كنت أشعر بالفرحة وأنا أرقب الأجيال المتعاقبة والتيارات المتباينة التي احتشدت في مسرح الأوبرا للاحتفاء بمرور مئة عام على ميلاد يحيى حقي، في صباح الاثنين العاشر من كانون الثاني يناير الماضي، فقد كان تآلف الأجيال واجتماع التيارات المتصارعة دلالة ناصعة على الأثر العميق الذي تركه يحيى حقي 1905- 1992 الذي ظل معروفاً بتسامحه وقبوله لكل اختلاف في الحقل الثقافي، ولم يتوقف عن رعاية الجميع والاحتفاء بالجميع، في الفعل الفكري نفسه الذي كان موازياً للفعل الإبداعي، وذلك في مدى اكتمال الشخصية التي أسهمت في صناعة النهضة الثقافية المصرية والعربية الممتدة. وقد أحسنت اللجنة العلمية التي رأسها الصديق خيري شلبي لتنظيم احتفالية المئوية الأولى ليحيى حقي، عندما اختارت"وجوه يحيى حقي"عنواناً للاحتفالية التي كانت تجسيداً للوفاء والقراءة المتجددة، فيحيى حقي رجل متعدد الأوجه، وهو - من هذه الناحية - يتصل بجيل الليبراليين العظام الذين ينتسب إليهم بأكثر من معنى. صحيح أن ستة عشر عاماً تفصل بين مولده ومولد كل من طه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني، كما أن سبع سنوات تفصل بين مولده ومولد توفيق الحكيم، لكنه - في التحليل الأخير - ينتمي فكراً ووجداناً إلى هؤلاء الليبراليين الذين نصفهم بأنهم أبناء جيل ثورة 1919 . ومن حسن الحظ أننا استمعنا إلى يحيى حقي بصوته ورأينا صورته في الشريط الذي عرض في بداية الاحتفال، وهو يتحدث عن ذكرياته المقترنة بثورة 1919 التي أسهم فيها شاباً، وظلت تحتل مساحة كبيرة من عقله ووجدانه، بل أسهمت في تكوين عقله ووجدانه. ولا غرابة في ذلك، فقد كان يحيى حقي يوشك أن ينهي دراسته الثانوية عندما قامت الثورة، فشارك فيها وهتف بشعاراتها، وسعى - في حياته العملية بعد ذلك - إلى تجسيد قيمها التي كان يبشر بها الجيل الذي سبقه بقليل، والذي انتسب إليه فأصبح واحداً منه. ولذلك فنحن عندما نتحدث عن جيل العقاد وطه حسين والمازني ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم نضع بينهم لا شعورياً يحيى حقي، ونجعله واحداً منهم في الإيمان بالمبادئ العقلانية والقيم الليبرالية التي تتصدرها قيم الحرية والمساواة والتقدم. ولما كان أبناء هذا الجيل دعاة نهضة في مجتمع متخلف، فقد كان عليهم أن يبذلوا الجهد في ميادين عدة، وأن يؤدوا وظائف متباينة، تسهم كلها في الارتقاء بمجتمعهم. وقد أخذ يحيى حقي عنهم هذه الخاصية التي تعددت بها أدواره الوظيفية اجتماعياً وإبداعياً. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يتصف يحيى حقي بالصفة التي جمعت أبناء هذا الجيل وهي صفة الموسوعية التي تضرب بسهم في كل علم، وتسهم في كل مجال من مجالات الثقافة. وكما كان كل من طه حسين والعقاد والمازني قصاصاً وشاعراً وناقداً أدبياً ودارساً للفنون بأنواعها المختلفة ومؤرخاً وكاتباً للمقالات، كان يحيى حقي مسهماً في كل هذه المجالات، لا يختلف عن الجيل متصفاً بكل هذه الصفات مجتمعة، فكان مثل جيل ثورة 1919 الذي انتسب إليه في تعدد الوظائف والمواهب، فعمل بالإدارة والسلك الديبلوماسي والتجاري، كما عمل في الحقل الثقافي، وتعددت أدواره الأدبية كما تعددت وظائفه، فكتب القصة القصيرة التي كانت مهوى فؤاده، والرواية القصيرة، كما كتب السيرة الذاتية وغير الذاتية، واللوحات القلمية، والنقد الأدبي والفني الموسيقى والسينما والفنون التشكيلية واستعاد