحال والفقراء والمعدمين. والغالبية العظمى تشاهده كنوع من الادمان، ويطول الجلوس امامه، ويستغرق الجميع في مشاهدة المعروض، سيما الدراما التي تعد اكثر الاشكال والقوالب الفنية والمرئية التي تساهم في بناء صورة"الواقع". التلفزيون هذا الاختراع السحري العجيب يدفع المشاهدين دفعاً الى الاستغراق في الدراما المعروضة والمشاركة في الحدث بشكل يؤدي الى تعاطفه مع الشخصيات بغض النظر عن المضمون. فكم من مرة يتلقى هذا الممثل أو تلك الممثلة لعنات من ام محمد بسبب حبكة الدور الشرير، وكم من مرة اضطر عم حسين الى اغلاق الجهاز واللجوء الى القهوة لأن البطل لم يتصرف بالطريقة التي اعتبرها عم حسين الامثل في موقف معين. وإذا كان 95 في المئة من مشاهدي التلفزيون في مصر، يتابعون الدراما، سيما المسلسلات تبعاً لدراسة عنوانها"الدراما التلفزيونية وقضايا المرأة المصرية"في عام 2000... وإذا كانت دراسة اخرى عنوانها"صورة المرأة المصرية في الدرما التلفزيونية"اكدت ان الدراما هي اكثر القوالب الفنية تأثيراً في المشاهد العادي، وذلك باعتمادها النمط غير المباشر في تقديم الخبرات والنصائح، إذا كان الوضع كذلك، فكيف يكون الوضع في ظل إصرار الدراما العنيد على تنميط الصورة المقدمة دائماً وأبداً عن المرأة المصرية؟ "مركز نظم ووسائل الاتصالات التقنية من أجل التنمية"، و"مؤسسة المرأة الجديدة"، و"ميديا هاوس"ثلاث جهات تكفلت بإجراء دراسة حول صورة المرأة المصرية في الدراما المقدمة على شاشة التلفزيون المصري في عام 3002. الدراسة التي صدرت في كتيب أنيق قبل أيام اتخذت عبارة"نَمّط الصورة تطلع وحشة"عنواناً لها ليدل دلالة واضحة على الفحوى. رصد المسلسلات اعتمدت الدراسة على رصد خمسة مسلسلات هي"يوميات زوج معاصر"و"الناس في كفر عسكر"و"ثورة الحريم"و"العمة نور"و"الليل وآخره". شاركت في هذه الأعمال مجموعة متميزة من الممثلات والممثلين تحظى بشعبية كبيرة لدى المشاهد المصري والعربي. ولاحظت الدراسة استمرار ظاهرة كثرة عدد الوجوه الرجالية مقارنة بالنسائية 95 في المئة مقارنة بپ41 في المئة. أما الفئة العمرية الغالبة للجنسين فراوحت بين 20 و50 عاماً، فيما كان هناك تهميش نسبي للطفلة، ثم المسنات. أما على المستوى الوظائف التي شغلها أبطال وبطلات المسلسلات الخمسة، فتبوأت ربة البيت المكانة الأعلى نحو 30 في المئة واختفى وجود النساء في بعض المجالات مثل الكاتبة، والعاملة الفنية والعالمة. وظهرت خمسة في المئة من البطلات في أدوار خادمات، وهي النسبة التي بلغت نحو واحد في المئة بين الرجال. وتعلقت النسبة الغالبة من طموح المرأة في الدراما بالسعادة في حين تمحور طموح الرجل حول الجانب المادي. والطريف أن أحداث المسلسلات أكدت أن النساء أقرب إلى الطيش والهستيريا والتصرفات الهوجاء. أما الرجال فهم أكثر تحلياً بالرزانة كما تميزوا بالصوت الجهوري. وتفرد الرجال أيضاً - أو على الأقل تفوقوا بجدارة على النساء - بالعنف بجميع أشكاله، وإن تركزت غالبية الحالات في العنف الأسري الذي ظهر في هيئة عنف جسدي ومعنوي وجنسي. وكان الشكل المفضل للعنف هو دفع الآخر بعنف، بينما ارتفعت نسبة الإهانات والشتائم في العنف المعنوي، بالإضافة إلى التهديد بالإيذاء وقلت كثيراً أشكال العنف الجنسي. ولاحظت الدراسة الغياب شبه التام لرد فعل الضحية تجاه العنف. وكانت دراسة العام الماضي المشابهة التي صدرت تحت عنوان"معاً يمكننا مواجهة ثقافة العنف ضد النساء"، حذرت من أن"إبراز العنف على الشاشة يسهم كثيراً في تشكيل إدراك الناس للعنف، واعتباره أمراً من أمور الحياة العادية، بل سلوكاً يمكن محاكاته من دون مساءلة، سيما إذا كان يحدث في