أحداث التاريخ في كتابة كاشفة، كما ترجم الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية. وقد توَّج نشاطه الإداري في الثقافة، منذ أن عمل تحت رعاية فتحي رضوان في مصلحة الفنون التي كانت نواة لوزارة الثقافة، وكان ذلك حين استعان فتحي رضوان بكل من يحيى حقي وحسين فوزي للعمل معه، وأوكل إلى يحيى حقي مصلحة الفنون التي استعان فيها يحيى حقي باثنين من الجيل اللاحق، هما نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير. ولكن إذا كانت أفكار يحيى حقي الأساسية ورؤاه الفكرية تصله بجيل الليبراليين، في المدى نفسه الذي فرض تعدد الأدوار، فإن صغر سن يحيى حقي قد أتاح له ميزة لم تتح لأبناء الجيل الذي انتسب إليه، ومكَّنه من مشاهدة ما لم يشاهدوه والتأثر بما لم يتأثروا به، خصوصاً في أفق المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللاحقة التي كان أرهف تعبيراً عنها، بخاصة في تدافعها المتصل بكل من السلب والإيجاب الذي لا نزال نعيش آثاره إلى اليوم. وقد كنت - ولا أزال - واحداً من أشد المعجبين بيحيى حقي، والمفتونين بلغته التي لا تزال علامته المائزة، سواء في كتاباته الإبداعية أو النقدية أو الفكرية أو التأملية الاسترجاعية. وقد ظلت قضايا اللغة تحتل مساحة كبيرة من تفكيره وعنايته، تظهر آثار العناية بها في كتابته التي لا تعرف الإطناب أو المعاظلة أو الرخاوة، بل تعرف الدقة والتحديد واللفظ المصاغ بقدر المعنى، لا يزيد عنه ولا ينقص، وإيثار التشبيه على الاستعارة في مواطن الحكي التي يكمل بها التشبيه حضور السارد العارف بكل شيء والمنفصل عن التورط العاطفي في موضوع الكتابة. وكما اهتم يحيى حقي بكتابته الشخصية ورعاها، في مجالات الإبداع والفكر، اهتم بتوجيه الأدباء والمثقفين الشبان عموماً إلى ضرورة العناية بلغتهم، ووصل به الأمر إلى تصور أن الاهتمام باللغة هو مفتاح التقدم. ولغة يحيى حقي هي سر من أسرار تفرده الإبداعي، خصوصاً في الوجه الذي يشع بالضوء أكثر من غيره من الوجوه. أعني وجه الأديب الذي انطلق من حيث انتهى محمد تيمور، ومضى في الطريق الواعد للمدرسة الحديثة التي انتمى إليها. وهي المدرسة التي أكدت أهمية القصة القصيرة ومكانتها المتميزة في الإبداع، خصوصاً من حيث قدرتها على التكثيف الذي يقارب بينها والشعر في مدى تقديم المعاني الكثيرة بأقل ما يمكن من الألفاظ. وإذا كان الوجه الإبداعي هو الأكثر إشعاعاً بين أوجه يحيى حقي الكتابية، فذلك لأنه الوجه الذي يتسرب شعاعه إلى هذه الأوجه ويمنحها مناطق جذبها اللغوي بكل أساليبه التي لا تزال تحتاج إلى دراسات عدة مفصلة، سواء في تراكيب الفصحى أو المزج بينها والعامية أو بعث الألفاظ المهجورة بقوة السرد الذي ينفخ فيها من حيويته المتجددة. ولذلك فإننا عندما نتحدث عن كاتب السيرة مثلاً سنجد أن المبدع وراءه، وعندما نتحدث عن لوحاته القلمية لناس في الظل، بين دماء وطين، حيث يوجد الفقراء الذين انحاز إليهم في كل كتاباته، سنجد وجه المبدع حاضراً مؤثراً، طاغياً بخصاله اللغوية الفريدة. ولحسن الحظ أنني عرفت وجه المبدع منذ فترة مبكرة في حياتى، فشغفت به، وفتنت بروايته"قنديل أم هاشم"حين قرأتها للمرة الأولى، ولا أزال أقرأها، وأعاود قراءتها، حتى بعد أن عرفت بقية مجموعاته القصصية، ومنها رائعته"دماء وطين"التي لا أزال أراها عملاً متميزاً لا يفقد سحره الإبداعي وتفرده النادر بين بقية الأعمال