الإطار الأسري". ليس هناك من قضية أسرية أكثر من قضية الميراث التي تناولها مسلسل"ثورة الحريم"الذي يقال إن إنتاجه تم استجابة لمطلب من"المجلس القومي للمرأة"، وأن المجلس بذل جهوداً ليعرض أثناء رمضان ليحظى بمشاهدة عالية. وعلى رغم إيجابية فكرة تناول حق النساء المهضوم في الميراث، إلا أن الدراسة أخذت على المسلسل عدداً من الجمل التي تبدو في ظاهرها"مدحاً"للمرأة، لكنها تقليل من شأنها في الواقع. فمثلاً وردت الجمل التالية في السيناريو:"البنتين اثبتوا أنهم أرجل من رجالة السباعية كلهم"، و"والله يابت كنت واقفة زي أجدعها راجل"، والمعنى الضمني هو أن الرجال هم"الجدعان". كما أن الأنشطة التي مارستها النساء مقترنة في الأساس بالمنزل. وعمقت الحلقات مفهوم المرأة ذات الوظيفة الإنجابية بالإضافة إلى نزعتهن إلى التزين لإغراء أزواجهن أو تمضية الوقت في البكاء والعويل. و يشبه أحد مشاهد المسلسل حريقاً نشب في منزل بمحاولة اغتصاب سيدة، إلا أن هذا التشبيه الإيجابي خفت حين قال أحد الرجال:"بيت أخوكم إسماعيل حينحرق"، ما يشير إلى أن الاغتصاب يصيب شرف الرجل فقط. وبعيداً من الشرف المهدور، عالجت حلقات مسلسل"يوميات زوج معاصر"مشكلات الزواج الحديث. وعلى رغم أن مخرجة العمل امرأة هي شيرين عادل، إلا فإن التنميط بدأ من أغنية المقدمة، ومن كلماتها:"أنا زوج معدول، معووج، مبسوط، محروق، أنا زوج، خناقات، وأقساط، وصلات، فواتير، أرنبة بتخلف بالكذا فوج، غير ماكياجها وفساتينها، غير غيرة وشك، وعك ولوم". وتظهر الحلقات الزواج باعتباره شكلاً من أشكال القهر الواقعة على الرجال. فالزوجة الشابة متسلطة، أما الأمهات فيتسمن بطاعة الزوج الذي لا غنى عنه لحل المشكلات. وصنفت الدراسة مسلسل"الليل وآخره"باعتباره نموذجًا مثاليًا للمجتمع الذكوري. فالرجال مسؤولون عن العمل، بينما النساء يقمن بالإنجاب والرعاية بالإضافة إلى الإغراء. اذ تعنى النساء في المسلسل بالطهو والكي وتجهيز الحمام للرجل وربما خلع حذائه، وهي تصرفات تأتي في السياق كأنها طبيعية تماماً. وفي"الناس في كفر عسكر"بطولة صلاح السعدني ودلال عبدالعزيز، نرى شخصية فطومة التي لا تشبه في سلوكها كل النساء اللاتي نراهن عادة على الشاشة. إلا أن خروجها على النمط السائد جاء على هيئة ممارسات ذكورية، وهو الشكل الثالث من أشكال تنميط النساء في الدراما. والنمط الأول هو المرأة باعتبارها كيانًا خاضعًا ومستسلمًا وتابعًا، والثاني هو المرأة المغرية التي تنشر الفساد. وفي"العمة نور"المسلسل الذي أثار زوابع عنيفة وكان من بطولة الفنانة نبيلة عبيد، كانت الأسرة المصرية البسيطة نموذجاً كاملاً لأشكال التنميط السائدة في الدراما المصرية، سواء الأب أو الأم، أو البنات أو الأبناء. فالأب ينفق على الأسرة، والأم - رغم أنها موظفة - تصب اهتمامها كله على رعاية البيت والأبناء. والبنات يكررن النموذج النمطي في خدمة أنفسهن ومساعدة الأم. وترى الدراسة أن الكارثة الحقيقية في المسلسل هي شخصية العمة نور التي تمثل المُصلحة الآتية إلينا من الخارج محملة بالأفكار لإنقاذ الجميع. وتخلص الدراسة إلى أن أياً من الرجال أو النساء لم ينج من التنميط في دراما رمضان 2003. لكن الوجوه النسائية حظيت بنصيب الأسد، هذا بالإضافة إلى أشكال متنوعة من التمييز والعنف. وعلى رغم هذا التنميط، فإن الدراسة تشير إلى أن"التنميط أسلوب يلجأ إليه الإعلام على مستوى العالم. لكن قولبة البشر تعني اختصار الفروق بين الناس قد يصل إلى حبس فئات معينة في شكل أو شكلين. وهذا التنميط يسهم كذلك في تكريس الظلم الاجتماعي وغياب المساواة، ما يشجع على العنف الفردي أو الجماعي ضد جماعات بعينها".