التي ظلت"قنديل أم هاشم"أكثرها شهرة وإن لم تكن أكثرها في القيمة الفنية الخالصة. وقد اقترن الوجه الإبداعي ليحيى حقي بعدد من الصفات التي تنبثق إلى ذهني على الفور كلما ذكرته أو تذكرته في مدى القراءة والمعرفة الحميمة، فقد أسعدني الحظ بمعرفة الرجل والاتصال به لسنوات عدة، بدأت منذ أن نشر لي - من دون وساطة - مقالي الأول في مجلة"المجلة"التي كان رئيس تحريرها في أكثر مراحلها تأثيراً. وأولى الخصال التي أذكرها لهذا المبدع هي الجسارة الفكرية والإبداعية على السواء. أقصد إلى الجسارة الفكرية التي جعلته لا يكتفي بفقد المجتمع والانحياز إلى طبقاته الفقيرة والكادحة والمسحوقة، ومن ثم الانحياز إلى أهل الحارة الذين عاش بينهم منذ مولده في السيدة زينب، بل الانحياز إلى قيمتي الحرية والعدل اللتين هما قيمتان عزيزتان في وعي الجيل الليبرالي لأبناء ثورة 1919 . ولذلك لم يكن من المستغرب أن يناوش يحيى حقي بقلمه أشكال الفساد الاجتماعى وأشكال الظلم الموجودة في المجتمع، على امتداد السنوات التي ظل قلمه فيها فاعلاً ومؤثراً. ولم يكتف بنقد المجتمع بل جاوزه إلى نقد السياسة، خصوصاً بعد أزمة الديموقراطية في مصر سنة 1954 . ولذلك أصدر سنة 1955 روايته التي لم يلتفت إليها الكثيرون بعد، وهي"صح النوم"التي كانت عملاً رمزياً يتصدى بأسلحة الفن لتشكل الحكم الشمولي والاستبداد الذي يقترن بحكم الفرد، أو"الأستاذ"الذي كان قناعاً فنياً لرأس السلطة السياسية في ذلك الزمان، كما كان"الراوي"قناع الكاتب المتخفي وراء الأحداث. وأرجو أن تقرأ الأجيال الحالية هذه الرواية، وأن تتأمل الكيفية التي يتزايد بها الحضور القمعي لشخصية الأستاذ، خصوصاً وهو يتسلط شيئاً فشيئاً، ويتحول إلى مستبد، هو صورة أخرى من"الأخ الكبير"في رواية جورج أورويل الشهيرة. وقد مرت رواية"صح النوم"على سلطات الرقابة في وقتها، ولم يلتفت إليها الكثيرون في ذلك الوقت، أو لعلهم التفتوا إليها وصمتوا لأن الصمت أبلغ من الكلام أحياناً. ولا تتوقف جسارة يحيى حقي على نقده الاجتماعي أو السياسي فحسب بل تمتد إلى الجانب الإبداعي، حيث التجديد الذي يقتحم الآفاق المغلقة في وجه الكتابة المتمردة على الأعراف الجامدة. وأتصور أن الكثيرين من الذين تحدثوا عن الحداثة، أو لا يزالون يتحدثون عنها، سيجدون حضورها الباكر في كتابة يحيى حقي القصصية التي كانت طليعة للكتابة في زمنها. وسيجد الذين يتحدثون عن تيار الوعي والفلاش باك والاسترجاع وخلط العامية بالفصحى وتعدد الأصوات والانتقالات بين الزمن ما يبين عن حضور ذلك في كتابة يحيى حقى، خصوصاً في روايته القصيرة"البوسطجي"أو في بقية قصص مجموعة"دماء وطين"و"أم العواجز"وغيرها، الأمر الذي يؤكد جسارة الإبداع الذي لا يكف عن البحث عن تقنيات جديدة. وإلى جانب الجسارة التي شدتنى وأبناء جيلى إلى يحيى حقي، هناك خصال أخرى، أذكر منها خصلة المكر الطيب الذي كان علامة من علامات يحيى المائزة، ذلك المراوغ الذي كان يقول ما يصعب قوله صراحة بأرق قول ممكن وبابتسامة عذبة تقول الكثير مما لا تنطقه الشفتان. وكل من اقترب من يحيى حقي يعرف مكره الطيب، سواء في عبثه بطفيليي الأدب، أو نقده للشباب، أو فكاهاته - مقالبه - مع بعض من يحبهم، أو كتابته التي تلمّح من دون تصريح، فتفر من أنياب الرقابة ببراعة لا تعجزها مناوشة الأراقم، أو الأفاعي الهائلة، عملاً ببيت أحمد شوقى: "إن الأراقم لا يطاق لقاؤها/ وتنال من خلف بأطراف اليد". ولا شك في أن هذا المكر الطيب - عندما تحول إلى وسيلة فنية - دفع يحيى حقي إلى استخدام الرموز في المجالات الاجتماعية والسياسية والعقائدية للكتابة، وتبلغ البراعة في استخدام الرموز إلى الدرجة التي تجعل المعنى المقصود قائماً حتى لو لم يعرف القارئ الشخص أو الحدث المرموز إليه. وهو الأمر الذي تحتاج معه قصص يحيى حقي إلى قراءة المسكوت عنه في تجاوب السياقات، وإلى تحويل التلميح إلى تصريح موصول بوقائع وأحداث وأسماء بأعيانها. وحتى لو لم يعرف القارئ المرموز إليه، فإن فنية الكتابة تقوم بعملية تعويض بما تحققه من متعة فنية للمتلقي الذي يستخرج من الرموز دلالات عدة كاشفة، مقنعة وجداناً وعقلاً، حتى لو لم يكن من بينها الدلالة الأولى المقصودة التي كانت في عقل الماكر الطيب لحظة الكتابة. ولا يكتمل حضور أفق هذا البعد الرمزي إلا بالالتفات إلى عناوين قصص يحيى حقي أو كتبه بوجه عام، حيث تؤدي دوراً رمزياً كبقية الشخصيات التي تتحول إلى رموز تثير الابتسامة التي تدفع إلى التأمل. وليتذكر الذين قرأوا يحيى حقي ماذا فعل بشخصيات الكلاب في إحدى قصصه، عندما جعل من التهارش بين كلبتين وكلب تمثيلاً رمزياً للصراع الذي كان لا يزال موجوداً بين الذين ينتسبون إلى الأتراك ومن ثم الأرستقراطية، والذين ينتسبون إلى بسطاء الشعب المصري وفقرائه. ولا تكتمل خصلة المكر الطيب في تقديرى إلا بخصلة الساخر الذي لا تكف كتابته عن صوغ المفارقات التي توقف الذهن ليتأمل، ويدرك ناتج التأمل مع الابتسامة التي تثيرها المفارقة التي لا تكف عن مناوشة كل شيء. ولا أظن أن أحداً من الجيل الذي ينتسب إليه يحيى حقي يجاريه في سخريته كتابة وسلوكاً حياتياً. يمكن أن نتحدث عن سخرية إبراهيم عبدالقادر المازني بالطبع، لكن يحيى حقي طراز فريد في السخرية التي هي نمط وجود وطراز سلوك وخاصية أسلوبية في الوقت نفسه، ولذلك لا يستطيع قارئ يحيى حقي أن يتجاهل ظلم المجتمع، وخصائص السلب في البشر، وسوء ظن الأشخاص بأنفسهم أو حسن ظنهم بما لا أساس له من الواقع في حياتهم، تضاف إلى ذلك مفارقات التاريخ، وتفاوت الكتابة التي تبدو كأنها"كناسة الدكان"لكن من دون أن تفقد قدرتها على التقاط التفاصيل الدالة على عين لا تغفل عن الأوضاع المعوجة - مهما صغرت - في مدى الرؤية أو الإدراك أو القراءة. أما الخصلة الأخيرة التي لم أجعلها أخيرة إلا لأهميتها عندي شخصياً، وعند أبناء جيلي على السواء، فهي خصلة الأبوة الحانية، فقد كان يحيى حقي أباً حانياً لكل الأدباء والنقاد الشبان الذين اتصلوا به. ولم أر قبل يحيى حقي ولا بعده أديباً كبيراً ينطوي على هذا القدر من الحنو والتسامح والرعاية والتشجيع الذي لا يخلو من نقد. ولذلك لن نجد أديباً عربياً أو مصرياً كتب كل هذا القدر من المقدمات لكتابات الشبان كما فعل يحيى حقي. وقد كنت أظنه يتساهل - أحياناً - في كتابة هذه المقدمات من فرط حرصه على التشجيع، فيكتب تقديماً لمن لا فائدة ترجى من ورائهم، في ما كنت أتصور منذ سنوات بعيدة. وعندما كنا نعاتبه - نحن الذين نحبه ونضعه في موضع الأستاذية والأبوة - كان يجيبنا بعينيه الماكرتين الضاحكتين: إنه ينظر إلى البذرة فيرى فيها اكتمال الشجرة، بينما لا نبصر نحن سوى البذرة. وبالفعل، فإن كثيراً من الأصوات التي رعاها، والتي كنت سيئ الظن بمستقبلها، سرعان ما تبرعمت، وأخرجت من الأعمال ما جعل بذرة بدايتها شجرة مكتملة.